في رسالة تاريخية شاهدة أبدا على التسامح الذي يتّسم به المصريون على مر العصور، تضمّ منطقة مجمع الأديان بحي مصر القديمة (جنوبي القاهرة) بين أروقتها نماذج أثرية لتلك القيمة التي تؤسس لتعايش بين فئات المجتمع على اختلاف دياناتها ومذاهبها وأعراقها، حيث يعانق جامع عمرو بن العاص في المنطقة تسع كنائس ومعبد عزرا اليهودي.

وجود الأماكن الأثرية الدينية الثلاثة متقاربة فيما بينها، لم يكن من قبيل المصادفة، بل عائد إلى معتقد ديني يرجع إلى أتباع كل ديانة من الديانات السماوية الثلاث، حسب ما أفاد به سمير عباس، الخبير الأثري والمرشد السياحي المصري.

عباس أوضح، أن المعبد اليهودي، أقيم في المكان الذي يعتقد اليهود أن النبي موسى وجد فيه، “بعد أن ألقت به أمه في اليم لتنجو به من ذبح فرعون للرضع الذكور”.

أما كنيسة أبي سرجة الأثرية، فقد أقيمت حيث يعتقد المسيحيون وجود الكهف “الذي فرت إليه السيدة مريم العذراء بالنبي عيسى عليه السلام، هربا من بطش هيرودوس ملك اليهود آنذاك”.

في حين، بنى الصحابي عمرو بن العاص مسجده عام 642 ميلاديا عقب دخوله مصر، بعد أن أمره أمير المؤمنين حينها، عمر بن الخطاب، باختيار عاصمة لمصر غير مدينة الإسكندرية، التي ظلت عاصمة لمصر في عهد الإسكندر الأكبر حتى الفتح الإسلامي.

واختار عمرو بن العاص مدينة الفسطاط (مصر القديمة) عاصمة لمصر، وبنى فيها أول مسجد في البلاد، وفق تعبيره.

في ذات السياق، أشار سمير عباس، إلى أنّ معبد “عزرا” اليهودي، كان كنيسة قبل الفتح الإسلامي لمصر، وتحول إلى معبد بعد أن أقنع اليهود قيادة المسلمين حينها، بأن هذا المكان “وُجد به النبي موسى في السلة التي وضعته فيها أمه بماء نهر النيل”.

من جهتها، قالت إحدى المسؤولات عن المعبد، إنّ الكنيسة التي أقيم على إثرها المعبد اليهودي، أنشئت في القرن الثامن الميلادي، وتحولت إلى معبد في القرن الحادي عشر.

وأوضحت المسؤولة التي فضلت عدم ذكر اسمها، أن “الشعائر الدينية توقفت تماما في المعبد منذ أن تم تحويله إلى منطقة أثرية يحظر تصوير محتوياتها”.

ومضت قائلة: “المعبد يخضع لإدارة كل من وزارة الآثار المصرية والطائفة اليهودية في مصر، وتتوسطه سلة ترمز إلى تلك التي يعتقد أن سيدنا موسى وجد فيها، ويضم في ساحته رمزا لتابوت العهد الذي يحوي تابوت سيدنا موسى، ولفافات نادرة من ورق التوراة والوصايا العشر وعصا موسى التي كانت تعد أبرز معجزاته”.

كما يضم المعبد، “البيما” (منصة مرتفعة) التي كان يصعد عليها الحاخام لإلقاء العظة على طائفة اليهود، والتي دون عليها سفر من أسفار التوراة، فضلا عن “قدس الأقداس” الذي لا يفتح سوى مرة واحدة في العام للاحتفال بعيد الفصح وتلاوة أقدم نسخ التوراة.

هذا التناغم المعماري الظاهر بين المنشآت الدينية الثلاث، يدل وفق مراقبين على التعايش الذي كان يميز المصريين منذ القدم، حيث أنّ مجمل الصراعات القائمة على أسس دينية لم تكن لتؤثر في وحدة هذا المكان الذي بقي شاهدا على سماحة المسلمين والمسيحيين واليهود المصريين على حدّ سواء.

وبالعودة إلى تفاصيل المكان، أشارت المسؤولة بالمتحف إلى أنّ الـ”جنيزة” تعد من أهم مقتنيات المعبد، وهي عبارة عن “مجموعة أوراق جامعة لكل التفاصيل الحياتية لليهود الذين عاشوا في مصر”.

كذلك توجد في المعبد الـ”مازوزة” وهي اللفافات التي تزين أبواب منازل اليهود وتضم لفافات من التوراة بغرض التبرك، و”نجمة داوود” التي ترمز إلى الذراعين اللتين كان يرتديهما نبي الله داوود في الحرب كي تمنحه القوة، واتخذها اليهود من بعده شعارا لهم يوازي شعار الهلال للمسلمين والصليب للمسيحيين.

كما يضم الـ”ميكفا” وهو المكان المخصص للتطهر، وتوجد منه نسختان، الأولى بالطابق السفلي المخصص للسيدات، والأخرى بالطابق العلوي حيث الرجال.

وعلى بعد أمتار قليلة من المعبد، تقع كنيسة أبي سرجة الأثرية، وتضم في مدخلها 12 عمودا كرمز للاثني عشر حواريا الذين اتبعوا سيدنا عيسى في بداية دعوته للمسيحية. ويلفت نظر الزوار عمود يختلف عن باقي الأعمدة، وهو حسب الدليل سمير عباس، يرمز للحواري يهوذا الذي يعتقد المسيحيون أنه خان السيد المسيح، وأرشد عنه، لذلك أقاموا عموده من الجرانيت ولم يزينوه بالرسوم أو يضعوا فوقه تاجا كباقي الأعمدة التي صنعت من الرخام الأبيض.

وبني سقف الكنيسة، على هيئة سفينة خشبية، كرمز لسفينة سيدنا نوح، التي نجا بها مع تابعيه من عذاب الله، وهو المعنى العقائدي الذي أراد المسيحيون إيصاله إلى العالم عقب ظهور المسيح بأن من يتبع تعاليم كنيستهم سينجو من عذاب الله.

بينما تتوسط “العباءة الكرمزية” الكنيسة، وتعكس حسب ذات المصدر، “سخرية اليهود من نبي الله عيسى، حينما أرادوا صلبه بالعباءة الكرمزية التي كان لا يرتديها إلا الملوك آنذاك، وكأنهم يقولون له أنت نبي لا نؤمن به، لكننا سنصلبك بزي الملوك”.

إميل تادروس أحد مسؤولي تأمين الكنيسة، قال من جهته، إن “الكنيسة أقيمت منذ 1600 عام تخليدا للكهف الذي تضمه، وعاشت فيه الأسرة المقدسة، حينما نزحت إلى مصر لمدة 3 شهور، بعد رحلة شاقة داهمتها فيها وحوش برية وقطاع طرق، هذا ما يعتقده المسيحيون”.

وأوضح “تادروس” أن أبرز المقتنيات الأثرية التي تضمها الكنيسة، “البئر التي شربت منها السيدة العذراء والسيد المسيح، والتي لا زالت المياه تتدفق فيها حتى اليوم، وطالبت إدارة الكنيسة بتحليلها، لمعرفة ما إذا كانت لا تزال صالحة للشرب أم لا”.

هذا المكان بكلّ تفاصيله بقي شاهدا اليوم على سماحة المصريين، ويقدّم الدليل على إمكانية تعايش أصحاب الأديان في رقعة جغرافية واحدة إلى حد تداخل رواياتهم وتفاصيل حيواتهم. تداخل لطالما ميّز أبناء هذا المكان الذي تعانق فيه الكنيسة المسيحية مسجد الإسلام ومعبد اليهود دون ضغائن أو صراعات.

*نقلا عن العرب اللندنية