لا شك أن المليشيات المسلحة التي ترسخ وجودها في ليبيا منذ سنوات، كانت ولازالت أبرز العقبات أمام اعادة الاستقرار في ليبيا وبناء مؤسسات الدولة. ومع تواصل الصراع على تخوم العاصمة الليبية طرابلس تواصل هذه المليشيات انتهاكاتها تحت مظلة حكومة الوفاق التي شكلت معها تحالفات تتكشف كواليسها يوما بعد يوم لتؤكد عجز حكومة السراج وافلاسها.

مجددا تعود الى واجهة الأحداث انتهاكات المليشيات المسلحة وارتباطها بحكومة الوفاق، وجاء ذلك مع اعلان قوات حكومة الوفاق الوطني الليبية، السبت، أنها أسقطت طائرة حربية تابعة للجيش الوطني. وذكرت عملية "بركان الغضب" التي تنفذها قوات الوفاق، عبر صفحتها بموقع "فيسبوك" أن القوات التابعة لحكومة الوفاق ألقت القبض على قائد الطائرة الحربية نوع ميغ 23 بعد نزوله منها بمظلة إثر استهدافها. ونشرت عملية بركان الغضب صورا تظهر حطام الطائرة التي قالت إنها استهدفتها في محيط محور اليرموك.

وعقب ذلك، نشرت مواقع موالية لحكومة الوفاق صورًا للطيار، وتبدو عليه علامات المعاملة غير اللائقة، بعدما قالوا إنه محتجز لديهم بعد سقوط طائرته بضواحي مدينة الزاوية. وتعمدت العناصر التابعة لكتائب الزاوية إهانة الطيار بتصويره وهو مجرد من لباسه العسكري ويظهر في لباس داخلي، بينما ظهر أحدهم وهو "بشد الطيار من أذنه"، في مشهد أثار غضبا كبيرا في الأوساط الليبية.

وقال الناطق باسم القوات المسلحة الليبية إنّ القيادة العامة، في بيان له، أن المعاملة التي تلقاها الطيار "تخالف شروط معاهدة جنيف لمعاملة أسرى الحرب"، متابعًا "نحمل المجتمع الدولي مسؤولية هذا التصرف من قبل مليشيات حكومة الوفاق". وحمل البيان حكماء وعقلاء ومشايخ مدينة الزاوية مسؤولية أي إيذاء يصيب الطيار، خاصة أن مقاطع الفيديو والصور التي نشرت تبيّن أنه بحالة صحية جيدة وتم تعذيبه من قبل المليشيات.

وبدورها نددت الحكومة المؤقتة بالانتهاكات التي تعرض لها الطيار الأسير على يد مليشيات الزاوية. وقالت الحكومة في بيان لها "أن المعاملة غير الإنسانية القاسية التي تلقاها اللواء عامر الجقم العرفي توضح الأيديولوجية المفلسة للجماعات الإرهابية والميليشيات المسلحة المعنية فقط بالموت والدمار"، مردفة "أن هذه الفعلة تعد دليلا إضافيا على وحشية وهمجية هذه الجماعات المسلحة التي يحاول البعض تسويقها على أنها جيشا نظاميا محترفا، بينما تؤكد أفعالها المتتالية والمنافية للقوانين والشرائع أنها ميليشيات مسلحة لا تراعي القانون الدولي الإنساني في معاملة أسرى الحرب أو الاتفاقيات الدولية بالخصوص".

حكومة الوفاق التي وجدت نفسها في موقف حرج، سارع فتحي باشاغا وزير داخليتها للدعوة الى فتح تحقيق في الحادثة. وقال باشاغا في خطاب وجهه إلى مدير أن الزاوية، "إنه وبناء على ما تناقلته وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي من ضبط أحد الطيارين من قبل قوة الإسناد الأولى التابعة للمديرية، عليه تتخذ إجراءاتكم الفورية والعاجلة بفتح تحقيق في انتهاك حقوق الإنسان واستغلال وتوظيف وزارة الداخلية في تلك الأفعال والأعمال المنافية لحقوق الإنسان وطريقة معاملة المحتجزين"، بحسب قوله.

لكن باشاغا فاته توضيح حقيقة القوات الموالية لحكومته والتي ظهرت عناصرها في الصور ومقاطع الفيديو صحبة الطيار الليبي عامر الجقم المحتجز بعد سقوط طائرته بمدينة الزاوية الليبية. وعلى راس هذه العناصر محمد سالم بحرون، الشهير بـ"الفأر" أو بـ"السنون"، والتابع لميليشيا الإسناد التابعة لوزارة الداخلية بحكومة الوفاق المدعومة دوليًا. 

وبحسب تقارير اعلامية فان بحرون، من مواليد 21 أغسطس 1989 وهو من سكان شارع الخرطوم بوسط مدينة الزاوية، شارك في أحداث فبراير 2011 ومنها تطورت نشاطاته الإجرامية منذ العام 2012.ويُعد بحرون، أحد القيادات المليشياوية لدي مليشيا "إبراهيم احنيش" بداخل مدينة الزاوية، والتي خاضت حرب النفوذ والسيطرة الإجرامية بالمدينة لسنوات مع مليشيا "الخضراوي" وتسببت في سقوط العديد من الضحايا من المدنيين، وتدمير ممتلكات المواطنين والمقارات الحكومية.

ووفقا للسجل الأمني للفار، فهو مصنف كآمر مليشيا تم شرعنتها من قبل وزارة الداخلية التابعة لحكومة الوفاق، ثم كلف آمرا لقوة الإسناد الأمني الأول التابعة لمديرية أمن الزاوية، وقد عين في الشرطة برتبة ملازم أول، بوثائق مزورة وتمت ترقيته إلى رتبة نقيب.

ويعرف عن الفار قربه من الإرهابي أبوعبيدة الزاوي، وهما يسيطران على مديرية أمن الزاوية من خلال العميد علي مبروك اللافي، "من عائلة أبو عبيدة" الذي يستغل كواجهة باعتباره ضابط شرطة. وتشارك المجموعة التي يتزعمها الفار ضمن القوات التابعة لحكومة الوفاق إلى جانب مجموعات مسلحة من مدينة الزاوية من بينها عصابات تهريب واتجار بالبشر.

ويعتبر الفار من أخطر مهربي الوقود والبشر في مدينة الزاوية، ويحفل سجله الجنائي خلال السنوات الماضية بالعديد من الجرائم المتعلقة بالخطف والتهريب والاتجار بالبشر والقتل، وقد شارك في العديد من الاشتباكات التي شهدتها مدينة الزاوية ضمن صراع المجموعات المتطرفة والإجرامية على النفوذ فيما بينها وراح ضحيتها العديد من المدنيين وتمدير المرافق العامة والخاصة.

كما ظهر أيضا في الصور الى جانب الطيار الأسير، مليشياوي آخر يدعى طارق رمضان سويسي المولود في 1989 ويسكن شارع الزهراء ما بين جزيرة العريوي ومنطقة أبو صرة في مدينة الزاوية. بحسب ما أكد موقع "ارم نيوز" نقلا عن مصدر أمني بمدينة الزاوية. وبحسب المصدر، فإن "سويسي لديه سجل حافل بالسوابق الإجرامية التي تتمثل في عمليات خطف وقتل وأعمال غير مشروعة أخرى من تهريب واتجار بالبشر وكذلك تهريب الوقود.

يشار الى أن بحرون وسويسي من ضمن المطلوبين للنائب العام الليبي منذ أكثر من سنة وفق مذكرة وجهها لوزارة الداخلية بحكومة الوفاق التي ظهر فيها الشخصان المطلوبان بأحد أقسام الإدارة التابعة لها في مدينة الزاوية. وبحسب هذه المذكرة التي تم تعميمها في عام 2017 من قبل مكتب النائب العام ووجهت إلى مديرية أمن صبراته التي تتبع حينها لوزارة الداخلية بحكومة الوفاق؛ فإن عدة قيادات تتبع لقوات الوفاق وتقاتل الآن في صفوفها مطلوب القبض عليها من قبل النائب العام.

ومنذ انطلاق عملية "طوفان الكرامة" التي أعلنها الجيش الليبي في الرابع من أبريل/نيسان الماضي، تقدمت العناصر والجماعات المتطرفة والإرهابية من تنظيمي "القاعدة" و"داعش" الصفوف الأمامية للمليشيات التي تتصدى للقوات المسلحة، وظهرت العديد من العناصر المعروفة بانتماءاتها الارهابية في المعركة. وكانت دول كبرى عدة ومنظمات دولية عبرت في وقت سابق عن قلقها من صدور تقارير إعلامية تشير إلى انضواء بعض الإرهابيين والمطلوبين للعدالة بصفوف القوات الموالية لحكومة الوفاق الليبية في معاركها ضد الجيش الوطني الليبي في العاصمة طرابلس.

وتتمسك حكومة الوفاق بنفي وجود عناصر مطلوبة ضمن قواتها، وأكد رئيس المجلس الرئاسي فايز السراج، في ابريل الماضي عدم وجود مقاتلين ينتمون لتنظيمات إرهابية بين صفوف القوات التابعة له، مؤكدا أن حكومة الوفاق كانت ولا زالت تحارب الإرهاب وتلاحق فلوله.وفق قوله. لكن هذا النفي بحسب مراقبين بات غير مجدي في ظل الدلائل المتكررة على الأرض والتي تثبت تورط حكومة السراج في تحالفات مشبوهة قد تمثل دافعا أكبر للمجتمع الدولي لسحب البساط من تحتها وانهاء شرعيتها الدولية التي تحاول التمسك بها في ظل شرعية محلية مفقودة.

وليست هذه المرة الأولى التي تمارس فيها المليشيات انتهاكات في حق الأسرى، ففي يونيو الماضي، ارتكبت فضائع وجرائم كان أبرزها تصفية جرحى القوات المسلحة الليبية في مستشفى غريان. وتداول حينها ناشطون على مواقع التواصل الاجتماعي فيديو لعملية تحقيق "مهينة" مع جرحى الجيش الوطني في مستشفى غريان العام، مشيرين إلى تصفية العديد من الجرحى والتنكيل بالجثث من قبل عناصر متشددة من ضمن مجلس شورى بنغازي وتنظيم أنصار الشريعة وميليشيات مصراته.

واكدت المنظمة الليبية لحقوق الإنسان أن القوات التابعة للمجلس الرئاسي بقيادة أسامة جويلي قامت بتصفية كل الجرحى الذين كانوا يتلقون العلاج بمستشفى غريان المركزي معتبرة ماحدث بمثابة عمل ارهابي. فيما قالت وزارة الداخلية بالحكومة المؤقتة أن تقرير الطب الشرعي ونيابة الزنتان أكدا أيضا أن غالبية جثامين عناصر الجيش والأمن المركزي التي تسلموها من غريان عن طريق الهلال الأحمر قد تمت تصفيهم رمياً بالرصاص مع تعرض بعض منهم لتشويه متعمد في الوجه وبعضهم يحمل آثار دهس بالسيارات.

ويتهم أسامة الجويلي آمر المنطقة العسكرية الغربية في حكومة الوفاق، بارتكاب جرائم وانتهاكات كبيرة في ليبيا منها الهجوم على ورشفانة ما أدى إلى سقوط ضحايا من المدنيين، وتدمير العديد من المباني الخاصة والعامة، وأخرى في حروب خاضتها قواته في بلدات الشقيقة ومزدة إضافة لتبعية القوات التي ارتكبت فظاعات القرار 7 في بن وليد له إبان توليه حقيبة الدفاع.

وتشير هذه الانتهاكات المتواصلة الى مدى عجز حكومة الوفاق عن كبح جماح المليشيات المسلحة وهو الأمر الذي بدا واضحا منذ دخولها العاصمة الليبية طرابلس في العام 2016، حيث تواصلت الاشتباكات خلال السنوات التي تلت ذلك مع سقوط المدنيين ضحايا للعنف المنتشر من قتل واختطاف واعتقالات تعسفية وتواصل تردي الأوضاع المعيشية فيما قيادات المليشيات تزداد ثرواتها يوما بعد يوم مع سيطرتها على مؤسسات الدولة ونهب قوت الليبيين.

وبالرغم من القوات الموالية لحكومة الوفاق اظهار حادثة اسقاط الطائرة الليبية وأسر قائدها على أنها انتصار عسكري ساحق، يؤكد مراقبون أنه لن يكون له تأثير على سير المعارك في العاصمة الليبية. ويؤكد ذلك مواصلة الجيش الليبي تقدمه حيث أعلنت غرفة عمليات الكرامة سيطرة قوات الجيش على الساعدية وكوبري الزهراء وفي عين زارة مؤكدة أن عين الجيش على الفرناج وقوات الوفاق في طريقها للانهيار.

يأتي ذلك فيما تتسارع التحركات لتكثيف الضربات الجوية، حيث قالت الكتيبة 134 مشاة لحماية وتأمين قاعدة الوطية الجوية، في تدوينة نشرتها عبر حسابها بموقع التواصل الاجتماعي فيسبوك، "استنفار كبير في جميع القواعد الجوية، واستدعاء لكافة الطيارين والفنيين، وكذلك تم إبلاغ آمر قاعدة عقبة بن نافع الجوية لتهيئة الاوضاع والاستعداد لاستقبال عشرات الطائرات المقاتلة، وكل الأمور تنذر بعملية جوية ضخمة"، بحسب قولها.

وكان رئيس أركان القوات الجوية بالجيش الليبي، صقر الجروشي، أكد في وقت سابق أنه سيتم نقل كافة طائرات سلاح الجو الليبي إلى قاعدة الوطية الجوية. وقال الجروشي، في تصريحات عبر أثير إذاعة المرج المحلية، "الجماعات الإرهابية في الزاوية ستكون هدف لطائراتنا والرد سيكون قاسيا، ورفاق الطيار عامر الجقم على أهبة الاستعداد لتنفيذ الأوامر وسنأخذ حق الطيار عامر الجقم ونحذر من المساس بـه، ونؤكد أن عملياتنا ستكون مركزة على المليشيات، فنحن جيش نظامي ولا نستهدف المدنيين".

وما زالت ليبيا تحاول التخلص من سنوات عجاف، ترسخ فيها وجود الميليشيات المسلحة، التي استغلت انتشار السلاح في البلاد لتكون لنفسها مناطق نفوذ تحت سلطة الرصاص، وهو ما أدخل البلاد في دوامة من العنف والفوضى، وزاد من قتامة الأوضاع الاقتصادية في بلد يصنف على أنه من أغنى بلدان المنطقة. ويجمع المتابعون للشأن الليبي أن أي حل سياسي في البلاد يبقى نجاحه رهين انهاء سطوة المليشيات واستعادة مؤسسات الدولة.