منذ تحولات العام 2011 والحرب المدعومة من حلف شمال الأطلسي في ليبيا التي أنهت حكم العقيد معمر القذافي لم تنته، مازالت ليبيا في حالة من عدم الاستقرار، وفوضى المليشيات وانتشار السلاح.  لكن التحول الأهم في السنوات الأخيرة بدأ في أبريل 2019، عندما أعلن الجيش الليبي عمليّة في طرابلس لإنهاء سلطة المليشيات والضغط على حكومة الوفاق من أجل الانطلاق في عملية سياسية تنهي الوضع القائم.

وتسارعت الأحداث تدريجيا بعد التدخل الخارجي وخاصة من تركيا التي أرادت أن تكون لاعبا مباشرا في الصراع ومساهما في المواجهات العسكرية ضد الجيش الأمر الذي فرض ردّة فعل مصرية تنذر حتى بحرب بين الطرفين باعتبار القاهرة ترى في التدخل التركي تهديدا لأمنها القومي وتقوية لشوكة الإخوان المسلمين.

الجيش وقرار المعركة في طرابلس

عندما بدأ الجيش عملية الكرامة في 2014، وضع هدفا أساسيا وهو إنهاء الانفلات الأمني والتسليح غير الشرعي، إلى أن كان قرار الحرب على طرابلس وما خلفه من ردود فعل مختلفة داخليا وخارجيا. في البداية كانت الأمم المتحدة والولايات المتحدة وقوى أخرى تدعو إلى التهدئة والتفاوض على اتفاق سياسي بين الطرفين. لكن الجيش واصل معركته معلنا عدم ثقته في السراج بالنظر إلى ارتباطاته الوثيقة وخضوع قراراته للأطراف الإسلامية في طرابلس. فكانت المعركة التي اقتربت من الحسم في أكثر من مرة لكن التدخل التركي جويا ساعد حكومة الوفاق على استرجاع بعض المناطق إلى حدود سرت الجفرة التي تعتبر اليوم مفصل المعارك ونذر الحرب.

طرفا النزاع ومنطق التحالفات داخليا وخارجيا

لم يعد غريبا اليوم أن الجيش الليبي والبرلمان يحظيان بدعم من أطراف خارجية وعلى رأسها مصر التي تعتبر أمن ليبيا من أمنها وقد تأكد ذلك في اجتماع القبائل في القاهرة الذي يعتبر معاهدة المشاركة في مواجهة تركيا التي تندفع حالمة باستعادة الامبراطورية العثمانية وفكرة الخلافة الجديدة. روسيا وفرنسا بدورها اليوم أقرب إلى الجيش الليبي ضمن تحالفات للمصالح ربما يكون الشعب الليبي أمرا ثانويا فيها. لكن التحالف الأهم بالنسبة للجيش هو داخليا حيث يحظى بدعم القبائل.

أما حكومة الوفاق فتحالفاتها خارجيا مكشوفة أساسا مع تركيا وقطر الدولتان الداعمتان للإخوان المسلمين وهما من تدعمان السراج بالمال والسلاح بل إن تركيا تشارك بشكل مباشر في المعارك الدائرة. كما هناك نوعا من التقارب مع إيطاليا والولايات المتحدة اللتين تبدوان خلف الصورة باعتبار تفكيرهما استراتيجي بالأساس حول مآل الحسم وبعدها يمكن كشف ستارهما. وداخيا تعتبر الوفاق مدعومة بالأساس من المجموعات المسلحة وشبكات التهريب التي تضمن وجودها بوجود حليف ضعيف يمكن التحكم في خياراته.

النفط الليبي ... نعمة الأرض ومفصل المشاكل

معروف أن ليبيا تحتوي على مخزون هام من النفط. وتشير الإحصائيات إلى أنه إلى حدود يناير الماضي اقترب الإنتاج من مليون ونصف المليون برميل يوميا قبل أن تبدأ اعتصامات من موالين للجيش في حقول الإنتاج أوقفت عمليات التصدير، وقد احتج المعتصمون على أساس أن العائدات تدهب لدعم مسلحي الوفاق والمرتزقة الذين تستقدمهم تركيا.

وعلى الرغم من بوادر الانفراج من خلال استعادة بعض الموانئ لنسق إنتاجها لكن التوتر الحاصل والتخوفات من حرب كبرى قد يطيلان الأزمة، وقد يكلفان الموازنة العامة للبلاد مليارات الدولارات من الخسائر.

فرضيات التفاوض

قبل حوالي شهر أعلن الرئيس المصري عبد لفتاح السيسي عن مبادرة لحل الأزمة، اشتملت على مجموعة من النقاط، أهمها وقف إطلاق النار والبدء في عملية سياسية. المبادرة وجدت التجاوب من عدة أطراف داخلية وخارجية لكنها في المقابل وجدت صدّا من حكومة الوفاق وحليفها التركي بحجة أن مصر محسوبة على الجيش وداعمة له. والوفاق لم ترفض فقط بل أخذها الغرور حتى الزعم بأنها لن توقف الحرب إلا بعد سيطرتها على كامل البلاد، وقتها فقط دخل الجانب المصري بموقف أكثر حزما ملخصه أن القاهرة لن تبقى مكتوفة الأيدي تجاه التدخلات التركية وأعلنت صراحة أنها ستدخل إلى ليبيا لو فكرت أنقرة ومن أمامها الوفاق في تجاوز خط سرت الجفرة الذي اعتبرته "الخط الأمر" للحرب.


في ظل التوتر الحاصل في ليبيا، وأمام سلبية الواقف الدولية تجاه ما يحصل، لا تبدو الأزمة في نهج الحل. طرفا النزاع بلغا مرحلة من الخلاف من الصعب تجاوزها إلا تحت ضغط القوى العظمى، وهو خلاف تم تصديره إلى الخارج من خلال انقسامات واضحة اليوم بين من يرى الحل في الجيش باعتباره أداة تنفيذ الأمن الشرعية التي تستمد موقعها من برلمان منتخب شعبيا، وبين من مازال يفكّر بمنطق الشرعية الدولية واتفاق الصخيرات اللذين لم تعد لهما قيمة بسبب انتهاء سنوات التفويض وعجز الوفاق عن تجميع الليبيين.