بعد مضى سبعة عقود على تأسيس حلف الناتو في "أبريل 1949" في فترة احتدام الحرب الباردة بين القطبين الأمريكي والسوفيتي حينئذ، من أجل الدفاع عن أوروبا ضد الأطماع الروسية "الاتحاد السوفيتي سابقا"، بات مستقبل حلف الناتو محفوفا بالكثير من المخاطر، وتُثار بشأنه الكثير من التساؤلات حول جدواه ومستقبله خاصة في ظل تزايد حدة التهديدات الإرهابية، والطموحات العسكرية للصين في منطقة جنوب وشرق آسيا والتي تمثل تهديدات إضافية.

واقع الأمر أن الحلف بالرغم من التغييرات التي شهدتها العقيدة العسكرية له خلال سبعين عامًا منذ النشأة وعلى مدار ثلاثين عامًا لانتهاء الحرب الباردة، إلا أن الموقف الأمريكي من استمرار تواجد الحلف كان مثار جدل كبير، سواء على المستوى الداخلي الأمريكي أو على المستوى الأوروبي الذي كان يحلم بأمن أوروبي خالص.

فلم يكن موقف الرئيس ترامب من حلف الناتو موقفا صادما للحلفاء الأوروبيين، عندما وصف الحلف في تغريدات له بأنه "عفا عليه الزمن" ولم تعد له حاجة"، ولكن كانت هناك مطالبات أمريكية للدول الأوروبية بزيادة مساهماتها العسكرية للحلف، فقد طلب وزير الدفاع الأمريكي الأسبق روبرت جيتس في عام 2011 من الحلفاء الأوروبيين أن يسهموا أكثر في الدفاع المشترك.

ثم انتقل موقف إدارة ترامب إلى مواقف أكثر براجماتية من خلال حسابات التكلفة والعائد، والذي تمثل في مطالبته أعضاء الناتو بزيادة مساهماتهم المالية وقال ترامب خلال كشفه عن استراتيجية الدفاع الصاروخي الجديدة للولايات المتحدة "سنكون مع حلف الأطلسي مئة بالمئة، ولكن كما قلت للدول الأعضاء في الحلف: يتعين عليكم تغيير العتاد، وعليكم أن تدفعوا".

وتحتل الولايات المتحدة المركز الأول في نسبة الإنفاق العسكري بين دول الحلف، حيث تبلغ مساهمتها 3.5% من قيمة الناتج القومي الإجمالي لها، وتنفق أغلب دول الحلف نسبا أقل من 2%، من نواتجها القومية، مع تعهد بأن تصل إلى نسبة 2% بحلول عام 2024، وهو ما يثير حفيظة الرئيس ترامب، وخلال عام 2018 بلغت قيمة المساهمة الأمريكية في موازنة الناتو حوالي 70% من إجمالي نفقات الحلف العسكرية.

مستقبل الناتو في خطر

مع استمرار النغمة الأمريكية التي تُثار بين الحين والآخر عن احتمالات الانسحاب الأمريكي من الحلف، يبدو أن المستقبل محفوف بالمخاطر والتحديات ولعل أبرز وأهم التحديات تلك النابعة من رؤية الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لدوره وجدوى بقاء الولايات المتحدة فيه، فضلا عن تكلفته المرتفعة.

كما يواجه الناتو تحديات متجددة تتمثل في التهديدات الروسية للقارة الأوروبية التي بدأت إرهاصاتها في جورجيا وأوكرانيا، ثم بلغت ذروتها مع انهيار معاهدة الصواريخ النووية متوسطة المدى التي التزمت بها موسكو وواشنطن لعقود طويلة.

وتأسيسًا على ذلك فإن العودة بالناتو إلى حلف دفاعي جماعي عن أوروبا يبدو حتميًّا مع غموض بالصورة حول المستقبل، ولمنع الانهيار الداخلي السريع ترى إدارة ترامب أنه يتعين على الحلف أن يركز على ثلاث مهام أساسية وينظم نفسه من أجلها للبقاء على قيد الحياة في السنوات القليلة المقبلة، وهي: القتال والفوز في المعركة ضد المتشددين سياسيًا وكذلك عسكريًا، الدفاع والردع في أوروبا مع وجود عسكري أكثر قوة في دول البلطيق وبولندا، التفاوض على طريقة جديدة لتسوية مؤقّتة مع روسيا على أساس المصالح المشتركة.

مكاسب وخسائر

دائمًا ما تثير مسألة الانسحاب الأمريكي من الحلف مخاوف الدول الأوروبية الداعمة له حيث يعتبرون خروج الولايات المتحدة من الحلف خطأ جيواستراتيجي، كما أن أنصار الناتو داخل أمريكا يعتبرون الانسحاب منه أحد أكثر الأشياء تدميرا للمصالح الأمريكية، وسيكبد الشركات الأمريكية المصنعة للأسلحة خسارة كبيرة لأن عضوية أمريكا بالناتو تيسر لها تصدير الأسلحة إلى السوق الأوروبية، ولذا كان للديمقراطيين رد فعل مؤيد للحلف تمثل في مبادرة رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي بزيارة مركز الحلف ببروكسل مع ممثلين للحزبين الديمقراطي والجمهوري، وحاليًا يبحث الكونجرس إصدار قانون يمنع الانسحاب من الحلف.

ووفقًا لكثير من المراقبين، فإن أمريكا تحقق الكثير من المكاسب نتيجة استمرار تواجدها في حلف الناتو، من أبرزها الاطلاع على المعلومات الاستخباراتية المهمة مع دول الحلف، ناهيك عن أن خروج أمريكا من الناتو يعد مكسبا كبيرا وأملا لروسيا تتطلع كثيرا لتحقيقه، ولذلك فإن تهديد ترامب بالانسحاب مسألة صعبة على الحلفاء الأوروبيين والأمريكيين على حد سواء.

ويؤمن محللون أمريكيون بأن الفائدة التي تعود على واشنطن من وجود حلف الناتو تفوق أي تكلفة تتحملها في هذا الشأن، ويرون أن انسحاب الولايات المتحدة من الناتو يعني أن تخسر واشنطن عشرات القواعد العسكرية البحرية والجوية التي تحتفظ بها في أوروبا، كما سيبعث ذلك برسائل سلبية للحلفاء الآسيويين مثل كوريا الجنوبية واليابان.

ويعتقد بعض الخبراء أن الحلف يقوم بدور مهم داعم للمصالح الأمريكية بعيدا عن المسرح الأوروبي. ويتم الاستشهاد بالحالة الأفغانية عندما هرعت دول الحلف لمساندة المجهود العسكري الأمريكي عقب أحداث 11 سبتمبر2001، وما زال هناك الآلاف من جنود الناتو في أفغانستان.

وقد أكد أمين عام الناتو ينس ستولتنبرج الذى تم تمديد ولايته مؤخرا حتى عام 2022، أن أعضاء الحلف لا يريدون حربا باردة جديدة مع روسيا، لكنه وجه انتقادات حادة لها واتهمها بالقيام بهجمات إلكترونية على حلفاء الناتو، وإنها توسع من وجودها العسكري في العالم، ودعاها للعودة لمعاهدة القوى النووية المتوسطة المدى، وفي المقابل اعتبر أن الولايات المتحدة هي عماد الحلف الذي وصفه بأنه أنجح تحالف في التاريخ، وأن الناتو يجب أن ينفق أكثر على شئون الدفاع، وهو ما يتفق مع مطالبات الرئيس الأمريكي في محاولة لاسترضاء الولايات المتحدة.

يبقى القول إن المتغيرات التي تشهدها الساحات الإقليمية والعالمية، والترتيبات الأمنية القائمة عليها، سوف تترك آثارها السلبية على جدوى وجوهر الوظيفة الأمنية لحلف الناتو، مع تداعيات الاقتصادات العالمية وارتفاع حجم الإنفاق العسكري على التسلح في العالم وفق تقرير سيبرى لعام 2018.