يتوفر المغرب على عدد لا يستهان به من المدن العريقة كمراكش ومكناس والرباط وسلا ووجدة وتطوان وغيرها، غير أن فاس يمكن اعتبارها بحق أم الحواضر كلّها بفضل غنى تراثها وأهمية الأدوار التي قامت بها في الحياة السياسية والاقتصادية والروحية والعلمية. وتمثل هذه اللحظة العظيمة في التاريخ الوطني بداية التآلف بين الأصل الأمازيغي العريق والإسهام العربي والإسلامي، وشكلت بذلك لحظة بروز شخصية المغرب القوي بوحدته والغني بتنوعه. وظلت هذه الشخصية الفريدة والمركّبة حاضرة عبر القرون، وتبلورت من خلال إسهامات مؤثرة في تاريخ المجموعات الجغرافية والثقافية التي تتشكّل منها الهوية المغربية، ألا وهي العالم العربي ـ الإسلامي وإفريقيا والمتوسط. فمنذ تأسيسها من طرف المولى إدريس الثاني كعاصمة لدولته ودعائه لها بالدوام والازدهار، ضلّت فعلاً منبراً يُذكر فيه إسم الله ومناراً يشع منه العلم وروح الابتكار والإبداع.

وبالرغم من تقلبات الزمن وضغط الناس، فإنّها استطاعت أن تصمد وتقدّم أحسن نموذج للمدينة العربية الإسلامية في شكلها العمراني وتنظيمها الاجتماعي والاقتصادي. ولا غرو إذاً أن يزخر مجالها الأصيل بمئات المآثر التي بلغت ذروة الروعة والعظمة والإتقان، نذكر بعضا منها كمدرستي البوعنانية والعطارين وضريح المولى إدريس وجامع القرويين.

فمن الصعب أن نذكر كل المآثر التي تناهز 700 مسجداً وجامعاً وحوالي 400 من القصور والدور الكبرى الجميلة. لكن فاس العتيقة ليست مجموعة من المآثر المنعزلة بقدر ما هي نظام حضاري متكامل، شاهدٌ على نمط عمراني عربي إسلامي ونظام اجتماعي واقتصادي لا زالت معظم جوانبه صامدة عبر العصور، من هنا يتضح  فعلا  أنّ فاس تراث إنساني عالمي كما أقرت ذلك منظمة اليونسكو على لسان أمينها السيد مختار أمبو في ندائه سنة 1981، ويؤكده احتضانها للمؤتمر الدولي الثاني لمدن التراث العالمي، الذي انعقد بها في بداية شهر شتنبر 1993 وانبثق عن ميلاد  ''منظمة مدن التراث العالمي''.

غير أن فاس ليست تراثاً جامداً، بل ما فتئت تبهر الدارس والمهتم والزائر بحيويتها وقدرة بناياتها على التطور ومسايرة  متطلبات مختلف العصور دون أن تتخلى عن أصالتها. فهذا شأن الصناعة التقليدية التي لا زالت تتطور بفضل عبقرية صانعها رغم الأزمات التي مرت منها خلال القرن العشرين، وكذلك الشأن بالنسبة لجامعة القروييّن ـ وهي أقدم جامعة في العالم ـ التي تغيرت هياكلها وأنظمتها التعليمية، متشبثة بأصالتها منفتحة على الحاضر والمستقبل.

إن مدينة فاس من هذه الأهمية يصعب تقديمها في أسطر معدودة، لهذا تهدف هذه الدراسة إلى الإشارة لأهم العناصر التي ساعدتها على وضعها في مكانها الحقيقي ضمن حواضر المغرب، وتلتمس موقعها من الحضارة الإنسانية. فالدّور الثقافي الذي لعبته جامعة القروييّن عبر العصور كان دوراً إيجابياً يحمي الثقافة من الانهيار ويبعد عنها العبثية ويحفظها من الضحالة والجمود ويجعلها قابلة للأخذ والعطاء ومن ثم أصبحت هذه الجامعة رمزاً للتواصل الإسلامي عبر القارات تستورد ماجَدّ من المعارف وتُصدّر ما بلغت إليه من الاجتهادات فكانت بسبب ذلك خير رابط يربط بين المسلمين في مختلف بقاع الأرض.
والتاريخ الذي بني فيه جامع القروييّن لا شك أنه أقدم من تاريخ بناء الأزهر الذي كان سنة 359هـ. فقول الأستاذ فريد وجدي في دائرة المعارف: ''إنه أقدم مدرسة في العالم بعد مدرسة بولونيا بإيطاليا فقد تقدّمته بأكثر من أربعة قرون'' غير صحيح ـ لا بالنسبة للقروييّن كما رأيت.. ولا بالنسبة إلى كلية بولونيا المذكورة.. لأن تأسيسها إنما كان سنة 1119م أي بعد الأزهر بنحو قرن ونصف.

أضف أن مقابل تاريخ بنائه من الميلادي يكون حوالي 970 وحينئذ فترتيب هذه الجامعات في القدم يكون هكذا: القروييّن فالأزهر فجامعة بولونيا. وكان الجامع الذي شيّد في 859 ميلادية (245 هجرية) مهدّدا بالتصدّع الناتج عن الإهمال الذي كان عرضة له خلال عقود من الزمن، إذ تعود آخر أشغال الترميم فيه إلى حقبة الحماية الفرنسية، وتركت عوادي الزمن شقوقاً وتدهوراً في بنيات الجامع وأسسه وتسرّب مياه المطر إليه ومشكل الرطوبة وقدم خشبه والانتشار الفظيع للفطريات بمختلف جنباته بما في ذلك قاعة الصلاة التي كانت تستغل أيضاً في تدريس الطلبة.

أمّا الآثار المادية فنجدها أوّلا في سجلات الأوقاف المسمّاة في المغرب ''بالحوالات'' التي سجلت ما بقي من أملاك وعقارات أوقفها أهل المبرة والإحسان على ''القروييّن'' وعلمائها وطلبة العلم بها... كما نجدها في هيكل المسجد القائم أمامنا، في منارته المسماة في المغرب ''الصومعة'' و''المئذنة''  وكذلك في مياهه المتدفقة، وجدرانه، وسواريه ومحرابه وثريّاته، وأبوابه ومقصورته، وخزانته ومستودعاته وسائر المرافق المضافة إليه، والتي زاد عددها على مر الأجيال، وتعاقب الدول.

فإذا استنطقنا أثراً من هذه الآثار أجابنا بلسان الحال، وبلسان المقال أيضا ''بواسطة المؤرّخين'' عن الجهة التي جاء منها والفكرة التي يرمي إليها والتي أسس من أجلها. فالصومعة القائمة إلى الآن تنتمي إلى الحضارة الأندلسية في القرن الرابع الهجري والعاشر الميلادي، على عهد الحجابة العامرية في قرطبة التي امتد نفوذها إلى المغرب وإلى مدينة فاس أيام الصراع بين الفاطميين والأمويين...! وتشكل هذه الصومعة مع شقيقتها صومعة مسجد عدوة الأندلس أثراً أندلسياً فريداً في فاس تحدى عوامل الزمن في التغيير والإبادة والاندثار.

وما زالتا إلى الآن فريدتين بمظهريهما وشكلهما وميزتهما عن الصوامع الأخرى، شامختين في أناة ووقار منذ ما يزيد على ألف سنة...! والتجهيز الميقاتي لهذه الصومعة ''في غرفة المؤقت بها'' تجهيز يشهد بالتسلسل الحضاري والتاريخي في ميدان رصد الأوقات، وتحديد الآذان تحديداً زمنياً مدققاً في الليل والنهار. وبعض هذه التجهيزات يرجع إلى عصر دولة بني مرين، ثمّ إلى العصور التي تليه ولا شك أنّه كانت تجهيزات وأدوات أخرى استعملت لنفس الغاية فيما قبل عصر بني مرين، ولعلها بادت...! ومن المعلوم أنّ كلمة ''المكُانة أي الساعة'' كانت مستعملة وما تزال إلى الآن في المغرب لجهاز ضبط الأوقات ولا مجال للحديث الآن عن أصل حروفها حتى صارت تنطق بهذه الصيغة... ويكفينا أن نشير إلى أنّ أجهزة الرصد كانت متعددة تشمل الأسطرلاب والصفيحة والربع، وأنّ ''المكانة'' أي الساعة، كانت متعددة من ذوات الرمل، وذوات الماء، وذوات الحركة الذاتية، وذوات  الدولاب...!

ولقد سجل التاريخ الحضاري ميزة أخرى لهذه الصومعة حيث أنّ هناك في الحوالات أوقافاً على جماعة من المؤذنين يحيون بالتناوب والتعاقب ساعات الليل صيفاً وشتاء، بالإنشادات والأذكار، والتوسلات، والأدعية لإيناس المؤرّقين من ألم أو حزن، والساهرين لعمل أو حراسة...

وإذا استنطقنا المحراب وما حوله طولاً وعرضاً وجدنا دولة المرابطين. ودولة علي بن يوسف بن تاشفين بالخصوص هي التي قامت بإعادة بناء المسجد وتوسيع رقعته وإعطائه هذا الهيكل. وهذا المظهر الذي يبدو به إلى الآن... ففي ظلال هذه الدولة قوّست هذه الأقواس، وبنيت هذه السواري وقبّبت هذه القباب وصنع هذا المنبر الأثري. وزائر المسجد الآتي من الصحن عن طريق ''العنزة'' يقصد المحراب يمرّ تحت ستّ قباب جلّها ''مقربص'' إلى أن يصل إلى المحراب فيجد قبة فخمة وزخرفة عظيمة القيمة الفنية، كما يجد ''شمسيات'' ذات زجاج ملوّن يسمّى في المغرب ''العراقي'' مع كتابات كوفية جدّدت مرات إلا أنّها  ما تزال تحتفظ بتاريخ العمل الذي عمله المرابطون في هذا المسجد العظيم وهو سنة 531 هـ على عهد علي بن يوسف بن تاشفين...

ومنبر القرويين يعدّ أقدم منبر موجود بالمغرب والنقوش التي يحملها تعدّ أنفس وأثمن نقوش بقيت في رصيد المغرب الحضاري. وقد تعاونت على إنجازها مواهب مغربية وأندلسية في عصر كان علم الوحدة يخفق على القطرين، فجاءت رائعة حقاًّ، ولاسيما تلك الآيات القرآنية الكريمة التي كتبت بنقوش من عاج على خشب المنبر.

فعمل المرابطين في القرويين عمل تاريخي حضاري مدهش حقاً، وإذا كان تأسيس المسجد تمّ سنة 245 هـ على يد السيدة المحسنة أم البنين القيراونية في العصر الإدريسي... فإنّ هيكله الذي يبدو به الآن أمامنا هو من عمل علي ابن تاشفين الذي أراد أن يخلد هذا العمل.

ومن المعلوم أن القرويّين لأول بناءها لم تكن على ما هي عليه اليوم من السعة والفخامة، فقد زيد فيها الكثير، وجدّد بناؤها مراراً، وأولى الزيادات كانت في أيام دولة زناتة سنة 307هـ، ثم في أيام عبد الرحمن الناصر الأموي خليفة الأندلس الذي دانت له البلاد ردحاً من الزمن. وقع تحديد لبناء القرويين وزيادة أخرى فيه وذلك سنة 354هـ، ثم كان إصلاح جديد في أيام المنصور ابن أبي عامر حاكم الأندلس وحاجب الخليفة هشام بن الحكم سنة 388هـ. ثم في دولة لمتونة في أيام أمير المسلمين علي بن يوسف ابن تاشفين نقض المسجد كلّه وزيدت فيه زيادة مهمّة من جميع جهاته واحتفل في بنائه وزخرفته إلى الغاية وكمل سنة 538هـ أي بعد وفاة أمير المسلمين علي بن يوسف بسنة.

ولما ملك الموحّدون فاس سنة 540هـ خاف فقهاء المدينة وأشياخها أن ينتقد عليهم الموحّدون النقش والزخرفة التي فوق المحراب لقيامهم بالتقشف والتقليل، وقيل لهم إن أمير المؤمنين عبد المؤمن بن علي يدخل غداً المدينة مع أشياخ الموحّدين بقصد صلاة الجمعة بالقرويين، فأتى الحمّامون الجامع تلك الليلة وغطّوا على ذلك النقش والتذهيب الذي فوق المحراب وحوله بالورق ولبسوا بالجصّ ودهن بالبياض فاختفى أثر ذلك ولم يبق ظاهراً إلاّ البياض.

ولما كان كلامنا هنا يساق إلى القرويّين، فلابد أن نقف عند  المدارس، وهي بيوت الطلبة الملحقة بجامعة القرويّين: فإن من أقدم ما بني منها مدرسة الصفارين التي أسسها أمير المسلمين ابن تاشفين حوالي منتصف القرن الخامس الهجري450 هـ... ومدرسة العطارين التي بناها السلطان أبو سعيد عثمان بن يعقوب بن عبد الحق... ومدرسة أبي عنان... التي تعدّان قطعتين خالدتين من فنّ العمارة والنقش والتخريج والتزويق المغربي، وقد تلحق بهما مدرسة الشراطين التي بناها مولاي رشيد من ملوك الدولة العلوية. أما غير هذه المدارس فإنها وإن لم تكن مثلها في بداعة الشكل وجمال الصنعة إلاّ أنها لا تقل عنها فخامة بناءً ورحابة فناء.

هذه العناية الفائقة بالقروييّن والاهتمام البالغ النهاية بأمره من الشعب ثم من الحكومة في كل عصر وفي كل دولة، تدلنا على ما كان له من مكانة سامية في النفوس منذ عهد تأسيسه... وما كان يخص به من الاحتفال والاهتمام دون بقية المساجد الأخرى. وإلا فأخوه وشقيقه جامع الأندلس الذي بنته ''مريم أخت أم البنين وشقيقتها'' لم يظفر بعشر مما ظفر به هو من ذلك، بل إنه ما لبث أن غطى على جامع الأشراف الذي أسّسه المولى إدريس ثاني ملوك الدولة الإدريسية ومختط فاس وبانيها سنة 192هـ فنقلت خطبة العدوة القروية من مسجد الأشراف المذكور إلى القرويّين وأصبح هو المسجد الجامع في تلك العدوة كلّها.

وابتدأ نجم القرويّين يلمع في سماء العلم منذ أواخر القرن الثالث وأوائل الرابع يبلغ النصف حتى كان مثل ''عبد الله بن أبي زيد القيرواني'' صاحب الرسالة والنوادر والذي يعرف بمالك الصغير يشد الرحلة إلى أحد رجاله وهو دراس بن إسماعيل المتوفى سنة 357 هـ، وفي هذا العهد كان أيضاً أبو جيدة ابن أحمد وهو فقيه فاس ومحرّرها من سطوة عامل المنصور بن أبي عامر... ولا شك أنه كان أحد أساطين هذه الكليّة وممّن عملوا على رفعة شأنها وعلوّ قدرها.

وتتوالى حلقات السلسلة حتى تصل إلى العصر الحاضر مؤلفة من رجال وقفوا حياتهم على خدمة التشريع الإسلامي تحت راية الإمام مالك وأصحابه، فبلغوا به الغاية التي ما بعدها غاية في الكمال، وطارت لهم شهرة مطبقة في أرجاء العالمين الشرقي والغربي. فما منهم إلا إمام فتوى ومجتهد مذهب... مثل الفقيه ابن عمران الفاسي المتوفى سنة 430هـ... والفقيه ابن محمد صالح المتوفى سنة 631هـ... والفقيه راشد الفاسي المتوفى سنة 675هـ... والفقيه أبي الحسن الصغير المتوفى سنة 719هـ... والفقيه أبي عمران العبدوسي المتوفى سنة 776هـ... والفقيه القوري المتوفى سنة 872هـ... والفقيه المشارك أبي عبد الله بن غازي المتوفى سنة 917هـ... والفقيه أبي علي بن رحال المتوفى سنة 1140هـ... والفقيه الرهوني المتوفى سنة 1230هـ وغيرهم.
 
وفي الحقيقة أن أكثر الجهود في الكلية في كل عصر كانت موجهة إلى هذه الناحية من التعليم، ومعظم إنتاج رجالها كان في هذا العلم، علم الفقه وما إليها على مذهب مالك رحمه الله حتى ليصح القول إن أهل كل بلاد لم يخدموا مذهبهم بقدر ما خدمه أهل المغرب... وإن المذهب المالكي لم يصل إلى ما وصل إليه من الخصب والنماء والنضوج، حتى أن أتباع غيره من المذاهب ربما اضطرّوا إلى الأخذ عنه والاقتباس منه كما في بعض قوانين المحاكم الشرعية بمصر، إلا بفضل القروييّن وما أبدوه من الهمّة الصادقة في هذا السبيل.

وأخيراً وليس آخر،  فقد قامت جامعة القروييّن بأدوار عظيمة في الماضي من نشر الثقافة العلمية وتأدية رسالة العربية، ولهذا لا يستغرب أن يؤمها الطلبة من أقصى بلاد أوروبا وغيرها، فهناك في تلك العصور التي يدعونها عن حق ـ بالعصور المظلمة ـ لم يكن قد تقرّر للعلم مدلول بعد... وقد اشتهر كثير ممن درس فيها من الأجانب وكان لهم تأثير قوي على العقلية الأوروبية في ذلك الحين، ومن أعظمهم البابا سلفستر، الذي هو أول من أدخل إلى أوروبا الأعداد العربية.