ما شهدته المدن التونسية من احتجاجات غير مسبوقة لكثافة عددها ضد حكم جماعة الإخوان المسلمين، تشير إلى أن الشعب التونسي قال كلمته لا لحكم الأخوان المسلمين الاقصائي الذي تمثله حركة النهضة، وبالتالي فإن المشهد العام ينبىء بنهاية حكم المرشد في تونس، فالاحتجاجات التي عمت المدن التونسية نزعت الشرعية عن حكم الإخوان، باعتبار أن الشرعية هي حد القبول الشعبي وما رفعه المحتجون من عبارات من أهمها مطالبة الغنوشي وحركته بالرحيل تشير إلى مدى الاحتقان الشعبي التونسي من السياسة الرعناء التي انتهجتها حكومات النهضة المتعاقبة. 

السؤال الزاخر بالدهشة: هل من موقف استراتيجي ينتظم التباين المرئي بين كل من تركيا والدول العربية في الموقف من هزيمة الإخوان المسلمين في تونس؟ فالنظام التركي استشاط غيظاً من هذا الذي تسميه "انقلاباً "! وفي هذا السياق، فقد اتهم رئيس البرلمان التونسي راشد الغنوشي، الأحد 25/07/2021، الرئيس التونسي قيس سعيّد بالانقلاب على الثورة والدستور، بعدما جمّد عمل البرلمان، وأقال الحكومة. لقد تعلق الغنوشي، بحبل مهترئ، كان لابد أن يهوي به، وهو لا يدري، حين قال في مقطع مصور بثه حزب النهضة الإسلامي، "أعتبر أن مجلس الشعب قائم، وسنعقد جلسة لمكتبي، وأن جميع مؤسسات الدولة قائمة، وأن أي إعلان يخالف ذلك، باطل". كان يوجه رسالة مستفزة للتونسيين، فلم يحمل خطابه شيئا محددا، يبشر بالأمل، للشعب الذي أوصله ـ في ظروف ثورة لم تكتمل ـ إلى مقعد الحكم. ومن الطبيعي أن تنقسم الآراء بين من يقطعون بأن ما حدث في تونس، هو انقلاب صريح على الثورة، وهؤلاء الذين ينفون ذلك ويقولون بل لقد كانت موجة ثورية جديدة - إن أردنا أن نتوخى الحذر في استخدام المصطلحات ولا نطلق عليها ثورة جديدة ـ قامت باسم الجماهير الحاشدة التي هي المعبرة عن الإرادة الشعبية. وهذا الخلاف لا يمكن حسمه نهائياً إلا بمراجعة بعض المفاهيم الذائعة وأهمها جميعاً مفهوم الانقلاب على الثورة والدستور!


الحجة الأهم في "الثورة المضادة" التي يواجه بها "الإخوان" أغلبية الشعب التونسي تتعلق بالشرعية، ولا مناص من الاعتراف بأن هذه الحجة قوية، وتستند إلى مرتكزات أساسية في النظرية السياسية المعاصرة للبناء الديمقراطي... ولكن! لاشك أن القضية مطروحة بقوة على نظرية الحكم بعيداً عن العواطف سواء أكانت باتجاه "حجة الشرعية" أم "حجة الشعب" ولا أطمح هنا لحل القضية لأن حلها سوف يأخذ منحى (سياسي ـ إيديولوجي) مهما كان الباحث موضوعياً، ولأن علم السياسة النظري شيء والتجربة العينية شيء آخر، كل ما أقدمه هنا مجرد تفكير في الحدث التونسي من دون تنظير.


 1- العلاقة بين الشكلانية والمعنى: التعلق بالدستور بهذا الشكل هو تعلق بالشكلانية بلا مضمون، وهذا أخطر ما يواجه الحياة السياسية في العصر الحديث، إن الحرفية والشكلانية تؤدي إلى "ربوبية النص" حتى لو كان ذلك ضاراً بالمجتمع، فالنص لا يقوم في ذاته وإنما لذاته، بمعنى أنه مرتبط بالجدوى والوظيفة المتوقعة منه، فإذا انتفت الوظيفة (أي المعنى) تنتفي مشروعية النص.


 2- العلاقة بين السلطة والشعب: السلطة لا تقوم إلا في خدمة الشعب، فهو الحامل وهي المحمول، ومصلحة الحامل شرط لحدوث المحمول، فلا يمكن للسلطة أن تدعي الدستورية إذا كان مصدرها (أي الشعب) لا يريدها، المشكلة هنا هي كيف يمكن إظهار إرادة الشعب بشكل موضوعي، هذه المشكلة اهتم بها ديغول في الجمهورية الخامسة ووجد أن أفضل الطرق لمعرفة رأي الشعب هو الاستفتاء، وقد استخدمه ووافق على نتائجه بشجاعة، بدليل أنه نفسه كان من ضحايا الاستفتاء عندما استقال، لأن الشعب رفض مشروعه. وهنا نتساءل بكل هدوء: ألا يكفي 
خروج الآلاف في الساحات بأغلب المحافظات التونسية، لتسقط "الشرعية الشكلانية" بواسطة الشرعية الحقيقية، شرعية الشعب؟ المبدأ المنطقي يقول إن السلطة تستمد مسوغها من الشعب، بينما لا يستمد الشعب مسوغ وجوده من السلطة.


3- فقه الضرورة: إضافة إلى ما سبق هناك ما يسمى بفقه الضرورة عندما يصبح الخيار الآخر ضاراً، أي غير ضروري، إن الالتزام بالضرورة ـ كما كان سبينوزا يقول ـ هو الحرية ذاتها، الحالة التونسية أوصلت تونس إلى ضرورة الخلاص من (الإخوان) أي الالتزام بالحرية، وإلا كان الخيار الآخر كارثياً.


 4- احترام الظاهرة: يؤكد نهج الواقعية السياسية أن الظاهرة ـ وليست الفكرة ـ أساس السلوك، وأن الاعتراف بالظاهرة عبر دراستها واكتشاف قوانينها شرط ضروري لاتخاذ القرار السياسي، ظاهرة رفض الشعب التونسي العارم "للإخوان" لا مثيل لها بهذه القوة في التاريخ المعاصر، وإن كل من لا يستجيب لهذه الظاهرة خارج عن الواقع عملياً، فالرومانسية في السياسة تؤدي إلى استلاب السياسي عن واقعه، وبالتالي فإن كل ما هو غير واقعي هو ـ كما كان هيغل يقول ـ غير معقول أصلاً. 
وأذكر أن صحيفة نيويورك تايمز، نشرت افتتاحية لها عام 1996، علقت فيها على تصريح للرئيس كلينتون، اعتبرته مخالفاً للقانون، حتى ولو جاء ما نطق به عفويا، دون أن يدري هو ذلك. وقالت: إن الشعب اختار الرئيس ليحقق له مطالب وأهدافا محددة، وإذا أخفق أو أخطأ، فمن حق الشعب أن يزيحه من مقعده، ويأتي بغيره.

المؤكد اليوم، في تونس عنصر واقعي ورمزي هام في التدبير والتفكير والتقرير والقدرة على قلب المعادلات، وهو الشعب التونسي بعبقريته واندفاعته وجرأته... وعليه تبدو الأمور بقياسات الشرعية الشعبية ممكنة ومتاحة لكي تتصحح المسارات والسياقات وتتحرك الإرادات، ويبدأ الخطو الجديد نحو المصالحات والتفاهمات الانقاذية، ونحو تحويل الشرعية الشعبية إلى مرجعية وطنية كبرى تتنزّل منها وتتولّد الشرعية المؤسساتية الدستورية، وتتعطّل لغة المناكفة والمناطحة والتنابز الشعبوي بالأعداد والأرقام، ويقبل الجميع على صياغة رؤى المستقبل المعبّرة عن روح الثورة ومضمونها التغييري التاريخي، من خلال خطاب وطني موحّد يريد أن يصنع حاضر ومستقبل تونس بطريقة استنهاضية وجاذبة وموّحدة لكل القوى الوطنية، إنّ الاقصاء والتغول السلطوي والاضطهاد والاستقواء على أي فئة من الشعب، في حالة تونس الراهنة لن يفتح الآفاق لتجديد وتغيير تونس، ولا لتحقيق مضامين ثورتها، بل سوف يوقف ويضع تونس لآماد طويلة في عطالة وطنية وسياسية، وجزر تاريخي رهيب، أو أنه سيتحول مع مرور الزمن إلى انسداد وانحباس سياسي - اجتماعي يؤدي بتونس إلى التراجع وتضييع الفرصة التاريخية في التغيير، والمراوحة في المكان، أو في الصدام والاقتتال والتناحر الأهلي إلى فترات قد تطول وتودي بحال البلد إلى الحضيض.

في تونس الآن قوى وإرادات متناقضة ومتصارعة تسعى إلى إعادة إنتاج الاستبداد والتسلط بغطاءات ثورجية، وأصبحت - بحسن أو سوء نية - تستمرىء الفوضى، وأحيانا تتغذى على فجائعها ومعطياتها، ولا تنطوي كما نلاحظ على خطاب عقلاني يدرك اللحظة الوطنية الصعبة، ويعبر عن ضروراتها وتحدياتها، فهنالك إرادات خارجية تتسلل إلى صفوف هذه القوى وتستحوذ أو تهيمن على قناعاتها وقراراتها، وكل ذلك مما يصعّب ويعقّد الأمور، ويخلق فراغا في القيادة وفي الشارع المشتعل بقبول الاستتباع من الطرفين، والانجرار وراء الأهواء العصبوية، والاغواء السياسي، ويفاقم الأحداث ليجعلها دامية ومتواصلة، وفي هذا ما فيه من المخاطر والكبائر التي تجعل تونس كالعهن المنفوش مذررا بلا معنى أو مستقبل، والناس في حيرة وتردد والتباس...

خلاصة الكلام: يمكن القول بكل موضوعية، أن الاحتجاجات التي عمت كل المدن التونسية، كانت انقلاباً شعبياً بحق، ضد حكم جماعة الإخوان المسلمين، ومن الواضح أن الغالبية العظمى من التونسيين قد ضاقت ذرعا بحكم حركة النهضة، لأنه أضرت بمصالح تونس وشعبها، وقد عقدت العزم على تغيير وإعادة إنتاج سلطة سياسية حقيقية بلا إخوان، والأكيد أنّ الانقلاب الشعبي التونسي، يعد في الواقع تصحيحاً لمسار التاريخ وليس من شأنه إخراج تونس من التاريخ كما زعم أحد السياسيين المناصرين للإخوان المسلمين، ما حدث من وجهة نظر موضوعية بحتة سيحكم التاريخ بصحته أنه كان انقلاباً شعبياً! 



*كاتب من المغرب