منذ المناظرة التي أقيمت على هامش معرض القاهرة الدولي للكتاب عام 1992، تحت عنوان "مصر بين الدولة الإسلامية والدولة المدنية"، لم يتوقف الجدل حول مفهوم "الدولة المدنية". ترى ما قصة هذا المفهوم؟ وكيف ولماذا تواطأت حوله كل التيارات العربية من ساسة وأكاديميين وإعلاميين؟

حسب علمي، وبعد بحث استقصائي، لا وجود لهذا المفهوم إلا عند الناطقين باللسان العربي ومن ضمنهم الإسرائيليون المنافحون عن مفهوم "القومية اليهودية"؟

 منذ أعوام سألت أكأديميين في العلوم السياسية عن تعريف الدولة المدنية، وكانت إجاباتهم متطابقة مع تعريف الدولة العلمانية. وحين كنت أرد عليهم أن هذا تعريف الدولة العلمانية، وهو مفهوم متداول وله جذوره وسياقاته التاريخية، فما الذي يجبركم على استبداله بمفهوم لا تاريخ له؟ ومن خلال الإجابات فهمت أن التيارين المتعارضين توطآ حول المفهوم من باب التراضي، وهو تراض أقرب إلى التحايل والاحتيال: لا تستعملوا مفهوم "الدولة العلمانية" وبدورنا لا نستعمل مفهوم "الدولة الإسلامية".

وفي ضوء الجدل الذي يصاحب اليوم الدستور التونسي الجديد، ولاسيما حول التعديل الذي مس "الإسلام دين الدولة" واستبداله بـ"الإسلام دين الأمة"، أكتفي بطرح بعض التساؤلات على النخب الفكرية ومعها بعض الملاحظات:

لماذا انغمست الحركات القومية (Mouvements Nationalistes) في بلاد الشام وشمال أفريقيا في جدل حول "القومية العربية" بدل التأسيس لقوميات محلية: عراقية، سورية، مصرية، جزائرية، مغربية، تونسية........؟

لماذا هناك، في الجزائر وفي المغرب مثلا، جدل حول "الهوية الأمازيغية" و"القومية الأمازيغية" لا يختلف عن الجدل حول "القومية العربية" والقومية الإسلامية، بدل النقاش حول "الهوية الجزائرية" و"الهوية المغربية"؟

أولا: يحتاج الموضوع إلى الخروج من الالتباس المفهومي والنظري لعدد من المفاهيم المتداولة بوثوقية عمياء والتدقيق فيها والتمييز بينها وبين مفاهيم أخرى ذات صلة. فهناك من يخلط بين الحكومة والدولة، وبين النسق/السيستام والريجيم، وبين السلطة (Autorité) والقدرات (Pouvoirs)، وبين البلد والدولة وبين الوطن والأمة، وهلم جرا؛

ثانيا: نجد صفة المدني مقابل العسكري، أو الديني أو الإثني... في عدد من الأنشطة والمجالات: المجتمع المدني، الطيران المدني، الحرب المدنية، الأمة المدنية، الحماية المدنية، الحالة المدنية، المحكمة المدنية، الشرع المدني (Le droit civil)... وهي مفاهيم لها سياقاتها التاريخية وخلفياتها السياسية والقانونية والفكرية؛

ثالثا: لا يوجد في العلوم السياسية مفهوم "الدولة المدنية"، من منطلق أن الدولة مؤسسة كبرى تنطوي فيها عدة مؤسسات: البرلمان (يضم عددا من المنتخبين مختلفي المذاهب السياسية والدينية)، القضاء، الحكومة (تضم مؤسسات ووزارات تهتم بالتنمية، والاقتصاد، والتعليم والفلاحة، والأمن والدفاع....)، وبالتالي هي متعددة المظاهر والأنشطة (مدنية وغير مدنية: عسكرية، سياسية، اقتصادية، دينية....)؛

رابعا: الدولة-الأمة، الدولة الوطنية، الدولة القومية كلها مترادفات لمفهوم واحد هو (Etat-Nation)، غير أن أغلبية المثقفين الناطقين باللسان العربي يظنون أنها مفاهيم متمايزة؛

وفي الأخير، وطالما هناك جهل فادح بالمفاهيم والنظريات السياسية، فمن العبث تحرير دستور بمفردات ملتبسة. وحتى يكون النقاش حول فصل السياسة عن الدين، يجب أولا أن تكون لدينا "سياسة" و"دين" وبعد ذلك نفصل بينهما أو نجمع بينهما، ولأن بلداننا لا تتوفر على نخب فكرية تحيط علما بالسياسة، ولا نخب فكرية تحيط علما بالدين، فإن الدعوة إلى الفصل بين السياسة والدين تبقى ضربا من العبث.