من لا يتألّم لما وصلت إليه الحالة الاقتصادية والسياسية في ليبيا، فليس عليه فقط أن يراجع جيناته الليبية، بل عليه أن يضع نفسه بذات الخانة مع الشامتين، كلاهما تنطبق عليهما الحكمة القائلة: من خلق ليزحف فلن يطير. إن الاحتجاجات الشعبية التي تشهدها ليبيا، لم تأت إلا بعد أن شعر الليبيون أن الظلم أوشك أن يُصبح أعدل الأشياء قسمة بينهم. وإزاء هذا القدر المتيقن، وبين أجسام سياسية ملَّكت ما لا تملك لمن لا يملك ولا يستحق، وأجسام سياسية أخرى استلمت المهمة وبنت سياساتها واستراتيجياتها على ما يأمر به الخارج... أعربت الأمم المتحدة عن قلقها البالغ إزاء المظاهرات التي شهدتها مدن ليبية بما فيها طرابلس وطبرق وبنغازي، مطالبة الجميع بضبط النفس. وعلى نفس المنوال أعرب الأمين العام لجامعة الدول العربية، أحمد أبو الغيط، عن قلقه إزاء تطورات الوضع في ليبيا...! نعم لقد اكتفت الأمم المتحدة والجامعة العربية بالإعراب عن ''قلقهما البالغ" إزاء تصاعد الاحتجاجات !  
وإزاء القلق الذي عبرت عنه الأمم المتحدة وجامعة العرب نقول، أنّ الإعراب عن القلق وحده لا يكفي للتعبير عن وجود أزمة في ليبيا، بل التفكير الجدي العلمي والواقعي في آلية إنهاء القلق ومعالجة أسبابه، واليوم نجد أن ليبيا والمواطن الليبي قلق، فحلحلة الأزمة الذي طرحتها الأمم المتحدة لم ينجح، والحلول الدونكيشوتية التي طرحتها جامعة العرب كلام ذهب مع أدراج الرياح، وأما هكذا انسداد سياسي، فقد بات مشهد تغيير كل الأجسام السياسية في ليبيا أمراً ملحاً، حيث أصبحت أصوات الشارع الليبي تتردد في معظم المدن الليبية، نابعة من إرادة شعب حر واعي مدرك لما يطالب ويعمل عليه، مطلب جماهيري عام، وتزداد أحقيته كون دافعه الضرورة والحاجة، وليس من باب التقليد، أو العدوى أو تنفيذ أجندات خارجية.‏ لقد عملت الحكومات المتعاقبة على حكم ليبيا ومنذ أكثر من 11 سنة، على خلق حاجز كبير بينها وبين الشعب الليبي، حتى باتت تعيش في أبراج عاجية، فيما الشعب يعيش في واد آخر مستبعداً عن مقدرات البلاد، والمشاركة في اتخاذ القرارات المصيرية.‏  
ولاشك أن من حق الشعب الليبي العيش بشكل لائق، وحياة كريمة، وما يجري في ليبيا اليوم، ليس وليد اللحظة، بل ردة فعل لتراكمات قديمة، ومطالب الحراك الشعبي بالتغيير حق، فالوضع اليوم في ليبيا أكثر كارثيّة عمّا كان عليه في عهد القذافي، نتيجة تَهَلْهُل مؤسّسات الدولة، ولا أَحَد يستطيع، حتّى أولئك الّذين خطّطوا وساعدوا على سقوط النظام اللّيبيّ السابق، أن يُحدّد مآل ما يحدث اليوم في ليبيا، لانتشار الميليشيات وطابع الصراع القبليّ وكثرة الثارات وغياب مشروع مُصالحة وطنيّة في المدى القريب. فالمتربصون بليبيا كثر، والطامعون بثرواتها أكثر، حيث لا يعنيهم المواطن الليبي إلا من منظور أنه صاحب ثروة لا يملك الأحقية فيها.‏
اليوم أصبح القلق حقيقياً وأكبر مما تتخيله كل الأجسام السياسية المتصارعة، فهل هم قلقون كما هو الشعب الليبي قلق منهم وعلى ليبيا من التقسيم والاقتسام رغم الآلام والدمار والفقر والافتقار، لكل متطلبات الحياة، ورغم الصبر والتصبر المحمول بين جنباتها ورغم النزوح واللجوء والهجرة قسرياً وإرادياً خوفاً وهلعاً من الإرهاب وبحثاً عن ملاذات آمنة ولقمة العيش، ورغم الهلع من حالات اللا انتظام، إلا أن الإيمان القديم الحديث كان ومازال بأن الدولة الليبية بحضورها ليس فقط سبباً رئيسياً لوجود المجتمع والمواطن الليبي، وإنما لحياته وعيشته وعيشه... كيف بنا ننهي القلق؟ إنّ المسؤولية الأولى والأخيرة على عاتق الشعب الليبي، فهو صانع المستقبل، فالحكومات التي تعاقبت على حكم ليبيا منذ أكثر من 11 سنة، كانت تحيا ليومها، من دون إعدادها لملفات المستقبل، واكتفت بتدوير أزماتها أو إلقاء تبعاتها على سابقاتها، ولو نظرنا في أزمات هذه الحكومات لوجدناها متشابهة، لذلك حملت صورة شمولية في أزماتها، وكأن كل شيء ينهار، مع الاعتراف بأن كل المطالب الشعبية محقة، تتحرك بعفوية لتصل شوارع المدن الليبية، وهي تطول كل شيء، وأهمها سبل معيشتها، فلا يهم أبناؤها ما يحصل مع أولئك المأزومين مالياً، إنما الذي يهمهم هو العيش بكرامة في بلد غني بثرواته، ولن تقدر أي حكومة ليبية الحفاظ على الجوع واليأس المولدين الرئيسين لأي خلل أو اضطراب، والمشكلين أيضاً لدواعي التخلي عن التهذيب وقواعد الالتزام، فالأصوات التي لا تسمعها حكومة طرابلس وسرت اليوم، قد تجدها غداً متحولة إلى أفعال جارحة لا يحمد عقباها. أجراس الغضب في ليبيا تقرع من أجل إحداث استفاقة للأجسام السياسية التي جثمت على قلوب الليبيين لسنوات، وعليها أن تعد العدّة للرحيل حتى تهدأ الأوضاع ويحدد موعد للانتخابات الرئاسية والبرلمانية.  
اليوم الصراع  في ليبيا واضح، وقضايا الشعب أوضح، غير ملتبسة، والملتبس فيها هو من يتهرب من مسؤولياته التاريخية، لضعف أو لتردد، أو ربما، لمساومة ما... لأن وجع الشعب الليبي مزمن يعود لزمن إنتظاري طويل، هو زمن طموح الشعب الليبي لحماية وتوظيف الثروات الليبية والى طموح الخبز والعلم والحرية، والى رفع كأس الإضطهاد والظلم والتهميش والتمييز والفقر والبطالة عن كاهله، وإلى طموح الإفراج عن العمل النقابي والسياسي والمدني دون خوف أو سرية أو تخوين... وإلى طموح نشر الثقافة الليبية الديمقراطية السياسية والاجتماعية. هذا، هو طموح الشعب الليبي، وهذا ما قام من أجله، وانتفض عليه، فهل القضايا المطروحة تشكل جرماً، أو خيانة وطنية، أو ما شابه ذلك؟  فالجواب الحقيقي لا يأتي من المأزومين الذين حكموا وعاثوا في ليبيا فساداً... وحده الجواب يأتي من الشعب الليبي صانع الثورة الحقيقية.
وإذا أردنا أن نقيس مدى الربح أو الخسارة الناتجة الاحتجاجات في عدة مدن ليبية وتزايد الدعوات إلى رحيل الأجسام السياسية، فإننا لا نجد ميزاناً منطقياً صالحاً لذلك، فلكل مفصل من حركة التاريخ مقتضياته، وما تشهده بعض المدن الليبية، لا بد أن يعقبه امتداد ولو بعد حين إلى مدن أخرى تعتقد أنها بمنأى عن حدوثه، وبالتأكيد ستختلف النتائج التي سيتمخض عنها، حسب وعي شعبها، وبعد أن يأخذ الصراع الدولي شكله النهائي حول ليبيا، ولا يستطيع أحد الآن أن يتكهن بالنتائج النهائية، ولكن من المؤكد أنها ستترك آثاراً بالغة الأهمية على المستقبل، فالأخطار المحدقة بليبيا كبيرة، كما أن الأمراض الاجتماعية التي تعاني منها ليبيا كثيرة. صحيح أن الحراك الشعبي الليبي لابد أن يحرك المياه الآسنة، ولكن في ليبيا شجرة بذرتها فاسدة، وثمارها التفرقة بشتى صنوفها من قبلية وعرقية وأيديولوجية، يرعاها الفاسدون من أبناء ليبيا وترويها الدول الطامعة بثروات ليبيا، لهذا وذاك فلا بد أن يسارع الشعب الليبي إلى قطعها قبل أن يأكل من ثمارها أبناء ليبيا، وهنا أستحضر قولا مأثوراً يقول: (من ثمارهم تعرفونهم).  
خلاصة الكلام: الحراك الشعبي الذي شهدته بعض المدن الليبية، والشعارات التي رفعها تطلب تغييرا في المنهج والسياسات والقرارات، وما سبقت الإشارة إليه من وقائع تكشف تباطؤا مقصودا وتدخلات واضحة في التدمير الاقتصادي والاجتماعي... وتعكس غربة وطنية في إدارة الدولة ومستقبل ليبيا، بلد النفط والغاز. وهو الأمر الذي يدفعنا للقول: إن لشعب ليبيا الحق في أن يحيا حياة كريمة تنتقل فيها من مفهوم الرعية إلى مفهوم المواطنة، بما تقتضيه شروط المواطنة، ولإنجاح هذه الغاية النبيلة لا بد من اعتماد لغة الحوار، ولا بد أن التمتع بقدر كبير من الوعي والتسامح. وقد قال تعالى في كتابه العزيز: (ادفع بالتي هي أحسن. فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم).

كاتب صحافي من المغرب.