كم هو غريب ولافت حال المجتمع الدولي ومؤسساته الأممية، فهو لم ينهض حتى اللحظة بمسؤولياته تجاه شعب تيغراي الأثيوبي، ولم يحاسب، أو يسائل، أو يتجرأ حتى على وضع حد للنظام الأثيوبي، لارتكابه جرائم، وخرقه للقانون الدولي، وكل المواثيق والأعراف الأممية، وارتكابه الجرائم بحق الإنسانية، ولم يتحرك أيضا في اتجاه معاقبة هذا النظام. وفي هذا السياق حذر منسق الشؤون الإنسانية التابع للأمم المتحدة، مارك لوكوك، من أن المجاعة وشيكة في إقليم تيغراي المحاصر في إثيوبيا وشمالي البلاد، وأن هناك خطرا لوفاة مئات الآلاف، وقال مارك لوكوك، أن "الناس بدأوا يموتون من الجوع في منطقة تيغراي الشمالية التي ضربها الصراع في إثيوبيا، حيث تدهور الوضع الإنساني وما زال العنف الجنسي يستخدم كسلاح حرب". وأوضح أنه "ليس هناك شك في أن العنف الجنسي يستخدم في هذا الصراع كسلاح في الحرب، وكوسيلة لإذلال وترهيب وصدمة شعب بأكمله اليوم وكذلك للجيل القادم". وطالب "بأن يتوقف القتال"، ودعا إلى "زيادة حجم المساعدة الإنسانية بشكل كبير".

ووفقا للمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، يُواجه سُكان منطقة تيغراي اليوم مجاعة مُحتملة، حيث يحتاج 2.3 مليون شخص إلى مُساعدات غذائية طارئة. وقد أفاد مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية أن 4.5 مليون شخص 67 في المائة من سكان المنطقة، بحاجة إلى المساعدة. يُجادل البعض أن قوات الحكومة الاتحادية الإثيوبية تُعيق الوصول إلى المساعدات الإنسانية والمياه النظيفة. وبالمثل، هناك العديد من التقارير عن التدمير المُتعمد لمخازن الأغذية والأسواق التابعة للأمم المتحدة، مع وجود ما يصل إلى مليوني شخص مُشردين داخليًا اليوم، تُشكل منطقة تيغراي عبئًا كبيرا على الموارد الإنسانية في العالم في وقت تشتد فيه الحاجة إليها خاصة في منطقة شرق أفريقيا، وذلك راجع لاندلاع جائحة كوفيد 19 وغزو الجراد وانعدام الأمن الغذائي.

والثابت اليوم، أنّ عدم استعداد الحكومة الإثيوبية الواضح للسماح للمجتمع الدولي بتعزيز وسائل الوصول السريع وغير المشروط وغير المُقيد والمُستدام للمساعدات الإنسانية إلى جميع أنحاء تيغراي كان سببا في تفاقم الوضع السيئ الذي تعيشه المنطقة، وتشير بعض تقارير الأمم المتحدة ومُنظمات أخرى في تيغراي إلى احتمال وقوع انتهاكات خطيرة لاتفاقيات جنيف وغيرها من جوانب القانون الإنساني الدولي التي تحظر تجويع المدنيين والعقاب الجماعي، فهناك أيضا تقارير عما يمكن أن يُشكل عمليات التطهير العرقي والإبادة الجماعية بقيادة الدولة، فضلاً عن عدد كبير من عمليات الاغتصاب، فقد تم فصل عشرات الآلاف من التيغراي العاملين في مجالات حفظ السلام والأمن والجيش والشرطة والاستخبارات في إثيوبيا من وظائفهم وأحيانًا تم احتجازهم. وقت سابق، دعا وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، الاتحاد الأفريقي وشركاء دوليين آخرين، إلى المساعدة لمواجهة أزمة آخذة في التفاقم في منطقة تيغراي بشمال إثيوبيا، وأدان الفظائع التي تشير تقارير إلى ارتكابها هناك، وأشار بيان بلينكن إلى خيبة أمل متزايدة إزاء تعامل إثيوبيا وإريتريا المجاورة مع ما وصفه "بأزمة إنسانية آخذة في التفاقم" وجاءت تصريحات بلينكن بعدما أصدرت منظمة العفو الدولية تقريرا يتهم القوات الإريترية بقتل مئات المدنيين في تيغراي خلال 24 ساعة من العام الماضي، في واقعة وصفتها المنظمة بأنها ربما تكون جريمة في حق الإنسانية. 

وللأسف الشديد، فلغة الصلف والغرور والعنجهية تتصاعد في الخطاب السياسي والإعلامي الأثيوبي، وفي الممارسات اليومية على الأرض. حيث اتهمت إثيوبيا الولايات المتحدة، بالتدخل في شؤونها بعد أن أعلنت واشنطن فرض قيود على المساعدات الاقتصادية والأمنية لها بسبب انتهاكات حقوق الإنسان أثناء الصراع في منطقة تيغراي الواقعة في شمال البلاد. وقالت وزارة الخارجية الإثيوبية إنه إذا استمرت القيود الأمريكية "فستضطر أديس أبابا إلى إعادة تقييم العلاقات مع الولايات المتحدة، وهو ما يمكن أن تكون له تبعات تتجاوز علاقاتنا الثنائية". وأضاف بيان الخارجية الإثيوبية "ما هو أكثر إثارة للحزن هو اتجاه الإدارة الأمريكية إلى وضع الحكومة الإثيوبية على قدم المساواة مع الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي التي تم إعلانها منظمة إرهابية..."

وانطلاقا مما سبق، يبدو أن جائزة نوبل التي حصل عليها رئيس الوزراء الإثيوبي، آبي أحمد، كانت تتعلق فقط بالعلاقات العامة لتشكيل صورة دولية حميدة، وهنا لابد من الإشارة إلى أن التكريم مفيد خلال الهجوم الأخير على تيغراي، حيث تعمدت وسائل الإعلام الغربية بشكل روتيني ذكر جائزة نوبل التي حصل عليها إلى جانب مزاعمه بإجراء "عملية تتعلق بالقانون والنظام" ضد "جبهة تحرير شعب تيغراي"، حيث تمنحه جائزة نوبل مصداقية حيوية، ودونها، يمكن رؤية أفعاله بشكل أوضح على حقيقتها، واعتبارها جرائم ضد الإنسانية، فمنذ مجيء آبي إلى السلطة، دخلت أثيوبيا في اضطرابات واشتباكات عنيفة بين مجموعاتها العرقية. جدير بالذكر، أنه وبعد أسابيع من فوز رئيس الوزراء الإثيوبي، آبي أحمد بجائزة نوبل، رفضت "جبهة تحرير شعب تيغراي" الانضمام إلى الحزب الحاكم الجديد لآبي أحمد، الذي أطلق عليه اسم "حزب الرخاء"، متذمرة مما عدته تهميشاً واستهدافاً غير عادل عبر تحقيقات في شأن الفساد. وعاد قادة جبهة تحرير شعب تيغراي إلى منطقتهم، ليتهمهم آبي أحمد بمحاولة زعزعة استقرار البلاد. 

وعندما قرّرت الحكومة المركزية تأجيل الانتخابات التي كان مقرّراً إجراؤها في شهر آب 2020، على خلفية فيروس كورونا على الرغم من احتجاجات المعارضة، بدون تحديد موعد جديد. قرّر إقليم تيغراي تحدّي سلطات آبي أحمد من خلال المضي في إجراء الانتخابات الخاصة به في 9 أيلول الماضي، وصنّفت أديس أبابا حكومة تيغراي بأنها غير قانونية، في حين لم يعد قادة تيغراي بدورهم يعترفون بإدارة آبي أحمد لأن ولايته انتهت. وأثار التصويت مخاوف من أن الجبهة كانت تمهد الطريق لإنشاء دولة منشقة، مع تولي البرلمان والحكومة السلطة دون موافقة الحكومة الاتحادية، لكن الجبهة أكدت إنها ملتزمة بإبقاء الإقليم داخل إثيوبيا، وأوضحت أنها ستدافع عن "الحكم الذاتي"، وتعارض ما وصفته بمحاولة آبي أحمد لبناء دولة "موحدة" قوية. ومن جهتها قرّرت الحكومة تقليص الأموال الفدرالية المخصصة للمنطقة، وهو ما عدته "جبهة تحرير شعب تيغراي" بمثابة "عمل حربي". وأدّى اشتداد القتال إلى فرار الآلاف إلى السودان المجاور، فيما طالبت الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي بإنهاء القتال.

وللتذكير، فإقليم تيغراي يمثّل أحد أقاليم إثيوبيا العشرة، ويمثل سكانه نحو 6 بالمائة من مجموع سكان البلاد، الذين يتجاوز عددهم نحو 100 مليون نسمة، يتوزّعون بين نحو 80 مجموعة إثنية. وتعدّ "الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي" أبرز تنظيم مسلّح ظهر منذ ثمانينيات القرن المنصرم، عندما تردّت الأوضاع إبان حكم الرئيس منغستو هايلي ماريام، ذو التوجهات اليسارية، وأدّت لانتشار مجاعات ذهب ضحيتها نحو 8 ملايين من سكان البلاد. وظلّت المجموعات المسلّحة التي كانت تنتمي لقومية محدّدة تقاتل عبر عمليات صغيرة، والاستثناء الوحيد كان هو الجبهة الشعبية لتيغراي، حيث كانت أكثر تنظيماً، ولديها تحالفات خارجية أبرزها التحالف مع "الجبهة الشعبية لتحرير إريتريا". وفي عام 1988، عقد مؤتمر لـ "المعارضة" داخل الأراضي السودانية، ضمّ ممثلين عن أربعة عشر تنظيماً إثيوبياً مسلّحاً، وأعلنت هذه التنظيمات أنها ستقاتل موحدة لإسقاط منغستو، وأعطيت قيادة التحالف لتيغراي، لأن قواتهم كانت الأكثر تدريباً وتسليحاً وتنظيماً. واستمرّ التحالف يقاتل على مدى ثلاثة أعوام، وعندما اقترب من الإطاحة بمنغستو عام 1990، عقد مؤتمر لندن للمعارضة الإثيوبية برعاية أمريكية بريطانية من أجل تنظيم المجموعات المعارضة تحت لافتة واحدة، ليتفق المؤتمرون مجدداً على قيادة تيغراي للتحالف على الرغم من وجود قيادات تقليدية لمجموعات قبلية بين المشاركين إضافة للقوات العسكرية والسياسية. وبعد عدّة أشهر دخلت قوات تحالف جبهة شعوب إثيوبيا، واستولت على الحكم ونصّب تاميرات لاينه رئيساً للبلاد في 28 أيار1991، وهو من قومية التيغراي، ثم خلفه مليس زناوي في 1995، عقب إجازة دستور جمهورية إثيوبيا الفدرالية. وشغل زناوي المنصب حتى وفاته عام 2012، ما جعل التيغراي يحكمون إثيوبيا على مدى أكثر من 20 عاماً تحت راية تحالف يسيطرون على مفاصله، إضافة إلى أن مليس زناوي استطاع السيطرة على التناقضات داخل التحالف ما جعل حتى الذين يتذمّرون من سيطرة التيغراي من المجموعات الأخرى يكتمون الأمر، ولم تظهر الحالة الاحتجاجية على سيطرة التيغراي إلا بعد وفاة زناوي وانتخاب سلفه هايلي مريام ديسالين، الذي ينتمي لمجموعة تحالف شعوب جنوبي إثيوبيا.

ومن باب الإنصاف، كان استهداف رئيس الوزراء الإثيوبي، آبي أحمد لـ"جبهة تحرير شعب تيغراي" مطروحاً منذ توليه السلطة قبل أكثر من عامين في الإدارات الإقليمية التسع في أثيوبيا، وعندما أصبح آبي أحمد رئيساً للوزراء في نيسان 2018، وهو أول رئيس حكومة من عرقية أورومو، الأكبر في البلاد. وباستلامه فقد التيغراي مناصب وزارية وبعض المناصب العسكرية العليا. والجدير بالذكر، أنّ "جبهة تحرير شعب تيغراي"، كانت تتمتع بنفوذ كبير في الحكم، فقام آبي أحمد بتهميش دورها وقمع سكان الإقليم وممارسة التمييز ضدهم، و"الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي" تتكون من عدة أحزاب إقليمية ذات طبيعة عرقية، والإقليم قريب من الحدود السودانية والأريترية، وتمتلك الجبهة خبرة كبيرة في القتال نتيجة مشاركاتها في الحرب الحدودية التي استمرت سنوات بين إثيوبيا وجارتها أريتريا، وتسيطر الجبهة على القيادة الشمالية للجيش الإثيوبي الذي يتكون من أربع جبهات، وتقدر المليشيات المحلية في إقليم تيغراي بنحو 250 ألف جندي، وهو ما يشكل خطراً على انقسام الجيش الإثيوبي الذي يتشكل على أسس عرقية. 

أما الأسباب القريبة للصدام المثير للقلق في إثيوبيا بين الحكومة الفدرالية والحزب الحاكم في منطقة تيغراي الشمالية، حسب مصادر أثيوبية، فتعود لاشتباه أهل تيغراي في أن رئيس الوزراء الإثيوبي، آبي أحمد، هو شخصية حصان طروادة هدفه إضعاف الاستقلال السياسي والاقتصادي لأثيوبيا من أجل إعادة تنظيم الدولة المهمة استراتيجياً بعيداً عن الشراكة مع الصين، لتكون منفتحة على رأس المال الغربي، ومن المفارقات أنه يتهم معارضة التيغراي بالخيانة. هذه هي الخلفية الجيوسياسية لاندلاع الحرب في أثيوبيا، حيث تهدف واشنطن فصل أثيوبيا عن خطط الصين للتنمية الاقتصادية العالمية، المعروفة باسم "طريق الحرير الجديد"، لذلك إن ثاني أكبر دولة في أفريقيا من حيث عدد السكان تنغمس في حرب كارثية تهدد بابتلاع القرن الأفريقي.

خلاصة الكلام: إنّ الوضع بمنطقة تيغراي مأساوي، حيث يوجد الآن مئات الآلاف من الأشخاص شمالي إثيوبيا في ظروف مجاعة... هذه أسوأ مشكلة مجاعة شهدها العالم منذ عقد من الزمان، منذ أن فقد ربع مليون صومالي حياتهم في المجاعة هناك عام 2011. وهذا الآن له أصداء مروعة للمأساة الهائلة في إثيوبيا عام 1984... لهذا يتعين على الإدارة الجديدة للرئيس الأمريكي جو بايدن ومجلس الأمن التابع للأمم المتحدة أخذ زمام المبادرة في معالجة العنف والحرمان في منطقة تيغراي الإثيوبية. فهناك مخاوف من أن الصراع الإقليمي الذي طال أمده سيكون له عواقب وخيمة على المدنيين في إثيوبيا وفي جميع أنحاء أفريقيا، وسيتورّط جيران إثيوبيا في الصراع، ما سيخلق أزمة إنسانية في ظل أوضاع اقتصادية معقدة، وسيدفع المدنيون الذين يعيشون بالفعل في ظروف محفوفة بالمخاطر، الثمن الباهظ لما يجري.



كاتب صحفي من المغرب.