حرب السنوات الأربع القاسية في بنغازي ثاني كبرى المدن الليبية، التي انتهت بإخراج الميليشيات والجماعات المسلحة، والتي خلفت دمارا كبيرا في البنية التحتية والطرقات والمنازل، وآلاف النازحين داخل المدينة وخارجها مازالوا ينتظرون الانتهاء من عمليات التمشيط ومن ثمّة إعادة الاعمار للعودة إلى أحيائهم ومنازلهم، خلّفت أيضًا عشرات القصص الإنسانيّة، ونحتت في الذاكرة الليبية صورًا لأشخاصٍ انحازوا إلى الإنساني، وحرصوا على بذر الحياة وسط الدمار والموت والخراب.

محمود العوامي، أحد هؤلاء الذين يرسمون قصصا خاصة في تميزها الإنساني، الرّجل الأربعيني، الذي خسر ثلاث أصابع في قدمه، جراء تفجير أوّل، وإصابات بمختلف مناطق جسده، ثمّ نجا من انفجار ثانٍ مات فيه أربعة من مرافقيه، اختار التطوّع في عمليات نزع الألغام في المدينة وإزالة المتفجرات التي خلفتها الحرب في مختلف أحياء بنغازي وضواحيها.

العوامي مدرّس موسيقى، وعازف على آلة العود، يدرّس العزف والمقامات الموسيقى للتلاميذ منذ عدّة سنوات، لكن منذ سنوات الحرب الأخيرة التي دمّرت أجزاء مهمة من المدينة وبنيتها التحتيّة وخلّفت وراءها قطعا مدفونة من الألغام والمتفجرات، صار العوّامي ينتقل بعد دروسه في الفصل إلى ساحات المعارك الخلفيّة والأحياء والمناطق المحررة لتنظيف تلك الأماكن من الموت المزروع تحت التراب.

قصّة محمود العوّامي، الذي يتنقّل يوميًا بين نقيضين: بين الفن والموسيقى والأطفال والتلاميذ، وبين عالم مناقض تمام، قائم على الموت والدمار والخوف والحديد والبارود والشظايا، قصّة يتناقلها الكثيرون في بنغازي كقصّة انسانيّة متميزة. كما كانت مادة لفيلم أجنبي من إنتاج قناة "روسيا اليوم" الإنجليزية، يتحدّث عن إزالة الألغام التي خلفها تنظيم داعش الإرهابي في ليبيا.




قصّة العوّامي تناولتها كذلك قناة "فرانس 24" الناطقة بالفرنسيّة في تقرير لها في منتصف العام الماضي، حيث رافقت الكاميرا أستاذ الموسيقى من فصله الدراسي الى ساحة إزالة الألغام ليروي عديد القصص التي عايشها، وذكرياته مع مهمته التطوعية في سلك الهندسة العسكرية التابع للجيش الليبي.

يقول العوّامي في الفيلم على خلفية مشهد له له في الفصل الدراسي وهو يدرّس الأطفال الموسيقى والعزف على الآلة العود، بأنّه "من ليبيا ويبلغ من العمر 42 عاما، وأب لأربع بنات".

ويضيف العوّامي "تعمّقت مع موضوع الألغام، وتعمّقت فيه أكثر مع صف الهندسة العسكريّة المتخصص في مجال الألغام".

وعن حياته العائلية يقول العوّامي، "طبيعي العائلة يخافون علي، وزوجتي تخاف علي، لكنهم يعرفون أنّي مؤمن بالقضية التي أقوم بها. وهم فقط يكتفون بأن يدعوا لي".

وعن أكثر المهمات التي بقيت عالقة في ذهنه يروي العوامي قصّة سيارة مفخّخة وجدوا فيها قرابة 38 دانة، عرض صورها، وكانت السيارة مجهزة للتفجير عن بعد، ويقول العوامي أنّ "الشّخص الذي عمل على تفخيخ هذه السيارة، كان شخصا احترافيا".

لا يستطيع محمود العوامي بدقّة تحديد عدد الألغام التي نزعها، لكنه يؤكّد بأنّ "عددها كبير جدًا" .

ويقول العوامي: "الحرب فرضت علينا، فنحن أناس مدنيون ولسنا عسكريين، لكن الحرب فرضت علينا، لأن الإرهابيين كانوا قاب قوسين أو أدنى من منازلنا، وكانوا يقصفوننا عشوائيا وكانوا يقتلون المدنيين، فوجدنا أنفسنا في مواجهتهم وتطوعنا مع الجيش".

وعرض الفيلم مقاطع لعملية تفكيك الألغام والمتفجرات، التي خلفتها الحرب والتنظيمات المسلحة في المدينة، وعمليات تفجيرها بعد ذلك عن بعد والتخلص منها، كما تحدّث العوامي عن زملائه الذين استشهدوا وهم يعملون على تنظيف المدينة من الألغام والمتفجرات، مؤكدا أن حوالي 7 من 10 أشخاص مقربين اليه من الذين يعمل معهم بشكل دائم ويومي قتلوا أثناء تأدية عملهم.

قصّة محمود العوّامي، الذي دفعته الحرب إلى الخروج من فصله المدرسي حيث يدرّس الأطفال قواعد الموسيقى والعزف، إلى ساحات القتال الخلفية والى الأحياء المدمّرة المزروعة بالموت والمتفجرات، أين خسر أصابع قدمه ويلازمه عرج مزمن وتشوهات كثيرة في جسده بسبب الشظايا والاتفجارات، دليل أنّ تجاوز مخلفات الحرب لا يحتاج فقط إمكانيات مالية وتقنية وعسكريّة، بل يحتاج أيضًا إلى أفراد مؤمنين بقيم نبيلة ومنحازين للإنساني، وبذر الحياة في مكان الدمار .