أكد فشل محاولة الانقلاب التي قام بها زعيم المعارضة في فنزويلا خوان غوايدو على نظام الرئيس نيكولاس مادورو، أن فنزويلا ـ دون أدنى شك ـ باتت ساحة لممارسة صراع النفوذ الدولي بجدارة، وذلك على خلفية التلويح الأمريكي مجددًا بالتدخل العسكري لإزاحة نظام مادورو، ونقل السلطة للمعارضة بقيادة غوايدو، ومعارضة روسيا أي تدخل عسكري في فنزويلا.

تزايد صراع النفوذ

وعلى إثر ذلك تفاقمت حدة الصراع بين القوي العالمية بشأن من تكون له اليد العليا في الشأن الفنزويلي، وتحديدًا بين واشنطن وموسكو.. فقد أكد وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو أن التدخل العسكري "ممكن" و"مطروح على الطاولة" في فنزويلا، و"إذا كان ذلك ضروريًا، ستنفذه الولايات المتحدة".

كان الوزير الأمريكي ذكر أن موسكو أثنت مادورو عن مغادرة كراكاس متجهًا إلى هافانا للإقامة فيها منفيًا، وقال في إشارة الى الرئيس الفنزويلي "كانت طائرته على المدرج وكان جاهزًا للمغادرة وفق ما علمنا، لكن الروس أشاروا عليه بضرورة البقاء".

أما مستشار الأمن القومي الأمريكي جون بولتون فنبه إلى أن "الروس يودون السيطرة على بلد في هذا الجزء من العالم"، وأضاف "الأمر لا يتعلّق بالأيدولوجيا، بل إنها سياسة السلطة القديمة، وهذا سبب وجود عقيدة مونرو نسبة إلى الرئيس جيمس مونرو التي نحاول التخلص منها في هذه الإدارة.

وعقيدة مونرو هي سياسة أمريكية من القرن الـ19، تعارض تدخل القوى الأوروبية في الجزء الغربي من الكرة الأرضية، وفُعِل لاحقًا لتبرير تدخل الولايات المتحدة في أمريكا اللاتينية.

ورغم التأييد الذي يتلقاه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في موقفه المؤيد لإزاحة نظام مادورو والمطالبة بانتقال ديمقراطي للحكم، إلا أن عددًا من أعضاء الكونجرس عبروا عن قلقهم من أي تحركات عسكرية يمكن أن تقوم بها الولايات المتحدة الأمريكية.

وأكد اليوت انجيل رئيس لجنة الشئون الخارجية التابعة لمجلس النواب الأمريكي أن الكونجرس لن يوافق على التدخل العسكري في فنزويلا، فبموجب الدستور الأمريكي يتعين على الكونجرس الموافقة على أي عمل عسكري أمريكي في الخارج.

كان المسؤولون الأمريكيون قد أشاروا عدة مرات، إلى أن واشنطن قد تلجأ إلى استخدام القوة لإرغام مادورو على التنازل عن الحكم، أو إذا ما أقدم على فض المظاهرات الشعبية المعارضة له بالقوة، وقد زادت التكهنات باحتمال تنفيذ عمل عسكري أمريكي ضد مادورو، بعدما ظهر مستشار الأمن القومي جون بولتون، في مؤتمر صحفي في أواخر يناير 2019، وفي يده كراسة ملاحظات مكتوب عليها "5000 جندي إلى كولومبيا"، كما رفضت وزارة الدفاع الأمريكية استبعاد العمل العسكري، على الرغم من إصرار المسؤولين الأمريكيين على أنه لا توجد خطط لتدخل عسكري حالًيا، مع بقاء كل الخيارات مطروحة، بما فيها العقوبات الاقتصادية وممارسة الضغوط السياسية.

إذ تم فرض عقوبات على صادرات فنزويلا النفطية إلى الولايات المتحدة في محاولة لمنع نظام مادورو من الحصول على سيولة نقدية، فضلًا عن العقوبات المصرفية التي كانت أصلًا مفروضة على فنزويلا قبل الأزمة.. ناهيك عن تشديد الخناق على نظام مادورو عبر تجميد أصول شركة النفط الوطنية الفنزويلية، والاستحواذ على الأصول الحكومية الفنزويلية في الولايات المتحدة، وحيثما أمكن عالميًا ونقل السيطرة عليها إلى غوايدو، وبناء عليه، اتخذ وزير الخارجية الأمريكي في 29 يناير 2019، قرارا بالسيطرة على الأصول الفنزويلية وممتلكاتها المؤمنة في بنوك أمريكية، بما في ذلك البنك المركزي في نيويورك، كما نجحت واشنطن في الضغط على مصرف إنجلترا المركزي لحرمان مادورو من الوصول إلى الذهب الذي تحتفظ به فنزويلا في لندن بقيمة 1.2 مليار دولار.

في المقابل، أدرجت الخارجية الروسية تصريحات بومبيو في إطار "حرب إعلامية"، ورأت أن "المعارضة المتطرفة في فنزويلا لجأت مرة أخرى إلى مواجهة عبر القوة"، متهمة معارضي مادورو بـ "تأجيج" النزاع، وشددت على "أهمية تجنّب الفوضى التي يمكن أن تفضي إلى حمام دم".

وإذا كانت المواقف الدولية الأخرى تتحرك في المسافة بين التأييد الحذر لمادورو واستنكار ما قام به غوايدو، إلى أن الأزمة كما وصفها محللون أمريكان بأنها قد تستمر لفترة طويلة بين النظام والمعارضة، واحتمالات اندلاع حرب أهلية.

فقد دعا الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو جوتيريش "جميع الأطراف إلى تجنّب اللجوء للعنف" في فنزويلا، فيما شددت وزيرة خارجية الاتحاد الأوروبي فيديريكا موجيريني على أن "المسار السياسي والسلمي والديمقراطي هو السبيل الوحيد للخروج من الأزمات"، وحضّت بريطانيا وكندا مادورو على التنحّي، لكن الرئيس الكوبي ميجيل دياز كانيل جدد له "دعمه الحازم"، فيما دان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان "محاولة الانقلاب في فنزويلا"، وقال وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف "إن الشعب الفنزويلي هزم الانقلاب"، فيما دانت وزارة الخارجية السورية "محاولة انقلاب فاشلة".

حسابات إستراتيجية

وفقًا للحسابات الإستراتيجية التي تعمل على إطالة أمد الأزمة السياسية، تحولت فنزويلا إلى صراع جيوسياسي دولي، انخرطت فيه مباشرة الولايات المتحدة من جهة، وروسيا والصين من جهة أخرى، ولكل طرف حلفاؤه على ساحة أمريكا اللاتينية ودوليا، وتحظى فنزويلا بأهمية كبرى لدى كل هذه الأطراف؛ فهي بالنسبة لواشنطن، تعد ضمن ساحة خلفية لا تسمح لأحد بالاقتراب منها، ووفق "مبدأ مونرو"، نسبة إلى الرئيس جيمس مونرو، الصادر عام 1823، فإن واشنطن لن تسمح لأي قوة بإنشاء مناطق نفوذ في القارتين الأمريكيتين، الشمالية والجنوبية، وقد تدخلت واشنطن مرارا في شؤون جيرانها في أمريكا اللاتينية لتقويض أي نظام حكم يعارض سياستها في القارة، سواء أكان ديمقراطيا أم ديكتاتوريا.

أما موسكو فترى أن الثورات الشعبية، كما في أوكرانيا وسوريا وفنزويلا، ما هي إلا أدوات أمريكية لزعزعة استقرار الأنظمة التي ليست على توافق معها، ورأت موسكو أن الثورات الشعبية شكلت رأس حربة لتمدد الديمقراطية، التي تعتبرها نموذجا غربيًا في الحكم، إلى مناطق نفوذها المباشرة كما في المحاولات التي جرت في جورجيا وقرغيزيا وأوكرانيا.

وتؤكد التقارير السياسية أن ما يحدث في فنزويلا اليوم هو صراع نفوذ بين واشنطن وموسكو، ويحاول كل طرف أن يعمل على إثبات قوته، الأمر الذي فسره محللون بأن وسيلة جديدة للاستنزاف الاقتصادي المتبادل بين القوتين، وهو ما يطيل أمد الأزمة، وتذهب التقارير إلى أن فنزويلا ربما تكون سوريا جديدة لممارسة نفوذ القوى والصراع الدولي.

جدير بالذكر أن الأزمة السياسية في فنزويلا تفاقمت وتصاعدت حدتها بعد إعلان رئيس البرلمان الفنزويلي المعارض خوان غوايدو، نفسه رئيسا للبلاد لفترة انتقالية وإجراء انتخابات رئاسية جديدة، فيما سارعت الولايات المتحدة للاعتراف به..مطالبة الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو، بعدم استخدام العنف ضد المعارضة وإعلان مادورو أنه الرئيس الشرعي للبلاد.

واعترفت فرنسا إلى جانب ألمانيا، وإسبانيا وبريطانيا وهولندا رسميا بزعيم المعارضة الفنزويلية رئيسا مكلفا إلى حين إجراء انتخابات، فيما أيدت كل من روسيا والصين وتركيا والمكسيك وبوليفيا شرعية مادورو، هذه الثنائيات الدولية ساعدت على تفاقم الأزمة السياسية في فنزويلا وزيادة حدتها.