ارتبطت أحداث فبراير التي شهدتها ليبيا سنة 2011 بشكل وثيق بنشاط ما عرف بجماعات الإسلام السياسي، مختلفة الأنشطة "الدعوية والجهادية"، والتي وجدت فرصة سانحة في ظل الفوضى التي صاحبت الأحداث التي عاشتها ليبيا وبلدان الجوار ضمن ما عرف "بالربيع العربي"، ولعل من أهم المستفيدين من هذه الأحداث كانت جماعة الإخوان التي تتلقى دعما دوليا من عدد من الدول الإقليمية من أهمها تركيا التي يحكمها التنظيم الدولي للجماعة متمثلا في حزب العدالة والتنمية الذي ترتبط به العديد من الأحزاب المنتشرة في عدة بلدان من بينها حزب العدالة والبناء الذي تأسسا لاحقا في ليبيا.

الدور التركي

على الرغم من حالة التردد التي شابت الموقف التركي في بداية الأحداث التي شهدتها ليبيا بدأً من منتصف فبراير 2011 إلا أنه سرعان ما تبدل وأصبحت من أكبر اللاعبين تأثيرا في حلبة الصراع التي فتحت أبوابها منذ ما يزيد عن ثمان سنوات ولاتزال مستمرة حتى بعد أن أحالت البلاد إلى دولة هشة أقل ما توصف به أنها دولة فاشلة، ولا يبدو أنها ستعيد توازنها في المدى المنظور.

ووفقا لتقرير نشره المركز العربي للبحوث، عن الدور التركي في ليبيا بشكل عام وإبان أحداث 17 فبراير بشكل خاص، أظهر التقرير تفاصيل هذا الدور الذي انحاز منذ اندماج تركيا ضمن المجموعة الدولية والإقليمية التي تدخلت بشكل فج في كل تفاصيل الحالة الليبية، -انحاز- إلى الجماعات المتطرفة بمختلف تصنيفاتها ومسمياتها، حيث وضعت تركيا كامل ثقلها في حلف الناتو الذي تحفظت في البداية على تدخله المباشر في ليبيا، بعد أن أدركت حكومة العدالة والتنمية أنّ موقفها من تطوّرات الأحداث في ليبيا سيؤدّي إلى ردّ فعل سلبي في عدة أوساط محلية ودولية، وبدأت انقرة في تقديم الدعم السياسي والمادي للمجلس الانتقالي على حساب النظام الذي كانت ترتبط معه بعلاقات وثيقة، مصالح اقتصادية كبيرة واستثمارات ضخمة تقدر بمئات المليارات قبل الأحداث، وتؤكد تقارير عدة بأن تركيا انحازت بشكل خاص لبعض قيادات جماعة الإخوان الليبية ووفرت لهم الدعم اللازم ليكونوا جاهزين في أول استحقاق انتخابي بعد إسقاط النظام، ليسيطر عدد منهم الذين دخلوا الانتخابات ككيانات وأفراد على المؤتمر الوطني الذي تمت انتخاباته سنة 2012، ولم تتوقف الأيادي التركية عن العبث بمجريات الأحداث في ليبيا عند هذا الحد ولا تلك الفترة بل استمر في دعم الجماعات المتطرفة بالتمويل المالي والسلاح، وتوالت شحنات الأسلحة المقدمة من انقرة إلى الموانئ الليبية لاسيما في مينائي مصراتة والخمس وطرابلس التي ضبطت فيها عدة شحنات لأسلحة ومواد متفجرات قادمة من تركيا علاوة على تم ضبطه في عرض البحر.

ولم تكتف حكومة العدالة والتنمية في انقرة بتقديم الدعم اللوجيستي للجماعات الإرهابية في ليبيا، بل توفر لقادتها وزعماء الحرب أماكن آمنة إذ يتخذ معظم قادة التنظيمات من تركيا ملجأ يعودون إليه كلما ضاقت بهم السبل في ليبيا، إضافة لدعم تركيا إعلاميا للمعظم تيارات الإسلام السياسي بتوفير مقرات آمنة للقنوات الفضائية التي يشرف عليها قادة الجماعات المتطرفة، والتي تبث مواد إعلامية تخدم إجنداتها، وتحرض على العنف والإرهاب وتحارب كل من يختلف مع سياسات هذه الجماعات.

الدور القطري

كان ولازال لقطر دورا بارزا في دعم ورعاية وتمويل الجماعات المتطرفة في ليبيا بمختلف انتماءاتها والتي يأتي في مقدمتها جماعة الإخوان التي ارتبطت بشكل وثيق بالدوحة، وظهر هذا الدور منذ بدء أحداث فبراير حيث لعبت قطر دوراً كبيراً في اجتماع وزراء الخارجية العرب الذي مهَّد لقرار من مجلس الأمن بفرض حظر جوي على ليبيا، ثم شاركت القوات القطرية في العمليات العسكرية التي قادها حلف شمال الأطلسي، وذلك بالتوازي مع تركيز إعلامي لم يسبق له مثيل على الأحداث الليبية بأسلوب تجاوز كثيراً مبادئ العمل الصحفي المستقل والمحايد.

ولم تكتف قطر بهذا الدور بل شاركت بشكل فعلي في العمليات العسكرية وقدمت دعما منقطع النظير لحلفائها من قادة وزعماء الجماعات المتطرفة حيث شكلت شبكة من شيوخ دين، وإرهابيين سابقين، ورجال أعمال، وغيرهم، لتغذية الأعمال القتالية في ليبيا بالمال والسلاح.

وكشفت صحيفة البيان الإمارتية تفاصيل عدة عن الدور الذي لعبته قطر في ليبيا، نقلا عن القيادي في المجلس الانتقالي خالد الترجمان الذي أجرت معه حوار تحدث فيه عن الدعم الذي تلقته الجماعات المتطرفة والمليشيات المسلحة، حيث يقول إن الدور القطري بدأ مبكرا جدا في أحداث فبراير وظهر جليا بمجرد تشكيل المجلس الانتقالي، حيث قدم ستة أشخاص من قطر يمثلون تيار الإخوان وأصبحوا أعضاء في المجلس الوطني، وشكلوا لاحقاً حلقة الوصل بين المجلس والحكومة القطرية وعلى رأسها أمير قطر السابق، مضيفا أن قطر في هذا الوقت المبكر بدأت في حشد المجموعات المسلحة التي تنتمي غالبيتها إلى الإسلام السياسي وعلى رأسها الجماعة الليبية المقاتلة وبقايا تنظيم القاعدة والمجموعات التي ترتبط بتنظيم الإخوان، وفي مقدمتها ما سمي بعد ذلك بالدروع.

وكانت قطر تمد هذه المجموعات بالسلاح التي تشتمل على مختلف أنواع الأسلحة بما فيها الثقيلة كالمدافع وراجمات الصواريخ، التي كانت تصل جوا عن طريق طائرات لاتخضع لأي رقابة من السلطات الليبية، وكانت تخزن بمعرفة قادة جماعة الإخوان.

ووفقا لتقرير "البيان" فقد قدمت السلطات القطرية إغراءات مالية لكثير من أعضاء المجلس الانتقالي خلال الزيارات التي قاموا بها إلى الدوحة، سواء من المنتمين لحركة الإخوان أو المتعاطفين معهم، أو ممن لم يكن لديهم موقف وطني واضح.

ويقول الترجمان ثبت في محاضر اجتماعات المجلس كل الزيارات التي قام بها هؤلاء إلى الدوحة، والأموال التي قدمت لهم هناك، مؤكدا أن هؤلاء عادوا بأموال محددة من قطر تبدأ من 250 ألف دولار إلى نصف مليون دولار للشخص الواحد، حيث عقد أكثر من اجتماع لبحث هذا الملف، رغم اعتراض أعضاء المجلس من المنتمين لحركة الإخوان، ووثقت كل وقائع استلام هؤلاء للأموال القطرية بالتواريخ والأسماء.

ولعل خطورة الدور القطر تبرز بشكل مباشر في الدعم الذي كانت تقدمه لزعماء الجماعات المتطرفة وعناصرها من الإرهابيين الذين كانوا لا ينقطعون عن الدوحة وكانوا يجلبون الأموال والسلاح والذخائر، وبدأت في خطة ممنهجة لتصفية أفراد الجيش والشرطة لتنفرد المليشيات بالسيطرة على المشهد في البلاد، وكانت البداية بتصفية عبدالفتاح يونس الذي كان على خلاف مع المجموعات والميليشيات المسلحة، وتؤكد عدة تقارير تورط قطر في تصفيته، لأن من اغتاله يأتمر بأوامر قطر ويتلقى منها الأموال والسلاح، واستمر منهج الاغتيالات والتصفيات الجسدية في حق أفراد الجيش والشرطة والأجهزة الأمنية خلال الفترة الممتدة من 2011 وحتى منتصف سنة 2014 حيث بدأت عملية عسكرية واسعة بدأها أبناء مدينة بنغازي ممن قتل أبناءهم وذويهم ليلتحق بها عدد من الجنود والضباط لتتحول فيما بعد لما عرف بعملية الكرامة. 

أهم التنظيمات المتطرفة

كشف المحلل السياسي الليبي عيسى عبد القيوم في حوار أجرته معه بوابة افريقيا الإخبارية عن أهم التنظيمات المتطرفة في ليبيا وتحالفاتها ومراحل تطورها منذ أحداث 17 فبراير 2011

وقال عبد القيوم إن أغلب الحركات الإسلامية الليبية شاركت في أحداث 2011 بل وحافظ بعضها على سلميتها مع انتهاء الاحداث واتجه بعضها إلى تكوين أحزاب سياسية، خاضت غمار أول تجربة انتخابية، إبّان انتخابات المؤتمر الوطني العام سنة 2012.

وأضاف عبد القيوم "كونت جماعة الإخوان المسلمين حزب العدالة والبناء (بقيادة محمد صوان)، وهو يعتبر ذراعاً سياسيا للجماعة رغم التحاق شخصيات ليبية مستقلة بقيادته مركزياً وفي عدد من المدن الليبية، لتفوز بــ 17 مقعداً في المؤتمر ضمن القائمات الحزبية وعدداً مهما من المقاعد ضمن القائمات على الأفراد، وحقائب وزارية ضمن أول حكومه برئاسة علي زيدان" مضيفا "تم تكوين حزب الإصلاح والتنمية، بقيادة خالد الورشفاني (وهو أحد أعضاء الجماعة السابقين)، إلا أن هذا الحزب انتهى سريعاً بسبب انضمام عدد قليل لعضويته". 

وأردف عبد القيوم أنه "تم تشكيل حزبين سياسيين من طرف بعض قيادات الحركة الإسلامية للتغيير (وريثة الجماعة الليبية المقاتلة)، إذ كون عبد الحكيم بلحاج (حزب الوطن)، وهو الحزب الذي لم يفز سوى بمقعد وحيد في انتخابات سنة 2012 ضمن القائمات الحزبية في ما حصد بعض المقاعد في القائمات على الأفراد كما كونت مجموعة أخرى من الجماعة حزب الأمة الوسط، وهو الذي تٍرأسه مفتي الجماعة السابق سامي الساعدي، وقد حصل على مقعد واحد، شغله (عبد الوهاب القايد) شقيق أبو يحيى الليبي

وأردف عبد القيوم أن حركة التجمع الإسلامي، والتي من أهم قياداتها عضو مجلس الرئاسة الحالي محمد لعماري زايد، أسست حزب الرسالة وهو حزب صغير رغم أن له عدد من المناصرين في العديد من المدن الليبية شرقا وغرباوأوضح عبد القيوم أن الجماعات السلفية كونت حزب الأصالة والمعاصرة المقرب من دار الإفتاء، والذي قاده علي السباعي، ولم يفز بأي تمثيل في انتخابات 2012

وتابع "بُعيد ظهور التجاذبات السياسية داخل المؤتمر الوطني، ارتبطت الأحزاب السياسية في البلاد بكتائب مسلحة، كانت قد دعمتها بالسلاح والمال، إبّان العمل المسلح عام 2011، فقد ارتبط حزب الوطن بلواء الدروع الموزّع على أكثر من مدينة في ليبيا، أبرزها بنغازي ومصراته، وهو من أقوى الألوية العسكرية في البلاد". وأشار عبد القيوم إلى أن بعض مجموعات الجماعة المقاتلة ارتبطت بكتائب عدة في طرابلس وبنغازي" وتابع "بعد تصاعد المواقف السياسية الذي انتهى بالإعلان عن نتائج الانتخابات البرلمانية الثانية، نهاية يوليو 2014، لتنتج الخلافات حول النتائج انطلاق عملية فجر ليبيا منذ أغسطس من العام نفسه عدة أشهر". 

بهذا يصبح من الواضح ما قامت وتقوم به كل من تركيا وقطر في ليبيا باستخدام أذرعها التي لا تزال تعمل على ضرب كل محاولات استعادة أجهزة ومؤسسات الدولة، لاسيما في بعض المدن والمناطق التي لاتزال ترزح تحت سطوة المليشيات والمجموعات المسلحة التي يقودها عناصر الجماعات المتطرفة، والتي لاتزال على اتصال مباشر مع الدوحة وأنقرة لاسيما تلك المجموعات التي تختطف مدينة مصراتة حتى اليوم، وغيرها من المدن والمناطق الأخرى.