كيف تحوّل ربيع تونس إلى ربيع مسموم: فوضى واحتجاجات ودعوات لإسقاط النظام وإسقاط رموز الدولة الوطنية؟ وربما الأصح أن نسأل: كيف حوّلت السلطات الأخوانية الغنوشية ربيع تونس إلى ربيع مسموم؟ وهل من أجل ذلك قامت الثورة في تونس؟ وهل أحرق ''بوعزيزي'' نفسه ليصل ''الغنوشي'' وإسلاميوه إلى السلطة؟ تونس الغائبة الحاضرة في المشهد العربي تعيش الآن في ظل "الثورة المغدورة"، لأن كل ما نادى به الفقراء والعاطلون عن العمل ''وقود الثورة'' ذهب أدراج الرياح، وفي أحسن الأحوال ظل أحلاماً مؤجلة برسم المجهول الذي تسير نحوه البلاد، وفي وقت سابق، أعرب الاتحاد العام التونسي للشغل ومنظمات حقوقية أخرى عن دعم الاحتجاجات السلمية في مواجهة "سياسات التهميش والإفقار والتجويع"، متهماً الدولة بتبديد آمال الثورة. لقد تحوّل ربيع تونس على يدي حركة النهضة الأخوانية إلى ربيع إخواني سلفي ترهيبي، ففي تونس الخضراء، تونس الشعب المنفتح على الحضارة العربية والإنسانية، لم يرضَ أن يتقوقع وينكفىء في ظلّ نظام أخواني/ سلفي يضيّق الحريات، ويقيّد المفكرين والمثقفين، ويمنع الانفتاح والتجديد في مظاهر الحياة الشخصيّة والاجتماعيّة. لذلك تتالى المظاهرات اليوميّة المطالبة برفع سلطة المرشد "الغنوشي" عن الحكم وإبعاد الدين عن السياسة، والتخلص ممّا يسمى الإسلام السياسي، وجعل الشعب يقرّر مصيره وحكمه في إطار النظام السياسي/ الديمقراطي المنفتح على الآخر، بما يسهم في تقدّم المجتمع وازدهاره.‏
المشهد السياسي في تونس اليوم يعبر عنه في الشارع مرة أخرى وتكشف خباياه، فقد تغيرت الخارطة في تونس، ورسمت عكس ما يتمنى الثوريون وأصحاب الآمال العريضة بالديمقراطية والإنجازات والحضارة، عاد هؤلاء إلى بداية الطريق، إلى الشوارع أملاً بأن تنصفهم كما فعلت سابقاً، لا يرغبون بالانزلاق نحو مصير مشابه لما حدث لبعض جيرانهم الأفارقة ممن يشتركون معهم بالمصير. ينشد الثوريون في تونس نشيد ظلم أقسى وأشد بعد أن سلبت مقدراتهم الفكرية منهم، يرفضون التنحي خدمة للمتأسلمين والسلفيين الجدد، يرفضون إخلاء الساحات والإيحاء بأن شيئاً لم يحدث في تونس بعد الثورة، ربما كانت ثورة مزيفة أو الأصح أنها ثورة زيفها من جلس على عرش الحكم اليوم، لكنه لن يستطيع خداع التونسيين أكثر.  
لقد تعالت أصوات نشطاء وسياسيين تندد بالنهج الأخواني التخريبي الذي أطاح بمقومات الدولة، منددة في احتجاجاتها واعتصاماتها، بالنهج الأخواني التخريبي وسياسة التفقير التي مارسها زعيم التنظيم بالبلاد راشد الغنوشي طيلة 10 سنوات. فحركة النهضة الأخوانية كانت مشاركة في كل الحكومات المتعاقبة على البلاد بعد ولادة الجمهورية الثانية إما من خلال تشكيل الحكومة و رئاستها،  أو من خلال التواجد الوازن فيها. فحزب النهضة الأخواني لم يستوعب جوهر الثورة وقيمتها، لقد أضفى قراءاته الأيديولوجية على حدود الفقراء المهمشين، فحاد بالثورة عن مسارها الحقيقي، والتجاذبات السياسية التي يشهدها المشهد السياسي العام هو أحد الإفرازات المكشوفة. فحزب ''الغنوشي'' الأخواني لم يجتهد لا قولاً ولا فعلاً لمحاصرة هذا التجاذب الذي بدأ يتوسع ويتطور إلى معتقدات الناس ونمط عيشهم، يحدث هذا بإسم الثورة. وفي هذا السياق، اعتبر النائب عن التيار الديمقراطي زياد الغنّاي، أن الغنوشي هو رأس الأزمة السياسية في تونس منذ 10 سنوات على اندلاع الثورة التونسية، بينما شددت كتلة الحزب الدستوري الحر، الذي تقوده عبير موسي، على أن بقاء الغنوشي على رأس البرلمان "أصبح يمثل خطرا على الأمن القومي للبلاد يجب وضع حدّ له".
منذ سقوط حكم الرئيس زين العابدين بن علي في تونس أدركت حركة النهضة "جناح الإخوان المسلمين التونسي" أن الوصول إلى سدة السلطة في تونس هو أمر عسير فيما لو جرى اعتماد خيار "القفزة الواحدة" لذلك الوصول، الأمر الذي كان سيضعها بالتأكيد في مواجهة مباشرة أمام قوى ممانعة عديدة تعتد بإرث "البورقيبية" التي لا تزال تضرب جذورها عميقاً في الذات الجماعية التونسية كما يبدو، وفي المجمل فإن الحسابات كانت تقول إن هذا الإرث يعتد أيضاً بتيار ليبرالي واسع الطيف ومعه تيار إسلامي معتدل يتناقض في فهمه للإسلام مع البرنامج الذي تتبناه تلك الحركة. هذه القراءة التي تبنتها حركة "النهضة" هي التي دفعت بها إلى خيار "التمكين"، الذي يعني تعزيز مواقعها في مراكز القرار، ومن ثم محاولة إبعاد المناوئين لها من مراكز حساسة تفعل فعلها على مستوى الشارع ومؤسسات الدولة في آن واحد، والمؤكد أن هذا الخيار الأخير كان قد برز بشكل صارخ في غضون العام 2013 الذي شهد اغتيال كل من شكري بلعيد ومحمد البراهمي المحسوبين على التيار العلماني شديد العداء لمشروع الحركة، ولربما بات من الثابت اليوم أن هذه الأخيرة قد ابتنت في غضون السنوات القليلة السابقة ذراعاً مسلحاً سرياً لتنفيذ أعمال من هذا النوع في استنساخ دقيق لتجربة سيد قطب في مصر خلال العقد الممتد من منتصف الخمسينيات حتى منتصف الستينات من القرن الماضي.

بعد عشر سنوات من الإطاحة ببن علي،  تبدو تونس، وكأنها فقدت بوصلتها، ثمة شكوى دائمة من كل ألون الطيف السياسي التونسي من أن ثمة ميلاً لدى حركة النهضة الإسلامية (إخوان تونس) إلى فرض تصوراتهم الخاصة على الآخرين، ومحاولة تهميش وإقصاء كل من يعارضهم الرأي، حتى لو عن طريق العنف عبر ما يسمى "رابطات حماية الثورة"، التي ترى فيها المعارضة ميليشيات نهضوية لإرهاب الخصوم السياسيين، وإسكات أصواتهم. ولتقريب الصورة، فقد هددت حركة النهضة الأخوانية بصريح العبارة وضدا على الدستور والقانون، أنها ستلجأ لمليشياتها، دفاعاً عن نفوذ سلطتها، وبخاصة بعد تراجع عدد ناخبيها ـ حسب وسائل إعلامية تونسية ـ من مليون إلى 600 ألف ناخب في الانتخابات الأخيرة. ولتأكيد المؤكد، فقد هدد رئيس مجلس شورى حركة النهضة عبد الكريم الهاروني، الأربعاء 20/01/2021، باللجوء إلى "أبناء الحركة" لمواجهة الاحتجاجات الآخذة في التوسع والانتشار... وقال الهاروني، وهو من الموالين لرئيس الحركة راشد الغنوشي، إن "أبناء النهضة سيكونون في الميدان لحماية أمن التونسيين وممتلكاتهم الخاصة والعامة وحقوقهم ومعالجة المطالب المشروعة ومساندة القوات الأمنية في التصدّي للمخربين".

وللأسف الشديد، أنّ مثل هذه التصريحات والتهديدات، بمثابة دعوة صريحة للحركات السلفية لترويع الشعب، والمس بحرياته الاجتماعية التي تأصلت على مدى سنوات طويلة، ومحاولة العبث بالهوية الثقافية المنفتحة للمجتمع التونسي، وفرض هوية جديدة ذات رؤى منغلقة، عبر استخدام القوة، الأمر الذي يعني تأكيد غياب دور الدولة وقوة القانون. فحركة النهضة تتصرف بمنطق الجماعة والجهاز السري والميليشيات، ويبدو واضحاً أن هؤلاء يرومون إلى سيطرة حزبهم على أجهزة الدولة وأخونتها وصولا لتأسيس دولة دينية تنأى بنفسها عن كل شكل من أشكال الديمقراطية ليكون شعارها: العنف في حل الأمور السياسية أو معالجتها، وليس على الإطلاق إشاعة العدل والقانون واحترام آراء الآخرين وعدم استخدام العنف لفض المشاكل وسوء التفاهم بين المتحاورين وأصحاب السلطة عموماً...

والثابت عندنا، أنّ الإسلام السياسي يعدّ تاريخياً فاشلاً في إدارة الاقتصاد، لأنه لا يمتلك أي مشروع للتنمية، ففي عهده تراجع الاقتصاد التونسي بشكل مخيف، إذ زادت معدلات التضخم والبطالة وارتفعت الأسعار بمستوى غير مسبوق، في مقابل ارتفاع نسبة من وقعوا تحت خط الفقر، وتدني قدرة الدولة على تقديم الخدمات للمواطنين، بينما استمرت حركة النهضة في معالجة هذا الأمر بالطريقة التي ألفها الإسلاميون طوال حياتهم، وهي تقديم الصدقات السياسية، وهذه مسألة كان الناس يقبلونها منهم حين كانوا في المعارضة، ولكنها لم تكن مرضية على الإطلاق من سلطة تقدمت إلى الكراسي الكبرى تزف وعود مفرطة زائفة. لمّا كان الإسلاميون من حركة النهضة يفتقدون إلى أدنى درجة من الكفاءة في إدارة الدولة التونسية، وهي من أرقى الدول المركزية في العالم العربي، وعجزوا عن تسيير أمور الدولة، ولم يعترفوا بغياب هذه الإمكانية عنهم، بل كابروا وتصدروا المشهد الرسمي، ورفضوا فتح أي باب أو نافذة لتعاون أصحاب الكفاءات الحقيقية معهم، وتصرفوا وكأن الدولة أحد مشروعاتهم الخاصة، وفشلوا في تحقيق الأمن للمواطنين التونسيين، ورفضوا بناء أجهزة أمنية على أساس قيم الجمهورية والمواطنة، بل عملوا على تشكيل أجهزة أمنية موازية بعقلية حزبية ضيقة، فتنامت ظاهرة العنف السياسي في تونس بصورة لم تألفها البلاد في تاريخها المعاصر.
هذه بلا شك رسائل دالة على وضعية تونس حالياً، وتقييم لما آلت إليه الأوضاع بعد عشر سنوات من ثورة  يبدو أنها فقدت بوصلتها وضلت طريقها، واتجاهات الرأي العام تُجمع على أن التونسيين لم يجنوا من "ربيعهم" سوى تجربة ديمقراطية هشة وأوضاع اجتماعية أكثر هشاشة، واقتصاد منهك يقف على مشارف الإفلاس... فبعد عشر سنوات من تفجّر الانتفاضة على أيدي شباب من الجهات الداخلية المحرومة والأحياء الشعبية الأشد حرماناً، مطالبين بالعيش الكريم والحرية بعيداً عن أي شعار سياسي، ما زالت مطالبهم عالقة بعد أن سطت عليها أحزاب سياسية، غارقة في فوضى أزماتها وحساباتها، وفشل الحكومات المتعاقبة في الإصغاء إلى نبض الشارع.
هل هذا ما أراده التونسيون الذين فتحوا أبواب ما يسمى الربيع العربي؟ نحن هنا لا نشكك مطلقاً بحسن نيات التونسيين وصدق ثورتهم من أجل حياة ومستقبل أفضل، ومن أجل تونس أكثر استقراراً وأمناً، لكننا نحمل معهم المخاوف والقلق نفسه إزاء ذلك المستقبل الذي أرادوه ناصعاً، بينما حزب النهضة الأخواني السلفي ممن قَادَته المخططات الخارجية إلى واجهة المشهد، يريده مستقبلاً متطرفاً أسود، ويريد العودة بالبلاد إلى عصور الجاهلية... تونس حولها (النهضويون) إلى آثمة تحاسب على حريتها وأفكارها المتقدمة، وتوضع في رقبتها مشنقة متنقلة تقتلها في اليوم الواحد آلاف المرات. في تونس ما بعد الثورة، تعيش عاصمة الياسمين منذ سنوات مشكلات سياسية عميقة تسببت في إرباك قطاعات البلاد وأدت إلى أزمة اقتصادية حادة تفاقمت أكثر بعد انتشار فيروس كورونا وارتفاع معدلات الفقر والبطالة وتراجع مؤشرات النمو، في وقت تتنافس فيه القوى السياسية على حصد المناصب وتوسيع النفوذ بدل معالجة مشكلات البلاد المتناثرة.
ومن المهم والضروري العمل من أجل دعم وتعزيز تونس لمواجهة المحاولات المتتالية للعصف باستقرارها، وإثارة المشكلات والاضطرابات...، وإنه من الأهمية بمكان تضافر جهود الدول والشعوب الشقيقة من أجل تفويت الفرصة على أية جهات أو أطراف تريد استغلال هذه الفترة لإثارة الاضطرابات في هذه الدولة العربية، ومع التأكيد على احترام الشؤون الداخلية للدول الشقيقة والصديقة والالتزام بعدم التدخل فيها، إلا أنه من المؤكد أن ما يحدث في تونس يؤثر ويلقي بظلاله على الدول المجاورة، وهو ما يقتضي السعي والتعاون لمواجهة المخاطر الظاهرة والمستترة والتي تستهدف إثارة الاضطراب في المنطقة وإثارة الفوضى فيها، فهذا المناخ هو ما يخدم قوى التطرف والإرهاب والمتربصين بدول المنطقة وشعوبها.
*كاتب صحفي من المغرب