من المفيد والمثمر أن تتباين الكفاءات التخصصية المغاربية، كي نستطيع أن نمايز بينها وصولاً إلى النجاح الذي يطمح الإنسان المغاربي والدول المغاربية إليه، وعلى الرغم من كثرة سلبيات بعض الكفاءات، إلاّ أنّها تتيح لنا فرصاً معرفية للتمييز بين الغث والسمين، ولكن ماذا لو قامت بعض الجهات بالسيطرة على المناصب الإدارية، وكانت تلك الجهات لها مطامع اقتصادية خاصة ومحددة و ''أجندة '' مبيتة تسعى لتنفيذها؟! هذه إحدى مخاطر الفساد الإداري وهدر الكفاءات التخصصية المغاربية بالمناصب الإدارية القيادية، وهو انكماش خطير للنمو الاقتصادي الفاعل وسيطرة تسونامي الفساد الإداري.


أزمة الكفاءات 

وتعد المعرفة قاعدة ارتكاز مهمة للتنمية الإنسانية كونها وسيلة لتوسيع خيارات البشر وتنمية قدراتهم والارتقاء بحالتهم، وبالتالي فهي طريق آمن لبناء المجتمعات المزدهرة، ومن هذا المنطلق فإنّ الإدارة في مجتمعاتنا المغاربية معنية مباشرة بتقديم رؤية استراتيجية لمتطلبات إقامة مجتمع المعرفة عبر عملية إبداع مجتمعي وطني تتوخى الإصلاح في الداخل وترى في النقد أداة فاعلة من أدوات رسم الطريق الصحيح نحو زيادة الكفاءات الإدارية المغاربية ونشر المعرفة وإنتاجها وتوطينها من وجهة نظر إدارية. ليس لدينا في أغلب دولنا المغاربية أزمة مالية أو حتى تقنية ولكننا نعاني من أزمة في الكفاءات الإدارية من خلال الإدارة المغاربية، بمعنى أنّنا لم نهتم بمستقبلنا ومستقبل أجيالنا المغاربية من خلال تهيئة الصف الثاني في الإدارة العليا والمتوسطة، حيث نعاني من الترهل الإداري والنمطية والخوف من التجديد والابتكار، والتطوير وعدم تبني الأفكار المبتكرة والحلول غير المنطقية، وما زلنا في دوامة التخلف عن مسيرة النهوض والتقدم  وروح العصر الذي تلهث فيه المجتمعات الأخرى نحو التجديد، ونحو تبني الجديد من الأفكار والمخترعات وغيرها.


الروتين والجيل الجديد

إذا كان ''الروتين'' ينشأ عندما يتمسك الجيل القديم بأفكاره ونظمه الإدارية، ولوائحه الوظيفية، والمحافظة عليها في حالة من الجمود، فهناك جيل جديد راغب في كسر الجمود داخل المؤسسات بأفكار جديدة وروح تطوير جديدة موائمة للعصر الحالي، فالتشبث بالأفكار التقليدية والأنماط الجامدة للإدارة وباللوائح الشكلية للعمل هو دافع إلى التراجع وربما الانهيار داخل الشركات والمؤسسات، لكن المؤسسات الناجحة بالفعل هي تلك المؤسسات القادرة على العمل بروح العصر، والقادرة على التغيير وإعادة صياغة خططها وأهدافها، والتي تترك لموظفيها مساحة من التحرّك والإبداع في إطار نفس الأهداف الموضوعة مسبقاً، فالمؤسسة أو الشركة التي تقف بصلابة أمام رياح التغيير والتطوير ستندثر أو ستقتلعها رياح التغيير.


لذلك ومن أجل المستقبل الأفضل ومن أجل الحفاظ على الازدهار الاقتصادي المغاربي يتوجب على الدول المغاربية حصر حملة الشهادات العليا في جمع القطاعات العاملة ومراجعة مؤهلاتهم ووظائفهم الحالية ومقارنة شهاداتهم وتخصصاتهم في الأعمال المناطة بهم حالياً، وسوف تفاجأ بتلك النتائج، ولعلمي بأنّ هناك بطالة مقنعة من الشهادات العليا... حيث يكمن الخلل هنا بمن هم في تلك المناصب الإدارية العليا وصناع القرار المتخمين بداء الروتين المتجاهلين لنبض المجتمع المغاربي الصارخ للتطوير والتجديد والتحديث وما يجري حولنا في العلم دون أدنى قدر من التفاعل الإيجابي. إنّ التقدم السريع في مجال الإدارة في المستويات الفنية والعمل الإنتاجي والإداري عنصر من عناصر القوة والدعم في مسيرة التنمية في الدول ومؤسساتها، لذا يجب الاهتمام ببرامج التدريب والتأهيل والتطوير إضافة إلى تخصيص دعم كبير للبرامج المتعلقة بتطوير الكفاءات الإدارية حيث تمثل عناصر القوة في العلاقات الداخلية والخارجية التي بدورها سوف تدعم مستقبل التنمية الوطنية دون المساس بثوابت ديننا الحنيف وعقيدتنا الوسطية السمحة، ونحن نخطو نحو اللحاق بركب منظومة التجارة العالمية. لقد أصبحت العولمة ظاهرة تاريخية وحقيقية وبالرغم من كل مظاهرها السلبية لا يمكن محاربتها بل المطلوب محاولة الاستفادة القصوى من نتائجها الإيجابية وتجنب آثارها السلبية وذلك بمراجعة جميع نواحي الحياة الاجتماعية والاقتصادية والعمل على إحداث تغييرات ديموقراطية وإصلاحات إدارية شاملة لكي نتمكن من استيعاب النظام العالمي الجديد وما يترتب عليه من علاقات دولية جديدة وذلك بتطوير وتأهيل الكفاءات الإدارية الشابة التي بدورها سوف تنطلق بنا إلى مستقبل أفضل تحت مظلة شريعتنا الإسلامية السمحة.


أين الخلل... وما العلاج؟

عندما يكون الشخص عديم الخبرة في مجال معين، فكيف له أن يميز الجيد من الرديء في ذلك المجال، وكيف له أن يبدع أو ينجح فيه؟ وعندما لا تكون قد تخصصت أكاديمياً في مهنة بعينها ثم بالممارسة تؤمن الخبرة والكفاية الإدارية، فكيف لك أن تقود وتدير من تخصصوا في ذلك المجال؟ من الممكن أن يدير شخص تخصص في الإدارة مثلاً مجال آخر إذا استطاع الإلمام بأساسيات هذا المجال وامتلك المقدرة العلمية والمهارة القيادية الفطرية أو المكتسبة على التعامل السوي مع من يديرهم من المتخصصين. فلكل من المتخصصين وأصحاب الكفاية الإدارية مجال متخصص تأهل له واستثمر من أجله. وما يلاحظ عند الدول المغاربية، أنّه يتخرج الكثير من كوادرنا المهنية المتخصصة على مستوى عال من الكفاءة كل عام وتزداد خبراتهم مع مرور السنين في مرافقهم ويخدمون من خلال مواقعهم مئات أو ألوف البشر، لكن الغريب هو اختيار بعض هذه الكفاءات أو الخبرات الوطنية النادرة في وظائف أو مناصب إدارية وقيادية من الممكن أن يتولاها غير ذوي التخصصات المهنية في تلك المجالات، حيث إنّ هذا التعيين أو الاختبار يقضي عليهم مهنياً، بعدم المواكبة ويحول بينهم وبين إفادة المؤسسة ويتعدى ذلك ليؤثر على المواطنين المحتاجين للخبرة المتراكمة لدى ذلك الخبير كما أنّه يشكل هدراً لتلك الطاقات وتضييعاً للجهود التي بذلت من أجل تهيئة تلك الكوادر المهنية التخصصية النادرة، عوضاً عن جعلهم مجمدين أو متنقلين بين وظيفتين مختلفتين في التخصص والمضمون.


إنّنا في دولنا المغاربية، نستثمر كثيراً من المال في إعداد الكوادر البشرية وجهدهم كأفراد ويتخصص الشخص منهم في مجال معين ويمارس المهنة التي تخصص فيها، ولكننا ولأسباب مختلفة نجد هذا الشخص يعمل في مجال آخر دون تأهيله للعمل في هذا المجال الجديد، وهكذا قد نحجب عمن تخصص  في الإدارة ـ مثلاً ـ كعلم ونحول بينه وبين العمل في مجال تخصصه، فنكون قد أهدرنا ما استثمر فيه من مال على مدى سنوات، والنتيجة الحتمية أنّ الذي يتم تعيينه مديراً على سبيل المثال دون أن يكون مؤهلاً لذلك العمل سوف يؤثر سلباً على هذه الإدارة، بل قد يزيد من عجزها في النهوض بواجباتها الوظيفية بخاصة في ظل غياب نظام حقيقي واضح الأبعاد لتوطين الوظائف المهنية المتخصصة والإدارية الكفؤة، وأعني بها وظائف الخبراء الذين يملأون المؤسسات والإدارات بدون أي تأهيل إداري أكاديمي علمي... تلك هي إحدى القضايا والملاحظات التي ينبغي علينا أن نعيد النظر فيها بجدية، كما ينبغي تفعيل دور المنصب المهني التخصصي الذي هو بدوره أحد أهم العوامل الرئيسية التي أثرت سلباً على قدراتنا في مواكبة عجلة التقدم الدولي والاندماج في عملية العولمة والتنمية البشرية العالمية.


المشكلة الحقيقية تكمن في اختيار الشخص المناسب للمكان المناسب وفي الوقت المناسب، والتفرغ التام لمهام المنصب الإداري القيادي المدعوم بالخبرة العلمية الإدارية التخصصية وبخاصة عندما يطلب من شخص تقلد منصب إداري إشرافي يسهم في صنع أو اتخاذ القرار الصحيح والحكيم، فنحن نعيش اليوم في عالم يحكمه التخصص البحث، ولكي نحكم سيطرتنا الإدارية القيادية يجب علينا أن نأتي بالمتخصصين في كل المجالات وعندها فقط لن نسمع لمن يغطي عجزه بالمبررات المختلفة وسنعالج كل حدث كما ينبغي، أياً كان نوع هذا الحدث أو المشكلة. صحيح أنّه يتوجب على إدارة أي شركة أو مؤسسة أن تتحمل نتائج تعيين أي شخص لا يتمتع بقدرات القيام بعمل ما أو مواكبة المتغيرات، بخاصة وأنّ ذلك غالباً ما يكون خارجاً عن إرادة الموظف. ومن هنا لابد من الموازنة بين حاجة الإدارات والإداريين والحاجة لاستيعاب بعض التخصصات المهنية في المناصب الإدارية القيادية مع ضرورة اعتماد مبدأ الكفاءة العلمية والعدالة عند التعيين بالمناصب الإدارية التي تتطلب قدراً من الخبرة والتجربة والتخصص والمهارات المكتسبة بالتدريب حتى نتمكن من تحقيق الأهداف الكبيرة والمبتغاة لخدمة المجتمع والوطن.


كما يجب اعتماد التخطيط الاستراتيجي منهجاً لاستشراف آفاق المستقبل، وصياغة الخيارات التي تتطلب منا استحداث هيئة أو هيئات تتولى تأهيل الكفاءات الإدارية التخصصية كأولوية ملحة أو تشكيل مجلس أعلى للتنمية الإدارية تخضع فيها الكفاءات لمعايير دقيقة خاصة، مع الحرص على عدم ترك الخيار لشخص واحد كالرئيس المباشر مثلاً في اختيار القيادات، والعمل على تجنب الخلط بين المهن الإدارية والتخصصية لضمان المزيد من التكامل بينها، وحتى لا يترتب على ذلك كلفة إضافية على موازنة الدولة أو المؤسسات أو الشركات لتتمكن من المنافسة ومواجهة تحديات المستقبل، ممّا يتطلب التأكيد على ضرورة وجود رؤى إدارية استراتيجية واضحة الأهداف بل والغايات طويلة المدى تحقق الإصلاح الإداري والاقتصادي والاجتماعي كغاية للتنمية، والاهتمام بالجودة الشاملة سبيلاً إلى الإنجاز والتفوق والإتقان لبلوغ درجة التميز العالمي، وذلك بوضع تصور شامل ومتكامل لتطوير البنية التحتية لجميع القطاعات بما يتفق مع التطورات، ومتغيرات العصر وتحديات المستقبل.