في تموز/يوليو المنصرم امتدت معارك الميلشيات في ليبيا إلى العاصمة طرابلس - بعد أن كانت محصورة بشكل رئيسي في بنغازي - ولا تظهر أي علامات على الانحسار. ووفقاً للموقع الإلكتروني "ضحايا حرب ليبيا" (Libya Body Count) الذي بدأ يتتبع عدد الوفيات الناتجة عن أعمال العنف منذ كانون الثاني/يناير 2014، شهد شهر تموز/يوليو سقوط 469 ضحية على الأقل في جميع أنحاء البلاد، أي أكثر من تسعة أضعاف عدد الضحايا المسجل في حزيران/يونيو. كما أفادت "بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا" عن تعرّض المدنيين في طرابلس وبنغازي للاعتداءات و"الجرائم الجماعية"، فيما أطلقت دولتان مجاورتان تملكان جيشاً قوياً، هما مصر والجزائر، نداءً شفهياً دعتا فيه إلى تدخل القوى الغربية أو حتى تدخل مصر والجزائر نفسيهما. وفي هذا السياق أعلن السفير البريطاني السابق لدى ليبيا، السير ريتشارد دالتون، أن بريطانيا ودول الاتحاد الأوروبي قد ترسل جنودها إلى ليبيا لو تقدمت السلطات الليبية بمثل هذا الطلب.

طرابلس

في المنطقة المحيطة بمطار طرابلس الدولي وفي جنوب وجنوب غرب طرابلس، تقاتل الميليشيات الإسلامية من مصراتة إلى جانب حلفائها الإقليميين ضد القوات الزنتانية الوطنية وحلفائها. وقد قُتل نتيجة هذه الاشتباكات أكثر من مئة شخص في حين تم قصف مستودعات وقود ضخمة مرتين وإضرام النيران فيها، مما أثار مخاوف من حدوث أزمة إنسانية وبيئية.

ويعم اليأس جميع أنحاء طرابلس. فقد فرغت رفوف المتاجر من بضائعها، وشحّت إمدادات الوقود، ناهيك عن انقطاع المياه والكهرباء عن السكان لساعات طويلة. ومن غير المرجح أيضاً أن يعود التلاميذ إلى مدارسهم في أيلول/سبتمبر، في الوقت الذي يقول فيه بعض الأهالي إنّ القتال بات أسوأ مما كان عليه في عام 2011. وعلاوة على ذلك، تعهدت قوات مصراتة بأن المعركة لن تنتهي في طرابلس بل في الزنتان، الأمر الذي يوحي بأن القتال سيستمر على الأرجح.

وقد أدى الانهيار الأمني إلى حدوث موجة نزوح جماعي من ليبيا خلال الشهر الماضي. فقد فرّ نحو 50 ألف مصري فيما هرب أكثر من 25 ألف ليبي إلى تونس، التي تفيد بعض التقارير أنها استقبلت أكثر من مليون لاجئ ليبي منذ اندلاع الثورة الليبية عام 2011. لكن هذه المرة، وقعت اشتباكات مميتة وتدافعات عند معبر "رأس جدير"، مما اضطُر تونس إلى إغلاق حدودها في الأول من آب/أغسطس. وسابقاً كانت تونس قد دعت 50,000 إلى 60,000 من مواطنيها في ليبيا إلى العودة إلى البلاد، لكن لا يزال من غير الواضح كيف سيتمكنون من القيام بذلك في ظل إغلاق الحدود.

وفي السياق نفسه سعت عدة دول إلى إخراج رعاياها من ليبيا، من بينها الصين التي أجلت 700 مواطن صيني. وتأمل الفلبين بإجلاء 13 ألف مواطن فلبيني، الذين يشكلون نحو 60 في المئة من عمال المستشفيات في ليبيا، مما ينذر بعبء كبير على نظام العناية الصحية في البلاد. ومن جهة أخرى أعلنت الجزائر أنها سترحّل اللاجئين الليبيين لديها عبر تونس.

وترافق ذلك مع قيام بعض الدول الرئيسية، من بينها الولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا وإسبانيا وهولندا واليابان وبريطانيا، بإغلاق سفاراتها في العاصمة مما زاد من عزلة طرابلس عن الفاعلين الدوليين. كما أن موظفي الأمم المتحدة غادروا البلاد أيضاً.

بنغازي

في هذه الأثناء يستمر العنف في بنغازي، المدينة التي مزقتها الصراعات - بين القوى الوطنية والإسلامية - بدرجات متفاوتة من التطرف. [فقوات] اللواء خليفة حفتر الذي يقود "عملية الكرامة"، التي تدّعي أنها [تضم] جيش الدولة الشرعي الوحيد وتحضى بدعمٍ من الاتحاديين والعشائر الشرقية الكبيرة، تتكبد الخسائر على أيدي "أنصار الشريعة - التنظيم المصنف على لائحة الولايات المتحدة للإرهاب - وحلفائه الإسلاميين. ومؤخراً ادّعى وزير الخارجية الليبي محمد عبد العزيز أنه يملك أدلةً على أن المقاتلين الليبيين والأجانب يسافرون إلى بنغازي من ساحات المعارك الأخرى كسوريا والعراق من أجل مساندة "أنصار الشريعة" و"مجلس شورى ثوار بنغازي".

وفي 29 تموز/يوليو، وردت تقارير عن اجتياح ألف مقاتل من تنظيم "أنصار الشريعة" وحلفائه لمقر "الكتيبة 36" التابعة للقوات الخاصة الليبية المعروفة بـ "الصاعقة" في منطقة بوعطني في بنغازي، حيث استولى المقاتلون الإسلاميون على معدات وذخائر عسكرية وأرغموا القوات الخاصة على "انسحاب تكتيكي" إلى ضواحي المدينة. واحتفالاً بهذا الانتصار أعلن زعيم "أنصار الشريعة" محمد الزهاوي عبر «إذاعة التوحيد» أن "بنغازي أصبحت إمارة إسلامية" - وبالطبع هذا إعلان سابق لأوانه ولكنه مع ذلك مثير للقلق.

عودة للعملية الديمقراطية؟

تحولت العيون حالياً نحو "مجلس النواب" الليبي المنتخب حديثاً، وهو المعلم المتبقي من آثار الدولة الذي قد يثبت قدرته على تخفيف حدة العنف حتى ولو جزئياً. ففي الثاني من آب/أغسطس، أي قبل يومين من انعقاد جلسته الرسمية، شارك 158عضواً من أصل 188 من أعضاء المجلس في اجتماع طارئ عُقد في طبرق - ثامن أكبر مدينة في ليبيا واقعة إلى أقصى الشرق. وقد أشار مكان انعقاد الجلسة إلى مدى انتشار عدم الاستقرار في المراكز السكانية الكبرى في البلاد.

وفي حين كان الهدف من الاجتماع الطارئ هو "توحيد الأمة"، سرعان ما ظهرت الانقسامات. فقد استهزأ رئيس "المؤتمر الوطني العام" المنتهية ولايته نوري أبو سهمين بالجلسة واعتبرها غير شرعية، مصرّاً على إقامة مراسم تسليم [المسؤولية] في طرابلس. وعلاوة على ذلك، عمد الممثلون الثلاثون الغائبون عن الاجتماع - ومعظمهم إسلاميون متحالفون مع جماعة «الإخوان المسلمين» في مصراتة - إلى مقاطعة الجلسة أو مجرد تخلّفوا عن الحضور، إذ اختار بعضهم الاجتماع في مصراتة عوضاً عن ذلك.

وتتفاوت التخمينات، لكن يبدو أن "مجلس النواب" سيجمع بين 50-60 قومياً و26-28 اتحادياً و30 إسلامياً مع الأعضاء الباقين الذين هم من المستقلين. وحتى في غياب الأرقام الدقيقة، من الواضح أن التوجه الإسلامي لم يحقق في هذه الجولة النجاح الذي حصل عليه في انتخابات "المؤتمر الوطني العام" عام 2013. بل حتى تم انتخاب القومي عقيلة صالح عيسى - من مدينة القبة - المعادي للإسلاميين رئيساً لـ "المجلس".

من الممكن أن تشير مقاطعة الإسلاميين للجلسة، إلى جانب المشاحنات بشأن مراسم تسليم [المسؤولية]، إلى صعوبة تشكيل حكومة وحدة وطنية، ولكن نظراً لتضاؤل عدد المعارضين الإسلاميين [في "مجلس النواب"] عما كان عليه في "المؤتمر الوطني العام"، قد لا تكون هذه النتيجة مستحيلة. فمثل هذه الحكومة ستمنح مجالاً أوسع للعمل وشرعية أكبر لـ "لجنة صياغة الدستور" - الهيئة الليبية الأخرى التي تشكلت بانتخابات مباشرة - التي من المنتظر أن تضع أول دستور للبلاد منذ أكثر من أربعة عقود.

الحاجة إلى المزيد من المساعدات

مع دخول القتال أسبوعه الثالث في طرابلس وحيث يحكم المتشددون الإسلاميون سيطرتهم على بنغازي، يزداد الحديث من منطلق البلدات والقبائل بين الليبيين الذين يخشون أن تسير بلادهم على خطى الصومال. وقد حذّر وزير الخارجية الليبية محمد عبد العزيز، تفادياً لتفكك الدولة، بأنه سيطلب توسيع "بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا" فضلاً عن طلبه تلقّي معونة أكبر من الولايات المتحدة من أجل مواجهة التطرف وبناء مؤسسات الدولة.

وفي 28 تموز/يوليو، وإزاء الوضع المتدهور، لفت المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية إلى أن "التحديات في ليبيا سياسية في جوهرها وتتطلب حلاًّ عبر الحوار". وفي 4 آب/أغسطس، أصدرت فرنسا وإيطاليا وألمانيا وبريطانيا والولايات المتحدة تصريحاً مشتركاً دعت فيه إلى وقف إطلاق النار على الفور واللجوء إلى الحوار السياسي السلمي. وخلال الخطاب الذي ألقاه مع رئيس الحكومة الليبية عبدالله الثني، أضاف وزير الخارجية الأمريكي جون كيري أنه "لا يمكن حل التحديات في ليبيا إلا من قبل الليبيين أنفسهم".

وفي الواقع، بوسع الحوار السياسي أن يوقف ظاهرياً القتال في شمال غرب ليبيا حيث سبق للفصائل المختلفة أن أيّدت العملية السياسية بالكلام فقط. كما أن الجهود الدولية المنسقة للتوسط لوقف إطلاق النار من خلال "بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا" و "مجلس النواب" قد تسهم في تعزيز فعالية وشرعية هذا الأخير. ولتحقيق هذه الغاية، جاءت خطوة مشجعة من قبل الأمم المتحدة أكدت فيها أنها لن تعترف بأي طرف يقاطع "مجلس النواب".

غير أن الحوار السياسي لن ينجح وحده في حل النزاع القائم في بنغازي ودرنة - التي وقعت منذ وقت طويل في أيدي الجماعات المتطرفة الغامضة - ومناطق أخرى في شمال شرقي ليبيا حيث التحديات أمنيةٌ بالدرجة الأولى. فالتنظيمات أمثال "أنصار الشريعة" لا تكتفي برفض الديمقراطية والحوار رفضاً قاطعاً، بل تشن أيضاً حملة حرب غير نظامية ضد العملية الانتقالية التي أعقبت الثورة.

ومع ذلك، يمكن لا بل يجب السعي إلى إقامة حوار سياسي بين اللواء حفتر و "مجلس النواب" من أجل بلوغ ثلاثة أهداف هي: (1) تأكيد دعم اللواء حفتر للعملية الديمقراطية التي أضعفتها تهديداته السابقة بحلّ "المؤتمر الوطني العام"؛ و(2) تشجيع حفتر على التخفيف من حدة خطاباته ضد الأحزاب السياسية الإسلامية التي جمع فيها كافة عناصر التطرف الإسلامي، وبالتالي قد يسهم في إنهاء مقاطعتها لـ "مجلس النواب"؛ و(3) التوفيق في النهاية بين قوات اللواء حفتر، التي تتكون بشكل رئيسي من عناصر الجيش والشرطة، وبين "مجلس النواب" وشرعيته الحديثة.

في هذا الإطار، يجب على الولايات المتحدة أن تستفيد من اتصالاتها باللواء حفتر - التي يفترض أنها تعود إلى أواخر الثمانينات حين انقلب على نظام القذافي - من أجل التوصل إلى مثل هذا الاتفاق مع "مجلس النواب". وفي مقابل توحيد قوات حفتر المسلحة مع ""مجلس النواب" والحكومة الجديدة التي ستنبثق عنه، يمكن للولايات المتحدة أن تقدّم بعد ذلك مساعدة أمنية أكبر بالتماشي مع ما يسعى إليه الوزير عبد العزيز لمحاربة تنظيم "أنصار الشريعة" وحلفائه في شمال شرق ليبيا.

وتنص استراتيجية الأمن القومي للولايات المتحدة بأن "أمريكا مهددة اليوم بالدول المفككة أكثر من الدول الغازية". ولولا "مجلس النواب" الليبي المنتخب حديثاً لكانت ليبيا أبرز مرشح لتصنّف كدولة منهارة. وعند اعتبار ليبيا دولة على شفير الانهيار، سيدرك المسؤولون بوضوح متزايد الحاجة إلى الحلول السياسية والأمنية على حد سواء.

 

*أندرو إينجل، هو مساعد باحث سابق في معهد واشنطن، ويعمل حالياً كمحلل لشؤون أفريقيا. وكان قد سافر في جميع أنحاء ليبيا بعد تحريرها الرسمي وحصل مؤخراً على درجة الماجستير في دراسات الأمن من جامعة جورج تاون.