المشهد السياسي في تونس اليوم يعبر عنه في الشارع، وتكشف خباياه، فقد تغيرت الخارطة في تونس، ورسمت عكس ما يتمنى الثوريون وأصحاب الآمال العريضة بالديمقراطية والإنجازات والحضارة، عاد هؤلاء إلى بداية الطريق، إلى الشوارع أملاً بأن تنصفهم كما فعلت سابقاً، لا يرغبون بالانزلاق نحو مصير مشابه لما حدث لبعض جيرانهم الأفارقة ممن يشتركون معهم بالمصير. ينشد الثوريون في تونس نشيد ظلم أقسى وأشد بعد أن سلبت مقدراتهم الفكرية منهم، يرفضون التنحي خدمة للمتأسلمين والسلفيين الجدد، يرفضون إخلاء الساحات والإيحاء بأن شيئاً لم يحدث في تونس بعد الثورة، ربما كانت ثورة مزيفة أو الأصح أنها ثورة زيفها من جلس على عرش الحكم اليوم، لكنه لن يستطيع خداع التونسيين أكثر.
فكيف تحوّل ربيع تونس إلى ربيع مسموم: فوضى واحتجاجات ودعوات لإسقاط النظام وإسقاط رموز الدولة الوطنية؟
في تصريح، قال الناطق الرسمي باسم المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية رمضان بن عمر أن نسق الاحتجاجات خلال الربع الأول من العام الحالي، شهد ارتفاعاً في عدد الاحتجاجات بـنحو 1.801، مقارنة بالربع الأول من سنة 2020. وذكر بن عمر أنه تمّ تسجيل 3.865 تحرّكاً احتجاجياً خلال الربع الأول من السنة الحالية. منذ 14 كانون الثاني (يناير) 2011 اكتسبت تونس تقليداً جديداً يتمثّل بتجدّد الاحتجاجات في الشهر الأول من كل عام، حتى أن السلطة السياسية أصبحت تستعد لهذا الشهر، لكن في العام 2021 تفجّرت احتجاجات مرتفعة النسق من حيث عددها وحدّتها... ربما نجحت السلطة السياسية في تونس نسبياً في كبح جماح هذه الموجة من التحرّكات بانتهاج الحلّ الأمني والاعتقالات والتخويف كأسلوبٍ للتعاطي مع المُحتجّين، لكنها في الوقت نفسه، بهذه الطريقة، تكون بصدد المساهمة في إنتاج تراكمات قد تُسبّب انفجاراً اجتماعياً خطيراً، خصوصاً في ظل تداعيات فيروس كورونا والذي أفقد الآلاف وظائفهم حتى ارتفعت نسبة البطالة من 15.3 في المائة  قبل الجائحة إلى 17.4 في المائة حسب المعهد الوطني للإحصاء.
وربما الأصح أن نسأل: كيف حوّلت السلطات الأخوانية الغنوشية ربيع تونس إلى ربيع مسموم؟ وهل من أجل ذلك قامت الثورة في تونس؟ وهل أحرق ''بوعزيزي'' نفسه ليصل ''الغنوشي'' وإسلاميوه إلى السلطة؟ تونس الغائبة الحاضرة في المشهد العربي تعيش الآن في ظل "الثورة المغدورة"، لأن كل ما نادى به الفقراء والعاطلون عن العمل ''وقود الثورة'' ذهب أدراج الرياح، وفي أحسن الأحوال ظل أحلاماً مؤجلة برسم المجهول الذي تسير نحوه البلاد.
لقد تحوّل ربيع تونس على يدي حركة النهضة الأخوانية إلى ربيع إخواني سلفي ترهيبي، ففي تونس الخضراء، تونس الشعب المنفتح على الحضارة العربية والإنسانية، لم يرضَ أن يتقوقع وينكفىء في ظلّ نظام أخواني/ سلفي يضيّق الحريات، ويقيّد المفكرين والمثقفين، ويمنع الانفتاح والتجديد في مظاهر الحياة الشخصيّة والاجتماعيّة. لذلك تتالى المظاهرات اليوميّة المطالبة برفع سلطة المرشد "الغنوشي" عن الحكم وإبعاد الدين عن السياسة، والتخلص ممّا يسمى الإسلام السياسي، وجعل الشعب يقرّر مصيره وحكمه في إطار النظام السياسي/ الديمقراطي المنفتح على الآخر، بما يسهم في تقدّم المجتمع وازدهاره.‏ ولتأكيد المؤكد، فقد أكد الرئيس التونسي قيس سعيد، أن "العقبات الموجودة هي من الداخل"، مشددا على أنه "سيتحمل مسؤوليته لإيجاد الحل". وقد تحدث "سعيد" عما أسماه "المناورات والمؤامرات التي فاقمت مظاهر البؤس والفقر"، قائلا إن تونس انتقلت "من الحزب الواحد، إلى اللوبي الواحد، لا سيما وأن رئيس الجمهورية منتخب من الشعب، وأن النظام والحكومة يفترض أنهما منبثقان عن الأغلبية". وتحدث "سعيد" عن الشباب، قائلا: "إنهم طاقة مهدورة في ظل عدم تمكينهم من الآليات القانونية لتفجير طاقاتهم"، داعيا إلى ضرورة خدمة البلاد من منطلق المسؤولية ضمن مقاربة تساير خصوصيات المرحلة التاريخية الجديدة لتونس، "والتي تتطلب تغيير الكثير من المفاهيم التي ترسخت، وعفا عنها الزمن"، وفق تعبيره.
منذ سقوط حكم الرئيس زين العابدين بن علي في تونس أدركت حركة النهضة "جناح الإخوان المسلمين التونسي" أن الوصول إلى سدة السلطة في تونس هو أمر عسير فيما لو جرى اعتماد خيار "القفزة الواحدة" لذلك الوصول، الأمر الذي كان سيضعها بالتأكيد في مواجهة مباشرة أمام قوى ممانعة عديدة تعتد بإرث "البورقيبية" التي لا تزال تضرب جذورها عميقاً في الذات الجماعية التونسية كما يبدو، وفي المجمل فإن الحسابات كانت تقول إن هذا الإرث يعتد أيضاً بتيار ليبرالي واسع الطيف ومعه تيار إسلامي معتدل يتناقض في فهمه للإسلام مع البرنامج الذي تتبناه تلك الحركة. هذه القراءة التي تبنتها حركة "النهضة" هي التي دفعت بها إلى خيار "التمكين"، الذي يعني تعزيز مواقعها في مراكز القرار، ومن ثم محاولة إبعاد المناوئين لها من مراكز حساسة تفعل فعلها على مستوى الشارع ومؤسسات الدولة في آن واحد، والمؤكد أن هذا الخيار الأخير كان قد برز بشكل صارخ في غضون العام 2013 الذي شهد اغتيال كل من شكري بلعيد ومحمد البراهمي المحسوبين على التيار العلماني شديد العداء لمشروع الحركة، ولربما بات من الثابت اليوم أن هذه الأخيرة قد ابتنت في غضون السنوات القليلة السابقة ذراعاً مسلحاً سرياً لتنفيذ أعمال من هذا النوع في استنساخ دقيق لتجربة سيد قطب في مصر خلال العقد الممتد من منتصف الخمسينيات حتى منتصف الستينات من القرن الماضي.

بعد عشر سنوات من الإطاحة ببن علي،  تبدو تونس، وكأنها فقدت بوصلتها، ثمة شكوى دائمة من كل ألوان الطيف السياسي التونسي من أن ثمة ميلاً لدى حركة النهضة الإسلامية (إخوان تونس) إلى فرض تصوراتهم الخاصة على الآخرين، ومحاولة تهميش وإقصاء كل من يعارضهم الرأي، حتى لو عن طريق العنف عبر ما يسمى "رابطات حماية الثورة"، التي ترى فيها المعارضة ميليشيات نهضوية لإرهاب الخصوم السياسيين، وإسكات أصواتهم. ديدن حركة النهضة أنها تتصرف بمنطق الجماعة والجهاز السري والميليشيات، ويبدو واضحاً أن هؤلاء يرومون إلى سيطرة حزبهم على أجهزة الدولة وأخونتها وصولا لتأسيس دولة دينية تنأى بنفسها عن كل شكل من أشكال الديمقراطية ليكون شعارها: العنف في حل الأمور السياسية أو معالجتها، وليس على الإطلاق إشاعة العدل والقانون واحترام آراء الآخرين وعدم استخدام العنف لفض المشاكل وسوء التفاهم بين المتحاورين وأصحاب السلطة عموماً...

والثابت عندنا، أنّ الإسلام السياسي يعدّ تاريخياً فاشلاً في إدارة الاقتصاد، لأنه لا يمتلك أي مشروع للتنمية، ففي عهده تراجع الاقتصاد التونسي بشكل مخيف، إذ زادت معدلات التضخم والبطالة وارتفعت الأسعار بمستوى غير مسبوق، في مقابل ارتفاع نسبة من وقعوا تحت خط الفقر، وتدني قدرة الدولة على تقديم الخدمات للمواطنين، بينما استمرت حركة النهضة في معالجة هذا الأمر بالطريقة التي ألفها الإسلاميون طوال حياتهم، وهي تقديم الصدقات السياسية، وهذه مسألة كان الناس يقبلونها منهم حين كانوا في المعارضة، ولكنها لم تكن مرضية على الإطلاق من سلطة تقدمت إلى الكراسي الكبرى تزف وعود مفرطة زائفة. لمّا كان الإسلاميون من حركة النهضة يفتقدون إلى أدنى درجة من الكفاءة في إدارة الدولة التونسية، وهي من أرقى الدول المركزية في العالم العربي، وعجزوا عن تسيير أمور الدولة، ولم يعترفوا بغياب هذه الإمكانية عنهم، بل كابروا وتصدروا المشهد الرسمي، ورفضوا فتح أي باب أو نافذة لتعاون أصحاب الكفاءات الحقيقية معهم، وتصرفوا وكأن الدولة أحد مشروعاتهم الخاصة، وفشلوا في تحقيق الأمن للمواطنين التونسيين، ورفضوا بناء أجهزة أمنية على أساس قيم الجمهورية والمواطنة، بل عملوا على تشكيل أجهزة أمنية موازية بعقلية حزبية ضيقة، فتنامت ظاهرة العنف السياسي في تونس بصورة لم تألفها البلاد في تاريخها المعاصر.
هذه بلا شك رسائل دالة على وضعية تونس حالياً، وتقييم لما آلت إليه الأوضاع بعد عشر سنوات من ثورة  يبدو أنها فقدت بوصلتها وضلت طريقها، واتجاهات الرأي العام تُجمع على أن التونسيين لم يجنوا من "ربيعهم" سوى تجربة ديمقراطية هشة وأوضاع اجتماعية أكثر هشاشة، واقتصاد منهك يقف على مشارف الإفلاس... وحتى لا يضلل القارىء الكريم، لنقرأ ما كتبه الصحفي التونسي لطفي النجار في أسبوعية "الشارع المغاربي" الصادرة في 23 شباط الماضي تحت عنوان "اللهم عجّل بالإنقاذ فقد انقطعت حلول الأرض"، يقول النجار: "لقد طفح الكيل فعلاً، بعد أن انسدت الآفاق في ظل تناطح رؤوس الحكم وصراعاتهم العابثة حول مربعات نفوذهم، ومجالات سيادتهم، وغرق البرلمان في معارك دونكشوتيه لا تنتهي... تونس تغرق ولا مؤشر أمل في الأفق، 70 مليار دينار ديون عائلاتها وأسرها، ومعدلات البطالة 20 بالمائة، وإفلاس ثلث شركاتها ومؤسساتها الصغرى والمتوسطة، وعجز موازنتها الحكومية للعام 2021 (53 مليار دينار) مقدر بـ15 مليار دينار، بالتزامن مع رفض صندوق النقد الدولي لإقراضها المال بعد أن تم تخفيض تصنيف تونس 8 مرات من قبل وكالات التصنيف العالمية".
وبدورنا نتساءل: هل هذا ما أراده التونسيون الذين فتحوا أبواب ما يسمى الربيع العربي؟ نحن هنا لا نشكك مطلقاً بحسن نيات التونسيين وصدق ثورتهم من أجل حياة ومستقبل أفضل، ومن أجل تونس أكثر استقراراً وأمناً، لكننا نحمل معهم المخاوف والقلق نفسه إزاء ذلك المستقبل الذي أرادوه ناصعاً، بينما حزب النهضة الأخواني السلفي ممن قَادَته المخططات الخارجية إلى واجهة المشهد، يريده مستقبلاً متطرفاً أسود، ويريد العودة بالبلاد إلى عصور الجاهلية... تونس حولها (النهضويون) إلى آثمة تحاسب على حريتها وأفكارها المتقدمة، وتوضع في رقبتها مشنقة متنقلة تقتلها في اليوم الواحد آلاف المرات. في تونس ما بعد الثورة، تعيش عاصمة الياسمين منذ سنوات مشكلات سياسية عميقة تسببت في إرباك قطاعات البلاد وأدت إلى أزمة اقتصادية حادة تفاقمت أكثر بعد انتشار فيروس كورونا وارتفاع معدلات الفقر والبطالة وتراجع مؤشرات النمو، في وقت تتنافس فيه القوى السياسية على حصد المناصب وتوسيع النفوذ بدل معالجة مشكلات البلاد المتناثرة. مؤسف أن تصل تونس إلى هذا المستوى، ومؤسفٌ أن يَتركَ التوانسة انطباعا بأنَّ دولتَهم ناقصةٌ ووطنَهم مرحليٌّ وكيانَهم تسوية ونظامَهم شرٌ لا بدَّ منه، وأنهم شعب تائهٌ يُفتّش عن ذاتِه، في حين أنّ شعب تونس عريقٌ ووطنٌ تاريخي وذو هوّية واضحة، ودولة تونس حديثة تَتمتّع بجميعِ البُنى الأساسيّةِ التي تُخوِّلها أن تكونَ عظيمة في محيطِها والعالم.
خلاصة الكلام: قال الرئيس التونسي قيس سعيد، إن النظام السياسي في بلاده يحتاج إلى لقاح من نوع جديد، لكنه غير مستورد. وبحسب موقع تونسي، فقد أكد "سعيد" أن الـ"لقاح" الذي يقصده لابد وأن يكون "من صنف جديد غير مستورد، يُعيد للثورة وهجها ولتونس ومؤسساتها عافيتها". وأكد أن النظام السياسي "في حاجة لتصور يقوم على تحقيق الأهداف التي سقط  من أجلها الشهداء". ولربما قرأت "حركة النهضة" كلمة الرئيس "سعيد"، على أنها محاولة تونسية لاستنساخ السيناريو المصري الذي جرى في تموز من العام 2013، عندما استطاعت حركة جماهيرية عارمة إسقاط حكم الإخوان المسلمين... ومن المنتظر أن يزداد المشهد السياسي التونسي سخونة في الأسابيع القليلة المقبلة، لكن الرئيس سعيد يمتلك من الأدوات ما يجعله قادراً على إدارة دفة السفينة لإيصالها إلى بر الأمان.
كاتب صحفي من المغرب.