التكوين القبلي يعد من أبرز العوامل التي أثرت في تشكيل الحياة السياسية في ليبيا على مر تاريخها. فقد قامت القبائل وزعماؤها بقيادة الكفاح المسلح ضد المستعمر الايطالى ما بين عامى 1911 و 1943، وعندما نجحت المقاومة فى اجبار المستعمر الايطالى على الخروج قامت عائلة الأدريسي بتمثيل ليبيا فى اجتماعات الأمم المتحدة بداية من عام 1949. و قام رؤساء القبائل بعقد عدة اجتماعات كممثلين للشعب فى بني غازي للتوصل الى دستور للبلاد يؤطر لأول ملكية دستورية.
ولأول مرة فى تاريخ ليبيا تم تشريع دستور يمثل قواعد أساسيه لحفظ حقوق الأفراد العامة و الخاصة فى عام 1951 تحت قيادة عائلة الإدريسي. ولكن فى سبتمبر 1961 قام معمر القذافى ومعه مجموعة من الضباط الشبان بعمل انقلاب عسكري وأعلنوا قيام الجمهورية التى ما لبثت أن تحولت الى النظام "الجماهيري" (الذى حاول فيه تطبيق ما سماه الحكم التنفيذي للمؤتمرات و اللجان الشعبية ) فى عام 1977.
القبلية و العملية السياسية قبل الثورة
استمرت القبلية فى التأثير على العملية السياسية فى ليبيا فى عهد الرئيس الديكتاتوري معمر القذافي ، حيث كانت الساحة السياسية تشكو فراغًا كبيرًا نتيجة غياب الدستور و دولة القانون و انعدام القدرة على تكوين الأحزاب والنقابات وهو ما جعل القبيلة هي المظلة الوطنية الرئيسية ، وأحيانا الوحيدة ، التى يستطيع المواطنون من خلالها ممارسة أوجه النشاط العام بصورة شبه مستقلة. وهو ما أوجد قيادات شعبية اجتماعية كانت تعمل أساسًا على توفير الحماية، وتحصيل الحقوق، والحصول على الوظائف في أجهزة الدولة، كلٌّ حسب قوة قبيلته أو درجة قربه أو ولائه للنظام الحاكم.
وفى ظل غياب القانون و الدستور قامت القبائل بتكوين الأعراف الاجتماعية لتسيير كافة أوجه الحياة فيما عرف بـ"دربة أولاد علي"، أو بالأحرى "شريعة الصحراء"، وهذا العُرف أو "الدربة" أصبح بمثابة قانون للعقوبات مستند اسمياً وجزئياً إلى الشريعة الإسلامية، ويتكون من 67 مادة تحدد أنماط العلاقات بين أعضاء القبيلة/القبائل، وأنواع الاعتداءات والعقوبات التقليدية التي توقع على من يرتكبها. والتزمت به جميع القبائل التي تدور في فلك أولاد علي، وأصبحت "الدربة" صمام الأمن والأمان بين أبناء القبائل في المنطقة المذكورة تقضي بينهم في كل مشاكلهم وأحوالهم المدنية والشخصية من جنح إلى جنايات.
وإزدهرت القبلية طوال حقبة القذافي التى امتدت اكثر من أربعين عاما تحت عباءة نظامه السياسى الفاشى من خلال المؤتمرات الشعبية، واللجان الشعبية، ومن خلال عمليات التصعيد والاختيار الشعبي للقيادات. فقد انتشر في ليبيا إبان عهد القذافي عملية "الكولسة"، وهي التنسيق والتشاور والاتفاق بين القبائل لتسمية أمين مؤتمر أو شعبية (محافظة) في الخفاء. و هو ما يعني أن الفائز بالمنصب لن يكون من خارج القبيلة فى أغلب الحالات.
وقام القذافى باستخدام عائدات النفط الهائلة ـ والتى مثلت معظم أوجه الدخل للدولة الليبية منذ اكتشاف حقول النفط فى نهاية الخمسينيات ـ فى شراء ولاء القبائل من خلال توزيع بعض عوائد النفظ مباشرة عليهم و على أعضاء قبيلتهم ،وأيضا من خلال توفير نظام دعم مالى ومادى يقوم بتوفير معظم متطلبات الحياة اليومية من غذاء ووقود وفرص تعليم وعمل بصورة شبه مجانية لجميع المواطنين. وعلى هذا الأساس استطاع القذافي طيلة عهده توظيف قبائل كبيرة وصغيرة في الشرق والغرب والجنوب حتى إنها تعهدت بالدفاع عنه إلى آخر لحظة فى حكمه ، قبيل اندلاع الثورة فى 17 فبراير 2011.
ولكن سياسة الرشوة التى اتبعها القذافى واكبتها أيضا  سياسة قمع و اضطهاد و تفرقة بين المواطنين والقبائل على حسب ولائهم لشخصه ولنظامه وأفكاره. فعلى سبيل المثال ، قام القذافى باضطهاد عائلات بالكامل و منعها من اية فرص ومزايا بالدولة بسبب قيام بعض افرادها بمعارضته. و لم يقتصر التنكيل على عائلة او قبيلة، و انما امتد الى مناطق جغرافية بالكامل، منها على سبيل المثال الأقليم الشرقي بطبرق (ما يعرف أيضا ببني غازي وما حولها) و الذى شهد ـ تاريخيا ـ ولادة الدولة الملكية ، وأزعج القذافى من خلال تاريخه النضالى ضد الاحتلال الايطالى. وبات واضحا للعيان بمرور الوقت الفارق الشاسع  بين ما توفره الدولة من ميزانية للتنمية والتعليم و الصحة فى ذلك الأقليم مقارنة بطرابلس العاصمة و المناطق المؤيدة لقذافى. وهذا هو السبب الرئيس فى إندلاع الاحتجاجات و المظاهرات من ذلك الأقليم أولا ، فور نجاح الثورات العربية الأخري فى مصر و تونس فى اقصاء أنظمتهما الديكتاتورية.
القبلية والإنتخابات بعد الثورة
فور تشكيل المجلس الانتقالى الليبي فى فبراير 2011 قام بإعلان دستور مؤقت للبلاد حتى اسقاط القذافي. وتم الاعتراف الرسمي من قبل الأمم المتحدة بالحكومة الإنتقالية الليبية الجديدة فى اكتوبر 2011. و تشهد ليبيا منذ ذلك الوقت مرحلة انتقالية لتأسيس دستور ونظام حكم دائم جديد. حيث تم تسليم السلطة إلى المؤتمر الوطني العام في الثامن من أغسطس 2012، بعد انتخابه لأول مرة في تاريخ البلاد في السابع من شهر يوليو 2012. ويدير المؤتمر شؤون البلاد لمدة عام ونصف ينتخب خلالها رئيسا ونائبا ثم رئيسا للحكومة ثم يبدأ الإعداد لانتخاب أعضاء لجنة صياغة الدستور.
وقد كان واضحا منذ بداية العملية الانتخابية أن القبلية لا تزال المحور الرئيس الذى يشكل اتجاهات الناخبين والأحزاب السياسية. فقد اعترضت بعض القبائل على القانون الإنتخابي من منطلق ما تراه ضعفا في حصصها  الخاصة بتوزيع مقاعد المجلس الوطني ، بعد أن تم تحديدها بحسب النطاق الجغرافي. ففى قانون الإنتخابات وزعت المقاعد الـ200 مقعد ، بحيث يهيمن غرب البلاد وعاصمته طرابلس على أكثر من نصف المقاعد ، وهو ما يعني أنه سيشكل الرؤية السياسية المقبلة ، وأن طرابلس سوف تحصل على حق النقض وأنه لن يتم اتخاذ أي قرار بدونها، بينما يمكن إصدار أي قرار بدون موافقة الشرق والجنوب؛ حيث يصل نصيب الشرق إلى 69 مقعدا مقابل 38 للجنوب.
وبالرغم من أن ليبيا شهدت عملية كبيرة من الحشد والمشاركة لإجراء انتخابات عامة لأول مرة على سبيل غير جهوى او قبلي , حيث كانت الإتنخابات الأخيرة أول انتخابات حقيقية تنظم في ليبيا منذ الحكم الملكى شبه النيابي فى الستينيات حيث قام اكثر من 7,2 مليون ليبي بتسجيل أسمائهم في سجلات الناخبين، بما يعادل نحو 80% ممن لهم حق التصويت. كما لم تصدر الحكومة اية قيود على تشكيل الأحزاب، مما ساعد فى تشكيل العشرات من الأحزاب والتكتلات الإنتخابيه، من مختلف التوجهات الفكريه والسياسيه، وبلغ عدد المرشحين المستقلين للإنتخابات 2119 مرشحا، تنافسوا على 120 مقعدا، فيما تنافس على المقاعد الـ80 المخصصه للأحزاب 517 مرشحا، نصفهم تقريبا من النساء، وهو ايضا عامل جديد على النظام القبلي المعتاد الذى طالما ما مثل الناخب فيه زعيم القبيلة من الرجال. وعقدت الإنتخابات في ليبيا بنظام القوائم الحزبية ، حيث خصص لها 40% من عدد المقاعد، والنظام الفردي المستقل وخصص له 60% من عدد المقاعد. وأسفرت الإنتخابات عن تفوق تحالف القوى الوطنية الذي يقوده محمود جبريل المحسوب على التيار الليبرالى  وعلى الأحزاب الإسلامية، وحصل على 39 مقعدًا من 80 مقعدًا المخصصة للكتل السياسية، مقابل 17 مقعدًا لحزب العدالة والبناء. بينما فاز بمقاعد المستقلين ، و عددها 120 مقعدا، أغلبية من الأفراد ذوى الصلات القبلية و العشائرية. ورغم فوزه على الإسلاميين في الإنتخابات التشريعية فى المقاعد المخصصة للأحزاب ، فقد اخفق تحالف الليبراليين الليبيين برئاسة رئيس الوزراء الإنتقالي السابق أحمد جبريل في تولي المناصب الاساسية في الحكم في جمعية وطنية يهيمن عليها المستقلون.  فحصولهم على الأغلبية مكنهم من التصويت على الحكومة الجديدة بدون تحيزات سياسية واضحة ولكن باعتبارات جهوية وقبلية بحتة.
وأيضا أسفرت نتائج الإنتخابات بتغليب العصبية القبلية على التوجه السياسي والأيديولوجي. فعلى الرغم من استطاعة الإسلاميين الفوز بأغلبية مقاعد الإنتخابات التى أجريت بعد الثورة فى الدول المجاورة و المحيطة بليبيا كمصر وتونس ، فإن المعارضة الإسلامية فى ليبيا أخفقت فى اللحاق بمثيلاتها. وأجمع المحللون على ان البُعد القبلي فى ليبيا هو السبب الرئيس في ذلك ، نتيجة عدم وجود خبرة سياسية وانتخابية لدى التيارات الدينية الليبية فى بلد شهد انتخابات حقيقية لأول مرة فى تاريخها، وحيث تعامل الناخبون الليبيون مع ممثليهم من منطلق العصبية والقرابة كمصدر للثقة. و بالاضافة الى ذلك، شكل تناغم النظام القبلي الليبى مع الأعراف الدينية الاسلامية مع احترام وتقديس القبيلة للإسلام كمصدر للتشريع عامل اختلاف كبير عن ناخبي مصر وتونس الذين عاشوا فى ظل حكم مدنى و أحيانا علماني ومعاد للتوجهات الدينية فى الغالب ، مما أعطى قوة دافعة للقوى السياسية الاسلامية فى مصر وتونس لطرح نفسها كبديل سياسي جديد ، على خلاف الوضع الليبى.
وشكلت الاشتباكات والصراعات المسلحة بين القبائل اثناء الإنتخابات عامل ضغط سياسي أثّرعلى العملية السياسية وأجبر المشاركين فيها على احترام قواعد العمل القبلي. ففى دولة خرجت من حرب أهلية عصيبة لا تزال هناك  حوالى 20 مليون قطعة سلاح بيد المواطنين الليبيين، وهو ما يمثل خطورة كبيرة على الحالة الأمنية العامة في البلاد على مدى العامين التاليين للثورة، حيث كانت تحدث إحتكاكات ونزاعات مسلحة كل بضعة أشهر توقف وتؤجل مسارات العمل العام،بما فيها العملية الإنتخابية نفسها. وطرحت تلك الاحتجاجات والصراعات المسلحة أجندتها المتمثلة فى قضايا خطيرة وملحة على السياسيين والحكومات المتعاقبة ، من أهمها غياب معالجة حقيقية لقضية العدالة الإنتقالية وإعادة إدماج بقايا النظام السابق فى الحياة العامة او محاكمة قياداته بتهم تتعلق بجرائم حرب او فساد. فالليبيون يطمحون إلى تحقيق المصالحة الشاملة في بلادهم عن طريق توسط و مشاركة زعماء القبائل والنخب السياسية لاحتواء أثار حرب أهلية التي أدت إلى سقوط أكثر من 50 ألف قتيل و 10 آلاف مفقود وتهجير حوالى مليون ليبي إلى الخارج. ولكن مناقشة دور القبلية فى العملية السياسية دائما ما تأخذ منحى خطرا عندما تطرح قضية الفيدرالية او الكونفيدرالية كأساس للحكم في مرحلة ما بعد الثورة. فالتكوين القبلي يدفع باعتبار التوزيع الجغرافي وأماكن النفوذ كمعيار للحكم الذاتي و المحلى بين أقطار ليبيا الثلاث (الشرق و الغرب و الجنوب) . و فى ظل الفارق الرهيب فى المصادر الطبيعية وانعدام وجود اقتصاد ليبي إنتاجي خارج صناعة استخراج و تكرير البترول ، تتعاظم فرص الصدام بين مناطق الشرق، حيث تتركز أغلبية مناطق استخراج البترول، وتنعدم التنمية الإقصادية والإجتماعية، وبين النخب السياسية و الحكومية فى الأغلبية النامية بطرابلس والغرب الليبي، ومعظم تلك المشاكل ناتجة من ماضى التفرقة البغيض لحكومة القذافي فى معاملة القبائل والمناطق الجغرافية وفشله فى تكوين اقتصاد ليبي قوى. ولكن يظل البعد السياسي للأزمة متمثلا فى الرغبة فى تكوين حكم لا مركزي لا تتركز فيه السلطة بيد جهة محددة مع تفعيل دور الدولة للقيام بدورها فى مرحلة الإنتقال الديمقراطي الحساسة فى ظل غياب الأمن وعدم الإستقرار الإقتصادي من جهة أخرى. و تتفاقم المشكلة مع عدم توافر وعى سياسي و خبرة كافية لدى الناخبين الليبيين فى التعامل المباشر مع الدولة بدون وجود وسيط من العائلة أو القبيلة وهى خبرة يكتسبها المواطنون فى الدول الديمقراطية من خلال عملية شاملة ومتكاملة من خلال مؤسسات مستقلة و مؤسسات المجتمع مدنى و اعلام حر يذيب الفروق بين المواطنين و يغلب الانتماء للدولة على الانتماء للقبيلة ، و هو ما تنتظره ليبيا فيما أذا نجحت تجربتها فى التحول الديمقراطي على المدى الطويل.
المصادر :
تقرير بيت الحرية : دول على مفترق طرق فى ليبيا لعام 2011
تقرير وزارة الخارجية الأمريكية عن حقوق الانسان فى ليبيا لعام 2011
تقارير الجزيرة الأخبارية العربية عن الانتخابات الليبية و تأثير القبلية من موقع المعرفة بالجزيرة نت العربية :
هل تحررت ليبيا من القبائل
برنامج ليبيا ما بعد الانتخابات
 

المصدر : الديمقراطية ويب