منذ أن اعتلى قيس سعيد صهوة الحكم وجد نفسه إزاء وضع سياسي متأزم، وهو الوضع الذي ترتب عن ثورة 2011 وأتاح للنهضة الإخوانية وحلفاءها الولوج إلى الحكم. بالموازاة، وجدت "النهضة" وحلفاءها أنفسهم أمام رجل لا يقبل بأنصاف الحلول. تحول البرلمان إلى حلبة للضرب والسب وتعطلت لغة الحوار بين الرؤساء الثلاثة: رئيس البرلمان ورئيس الوزراء ورئيس الجمهورية.

وجاءت جائحة كورونا لتكشف الغطاء عن أزمة بنيوية لم تعد تنفع معها السياسة الاعتيادية، فكانت فرصة اغتنمها رئيس الوزراء هشام المشيشي حيث أقال وزير الصحة يوم 20 يوليو. جاء الرد سريعا من قيس سعيد حيث كلفالجيش مهمة إدارة الأزمة الصحية في البلاد يوم 21 يوليو، ثم أقال رئيس الوزراء يوم 25 يوليو، وجمّد سلطات البرلمان وتولى السلطة التنفيذية.

تلك القرارات المباغتة أربكت خصومه، وأدخلتهم في دوامة من الترقب والتخبط. اتضح أن رصيد النهضة وحلفائها، رصيدها السياسي والأخلاقي يوشك على النضوب ولم يعد فيه ما يكفي على الإقناع والمرافعة.

قيس سعيد وطريقته في التواصل السياسي

اتضح مع الوقت أن قيس سعيد ليس رقما سهلا في معادلة السياسة التونسية، وأن تفاعله مع الوضع لم يكن ارتجاليا بل كان ينم عن إلمام ودراية وتخطيط. لقد وجد الوضع السياسي يعاني من أزمة بنيوية لا علاج معها إلا بتفكيكها؛ فكانت البداية بتفكيك المؤسسات على مدى عام كامل لتنتهي الرحلة بتفكيك "الدستور" الذي أنتج تلك المؤسسات، ومن هناك تبدأ تونس رحلتها الجديدة.

راهن قيس سعيد على استقلاليته وعلى ذخيرته الأكاديمية وعلى طريقته في التواصل، وعلى الشعب ومناصريه في التنظيمات النقابية والسياسية والمدنية، كما راهن على حلفائه على الصعيدين: الإقليمي والأممي. كان تغلغل النهضة في مفاصل الدولة من أكبر التحديات، غير أن الوضع السياسي برمته كان تحديا يجب مجابهته بحكمة وشجاعة.

إن كلمة(communication)ذات الأصل اللاتيني (communicare)، تفيد معنى التشارك مع الجماعة(communauté)والتواصل معها؛ في اللسان العربي تفيد معنى (التواصل والتخاطب والتبليغ).أنْ نتواصل معناه، أنْ نتفاعل، أنْ نتبادل المعلومات أو المعارف أو ننقلها إلى شخص ما، أن نبني علاقات وشراكات.

في السوسيولوجيا واللسانيات، يعني التواصل مجموع الظواهر التي يمكن أن تتدخل عندما ينقل الفرد معلومة إلى واحد أو أكثر من الأفراد باستخدام اللغة المنطوقة أو بواسطة كُودَات أخرى (نبرة الصوت، لغة الجسد، نظرة، طريقة التنفس...).

الغاية من علم التواصل(science de la communication)هو مفْهمة وعقْلنة سيرورت/عمليات التبادل ونقل المعلومات بين كيانين (أفراد أو مجموعات من الأفراد أو أجهزة). سلسلة التواصل تتكون: من المرسل والمرسل إليه (المتلقي)والرسالة،ومن الكود المستخدم في نقل الرسالة (على سبيل المثال، اللغة)ومنقناة الإرسال (على سبيل المثال عن طريق المخاطبة المباشرة، الرسالة البريدية، الهاتف، شبكات التواصل الاجتماعي...) ومن السياق.

التواصل السياسي (communication politique)هو شكل خاص من التواصل في الشؤون السياسية. في الديمقراطيات التعددية، يدل بشكل عام على القيام بحملة انتخابية من أجل إقناع الرأي العمومي في التصويت لصالح شخص معين.غير أن المفهوم يتسع لكل ممارسة سياسية داخل فضاء معين (بين أعضاء البرلمان، بين أعضاء الحكومة، بين الحكومة والبرلمان، بين هذين المؤسستين والرأي العمومي، بين ممثلي الوسط السياسي من ساسة ومنظرين ومحللين ومؤسسات إعلامية....).

في أمريكا لا حظنا مع الرئيس ترامب نمطا جديدا من التواصل السياسي لم يكن معهودا، هذا لا يعني أن الرجل اختراع تواصلا جديدا، بل الأمر لا يتعدى أنه أسلوبه، وبالتالي انتخبته شروط معلومة رئيسا بوصفها يصلح لآداء هذا الدور، فالأسلوب هو الإنسان مثلما شاع في وسط النقد الأدبي من منطلق أن "الأسلوب" معطى فيزيقي وفق تعبير رولان بارت، وبالتالي فإن أسلوب التواصل لا يشذ عن هذا التوصيف.

قيس سعيد مختلف من حيث أسلوبه في التواصل: لغته العربية الفصحى، ونبرته ومظهره الفيزيولوجي وملامحه الجامدة، وطريقة إلقائه للكلمات أمام وزرائه أو باقي المسؤولين.... وأمام خصوم عاديين لم تعد خطاباتهم تتوفر على الحد الأدنى من التأثير، نجح قيس سعيد في ملء الفراغ ويحكم قبضته على الوضع، وينجز كل ما خطط له.

والآن....؟

والآن، وقد صوتت تونس بنعم للدستور الجديد، فعلى ماذا يراهن قيس سعيد؟ وهل سينجح في رفع التحديات بنفس الإصرار الذي دشن به ولايته؟ وعلى ماذا سيراهن الرافضون لهذا الدستور؟

في جميع الحالات، ستعرف تونس منعطفا جديدا يختلف جذريا عن تونس ما قبل 25 يوليو، وفي جميع الحالات لن تعود النهضة وحلفاؤها إلى مجدهم السياسي، يبقى السؤال: هل سيزيدهم قيس سعيد من الشعر بيتا يقفل به معركته معهم؟ ثم تستأنف تونس مسارها الديمقراطي على أسس صلبة؟ أم ستبقى تراوح مكانها بحثا عن مخرج يقيها مصير السقوط؟

لقد احتل جواز السفر التونسي المركز الأول في شمال أفريقيا والسادس عربيا في تصنيف أقوى جوازات السفر لسنة 2022 حسب "مؤشر هانلي" الصادر مؤخرا. فهل سترفع الطبقة السياسية التونسية التحدي وتفوز بجواز السفر إلى مستقبل آمن؟