باتت فوضى حمل السلاح في الولايات المتحدة الأمريكية ثقافة راسخة، حيث تشهد كل يوم تقريباً حوادث إطلاق نار... وفي هذا السياق أعلنت الشرطة في ولاية كولورادو الأمريكية الاثنين 15/11/2021 نقل 5 مراهقين إلى مستشفى على إثر حادث إطلاق نار قرب مدرسة في ضاحية أورورا بمدينة دنفر في الولاية. وقالت شرطة مدينة أورورا، إن أعمار الشبان المصابين الخمسة تتراوح بين 14 و17 عاما.

قبل كل شيء، لابد أن نؤكد أنّ الأخبار التي تتداولها وسائل الإعلام عن وقوع حوادث إطلاق نار في الولايات المتحدة لا تعتبر مستغربة أو جديدة، فهي تعتبر من أحد السمات البارزة للمجتمع الأمريكي باعتبار حق حيازة السلاح حرية فردية وميزة للديمقراطية الأمريكية، إلا أن تواتر وقوع مثل هذه الحوادث التي يستفيق عليها الأمريكيون بشكل شبه يومي تسارع منذ العام الماضي، وفق ما كشفته بيانات رسمية، فقد أعلنت السلطات الأمريكية أن الولايات المتحدة سجلت أعلى زيادة بمعدلات جرائم القتل في التاريخ الحديث، جاء ذلك بحسب ما أظهرته البيانات الصادرة عنالمركز الوطني للإحصائيات الصحية التابع للمراكز الأمريكية لمكافحة الأمراض والوقاية منها. وذكر المركز أن معدل جرائم القتل في الولايات المتحدة ارتفع بنسبة 30 بالمائة بين 2019 و2020، لافتا إلى أنها أعلى زيادة مسجلة في التاريخ الحديث. وبحسب بيانات المركز، فإن معدل جرائم القتل في الولايات المتحدة قد ارتفع من حوالي ست جرائم قتل لكل 100.000 شخص في عام 2019 إلى 7.8 لكل 100.000 شخص في عام 2020.

نغوص عميقاً في الإحصاءات، فنكاد نختنق من هذه الأرقام الصادمة التي هي نتيجة وسبب لثقافة الانحلال والانفلات الأخلاقي التي لا يزال تروج لها أمريكا والغرب تحت مسميات وعناوين مختلفة، منها على سبيل المثال لا الحصر (الليبرالية الحديثة) التي تعد الأخطر في أهدافها ومفاهيمها وغاياتها التخريبية. فهل يعلم أولئك الذين يصفقون لتلك المفاهيم الأمريكية الغريبة عن مجتمعاتنا تحت عنوان (التحضر والحضارة) أن هناك واحدة من أصل ثلاث نساء في أمريكا وحدها تعاني العنف الجسدي أو الجنسي، وأن ثلاث نساء تقتل يومياً بسبب العنف المنزلي وأن هناك (24) مليون امرأة تمارس البغاء، وأن هناك (8) جرائم قتل كل (19) دقيقة، و(2) جرائم اغتصاب كل (7) دقائق، و(3) حالات سطو مسلح كل (59) ثانية، وهناك (257) ألف طفل يتم إجهاضهم، وهناك (21) مليون طفل يولدون بشكل غير شرعي أي لا يعرفون آباءهم، وكل ما سبق يجري تحت رعاية الأيدلوجيات الغربية التي يصدرونها إلى مجتمعاتنا رغماً عنا. وهناك (32) ولاية أمريكية من أصل خمسين ولاية تعترف قانونياً بزواج المثليين جنسياً، ووفق وزير العدل إريك هولدر فإن المثليين يحصلون على الحقوق القانونية كاملة التي يتمتع بها الأزواج المغايرون جنسياً، حيث تضاعفت أعداد المثليين لتصل إلى(33 في المائة) من أفراد المجتمع بعد تبني النموذج النيوليبرالي. مسؤولة الأمن القومي السابقة بوزارة العدل الأميركية ماري ماكورد، صرحت في آب 2019 أن ما تشهده الولايات المتحدة من عنف مسلح يمثل "مشكلة أخلاقية".
 
وللأسف، فالعلاقة الفريدة التي تجمع الولايات المتحدة بحيازة الأسلحة، سخرها الدستور الأمريكي ذاته حيث انتشرت ثقافة حق الفرد في حيازة سلاح ناري برعاية القانون كإحدى مفرزات الليبرالية الحديثة التي تعطي الفرد حرية منفلتة من أي ضوابط والتي تهدد المجتمع الأمريكي والأسرة ولا سيما في ظل انتشار أعمال العنف والانتحار وجرائم القتل الجماعي. في الولايات المتحدة يمتلك الأمريكيون بين 300 و350 مليون قطعة سلاح فردي للدفاع عن النفس، وهذا ما يجعل من الولايات المتحدة إحدى أكثر دول العالم خطورة من حيث انتشار الجرائم وأعمال العنف المختلفة، وانتشار المخدرات وتبلغ معدلات جرائم القتل باستخدام الأسلحة النارية في الولايات المتحدة أعلى بنحو 25 مرة منها في سائر البلدان مرتفعة الدخل مجتمعة. وكشفت مديرة فريق الرعاية الصحية في مكتب المساءلة الحكومية الأمريكية كارولين اليوكوم أن العنف المسلح يكلف الولايات المتحدة نحو 300 مليار دولار في العام. وذكرت شبكة اي بي سي نيوز أنه وفقاً لبحث أجرته مجموعات حكومية ونشطاء بعد تجميع البيانات العامة المتاحة ومراجعتها بداية من فواتير المستشفيات وفقدان الأجور حتى خسارة الإنتاج فإن العنف المسلح يكلف الولايات المتحدة 280 مليار دولار في العام. وأوضحت اليوكوم أن أكثر من 194 ألف شخص قتلوا في أعمال عنف مسلح في الولايات المتحدة خلال الأعوام الخمسة الماضية بمعدل 39 ألف حالة وفاة سنوياً.

ورغم وعود بايدن بتشديد قوانين حيازة السلاح، إلا أن كثيرين يعتبرون مهمته هذه شبه مستحيلة في بلد يمتلك أسلحة أكثر مما يمتلك من المواطنين، ومنذ توليه الحكم وقعت عدة حوادث قتل، وقد أعلن بايدن أسفه لحدوثها، معتبراً أن هذا القتل الجماعي وباء لا يقلّ خطورة عن مكافحة وباء الكورونا، وأنه ينتظر موافقة مجلس الشيوخ على ما وافق عليه مجلس النواب من قرارات خاصة بحظر الأسلحة وكشف سجل جنائي للشخص قبل حيازة السلاح، لأن هذه الأحداث - حسب وصفه - المتكررة هي ثقب في الروح الأمريكية ووصمة عار لشخصية أمريكا أمام العالم. وبحسب مختصين في الشؤون الأمريكية لن تلقى الإجراءات التي يحاول بايدن اتخاذها التوافق بسهولة داخل الكونغرس، فأحد الأشياء الأساسية للجمهوريين ولليمين المعارض لبايدن هو ثاني تعديل في الدستور الأمريكي والذي يضمن حق المواطن في حمل السلاح، بحجة أنه إذا لم يسمح القانون للناس بحمل السلاح بسهولة فإن المخالفين للقانون هم فقط من سيحملون السلاح. ويرى العديد من الخبراء الدوليين في مجال حقوق الإنسان أن حق حيازة السلاح للأشخاص في القانون الأمريكي "حرية أمريكية قاتلة" حيث تعد عمليات القتل الجماعي التي يستفيق عليها الأمريكيون ما بين الفينة والأخرى سمة بارزة للمجتمع الأمريكي.

خلاصة الكلام: دورة العنف المتصاعد في الولايات المتحدة، والتي يتبادل فيها المجتمع والسلطة الأدوار في ارتكاب الجرائم، تذكر مجدداً بالحالة التي تعيشها الولايات المتحدة في ظل أوهام "الليبرالية الحديثة"، ققد بات واضحاً وجلياً تلك الهوة الشاسعة بين الواقع السيئ الموجود والمستفحل داخل المجتمع الأمريكي، وبين ما تحاول تسويقه وتصديره إلينا أمريكا، على أنه حضارة وحرية وتطور يساهم في إعطاء مساحات وفُسح جديدة للحريات والحقوق، فيما الواقع من الداخل يكشف ويؤكد عكس ذلك تماماً... ! ما سبق هو أنموذج واحد لما يعرف بالليبرالية الجديدة وثقافتها ومنهجها وهو النموذج الأمريكي الذي يبدو أكثر انكشافاً ودلالة ووضوحاً، وسوف نأتي لاحقاً على نماذج غربية أخرى تعري الأهداف الحقيقية لكل ما يصدِّره إلينا الغرب الاستعماري تحت شعارات وعناوين خادعة وزائفة باتت غاياتها وأهدافها مكشوفة وواضحة...