احتفل العالم باليوم العالمي للمتاحف في 18 مايو، تعظيما لدور المتاحف الثقافي المهم، كونها حاضنات أمينة ـ اذا توفر الاستقرار لمحيطها الجغرافي ـ لتحوي بين جدرانها الموروثات الثقافية والتاريخية للحضارات الإنسانية على مر التاريخ. ويأتي الاحتفال باليوم العالمي للمتاحف لعام 2022 تحت شعار "قوة المتاحف". وهنا لابد من التأكيد، أنه في سياق النظر إلى المتاحف بعين ثقافية وتاريخية فاحصة، فقد ظلت المتاحف العالمية طوال العصور الماضية بؤر اهتمام للباحثين في مجالات علمية محددة أغلبها الثقافي والتاريخي، حيث فتحت أبوابها على مصراعيها للمنقبين في مآثر الأجيال التي سبقتهم، متأملين في إبداعاتهم في النقش على الصخور، وإمكانياتهم في تحنيط الجثث، وانسيابية أقلامهم في المخطوطات، ورصانة أسلوبهم في صياغة المراسلات الرسمية القديمة التي تحولت إلى وثائق، ورشاقة ريشهم في رسم اللوحات، وقدرات تشكيلهم للأعمال الحرفية والتقليدية، وغيرها من الأعمال الإبداعية التي عرفها الأجداد في مختلف بقاع العالم.

ومما لاشك فيه، أنّ الاحتفال باليوم العالمي للمتاحف، يهدف إلى إثارة انتباه الرأي العام الدولي إلى أهمية المؤسسات المتحفية تربوياً وتثقيفياً، ولعل الغاية الأهم من الاحتفال بيوم المتاحف تكمن في إتاحة الفرصة للمختصين بالمتاحف من التواصل مع العامة وتنبيههم إلى التحديات التي تواجه المتاحف، وتعزيز العلاقة بين المتاحف والمجتمع، حيث إن المتاحف في عصرنا الراهن لم تقتصر أهميتها على كونها بيتاً لحفظ الكنوز التاريخية والتراثية والثقافية، بل تشكل مركزاً علمياً مهماً في تقديم المعرفة والعلوم، والتعريف بالتراث الإنساني في جميع المجالات. 

ويجب أن لا ننكر ما تواجهه متاحفنا العربية والإسلامية بخاصة والمتاحف في مناطق كثيرة من العالم من تحديات مهنية كبيرة كونها تجمع بين جدرانها عراقة وفنون الماضي في إطار مجتمع دولي يشهد بصورة مستمرة ومتسارعة تطورات تقنية وعلمية لا حدود لها... وهذا ما جعل كل من يعمل في حقل الآثار والمتاحف في حالة سباق مع الزمن، في محاولة جادة حتى يكون المتحف أو الموقع الأثري، المكان المثالي الذي يجمع بين الماضي والحاضر، بشكل جذاب وحيوي، لا مجرد مكان لعرض التاريخ وبقاياه المجسدة، في الآثار والأدوات التي استخدمها الإنسان في العصور والعهود الغابرة الموغلة في القدم، بل كمركز للأنشطة المتصلة بالحياة العامة والثقافة الإنسانية، وتطور أساليبها ومناهجها المختلفة، وهذا الأمر يقودنا إلى البحث عن دور المتحف كوسيلة تعليمية بحاجة إلى تطوير ودراسة. 

وإنه لمن حسن الطالع بدأ مؤخراً ظهور اتجاه واضح بين طيف واسع من المثقفين والمهتمين، نحو تغيير بعض أضلاع إطار الصورة الذهنية عن المتاحف التي كانت محصورة في الجوانب التاريخية، وذلك على أمل الدفع بها نحو لعب دور الحاضن الإبداعي الجديد لتفريخ جيل من الشباب المبدعين عبر توسيع دورها في احتضان الموهوبين من التشكيليين والنحاتين والرسامين والمصورين ليبدعوا ما يدور في خلدهم من أفكار يجسدوها في لوحات ومنحوتات وصور داخل تلك المتاحف، على أن تقوم المتاحف نفسها بالترويج لتلك الأعمال فضلا عن الاحتفاظ بنماذج منها في سياق قيامها بدورها كخازن عارض للإبداع الإنساني. 

أما الدور الآخر الذي ربما لم يلتفت إليه الكثيرين، ونأمل أن تتبناه المتاحف بمختلف أنحاء العالم، هو إنشاء ركن خاص (بفظاعات حروب الربيع العربي) بكافة بقاع الدول التي زارها، دون الانكفاء على المفهوم التقليدي للمتاحف التي تعرض الموروث القديم. وبذلك يمكنها أن تجسد قسوة الإنسان ضد أخيه في عصر تكنولوجيا القتل الشنيع، ولتعرض من خلال تلك الأركان ما تم التقاطه من صور ومقاطع فيديو وتسجيلات صوتية تركز في الأساس على الحروب الكارثية التي شهدتها الإنسانية وتشهدها الآن وما أكثرها وأفظعها، فهي غنية بمشاهد غرق الأطفال الفارين عن البطش، وبصور الدمار والتفجير والتفخيخ، وبتسجيلات الاستعراضات الكلامية الفجة المتبجحة بالاستعداد على الانطلاق نحو قتل الآخر وتسوية الأجساد بالأرض، ومقاطع همجية الاحتلال الصهيوني في ضربه للأطفال والنساء لمجرد مطالبتهم بحقهم في الحرية والحياة. وغير ذلك الكثير الكثير من الفظائع اللاإنسانية التي يقوم بها الإنسان تجاه من يفترض أنه أخيه في الحياة والمواطنة من بني البشر.

ربما يكون إنشاء أركان خاصة ـ للحروب المعاصرة ـ وفظائعها، في المتاحف العالمية مسعى جديد لتعرية الكثير من المفاهيم المتعلقة بالحروب التي نعيش ونعاصر ويلاتها، فضلا عن أنها استخدام للمتاحف كوسيلة جديدة من وسائل مناهضة الحروب ورفضها، وذلك باعتبار أن المتاحف يرتادها نخب من البشر يعرف عنهم اتساع أفقهم في التفكير والتأمل وفي البحث فيما وراء اللوحات والصور والسطور وقراءتها بعقلية مختلفة، فلعل تلك النخب تعمل لاحقا في ترجمة ما شاهدته في أركان ـ الحروب المعاصرة ـ في المتاحف إلى فعل وعمل جديد ـ كل في مجاله ـ ضد الحروب بمختلف أشكالها. 

وبهذا تكون المتاحف قد أسهمت بشكل أو بآخر في تحويل الصورة النمطية التي عرفها الكثيرون عنها وتوسيع أدوارها الحضارية والإنسانية جنبا إلى جنب وظائفها التاريخية والثقافية، علاوة على إسهامها المأمول في تشكيل جبهة من روادها المثقفين لرفض الحروب والأخذ بلغة الحوار والتسامح وقبول الآخر بديلا عن التقتيل والتفجير والصراعات التي لا فائدة منها غير تصنيفها بأنها خصم من الرصيد الحضاري للإنسان المعاصر. وكوننا في زمن المعلوماتية، لا بد من توثيق اللغة الأثرية من خلال المتاحف الافتراضية إلى جانب المتاحف الواقعية كأساس، لتكون آثارنا موثقة على الشبكة الإلكترونية، للاستثمار من خلال المشاهدة والاطلاع المعلوماتي، من جهة أخرى لابد من تحويل التراث إلى ملفات رقمية يحفظها الحاسوب، ويتمّ تداولها عبر الشبكة العنكبوتية، أيضاً لا بد من أن تكون عملية التوثيق متكاملة منذ لحظة اكتشاف الأثر والتأريخ، والوصف، والبعثة، والفن، والتأثير، ولا بد من الأمان كحصانة للمحافظة على التوثيق الرقمي. وهذا سبق أن طرحه المؤتمر الأول لمجلس المتاحف الدولي عام 1997 في لوس أنجلوس، موصياً جميع متاحف العالم بتسجيلها في المواقع الفضائية، لينتقل الموروث الإنساني من محليته ويصل إلى شعوب العالم، ويكون مورداً اقتصادياً ومعرفياً، كما أنه يساهم في مساعدة ذوي الاحتياجات الخاصة على الزيارة الافتراضية والتعرف إلى التراث المادي والمعنوي، ومن الممكن أن يهيئ جيلاً جديداً من الصغار والأطفال والشباب والطلاب ليتعرفوا إلى التراث ويحافظوا عليه.

نحن لا ننكر بأن متاحفنا العربية والإسلامية وبكل صراحة ما زالت تفتقر إلى هذه الوسائل التي أصبحت في وقتنا الراهن من وسائل التعليم والشرح والدعاية التي لا غنى عنها في كل متاحف العالم الهامة علماً بأن هذه التجربة قد جربت منذ سنوات في متاحفنا الأثرية ولكن لم يكتب لها النجاح لأسباب أجهلها.‏ وهذا ليس معناه إهمال التجربة ونحن نقدر المحنة القاسية التي تمر منها بعض الدول العربية، وإنشاء الله ستخرج من أزماتها أقوى وأكثر منعة... وأن إعادة البحث عن أسباب فشل التجربة والاستفادة من الأخطاء التي أدت إلى ذلك والاستعانة بالتقنيات الحديثة والحصول على المعلومات من الأشياء الجوهرية التي يحرص عليها زائر المتحف... وإذا أردنا أن نحقق له هذه الغاية النبيلة يجب علينا أن ندرك أن ذلك يتوقف على ما تقدمه المتاحف من وسائل مبرمجة.

كاتب صحفي من المغرب