اختفت نور، صديقتي الطرابلسية زمناً.. ضاع مني كل أثر لها.. ثم فجأة، وقبل يومين، وصلتني منها رسالة تقول فيها: "أصبحت نازحة.. أعيش تجربة سيئة، ونفسيتي متعبة.. تركتُ بيتي لزيارة عائلية عادية  في أحد أيام رمضان، ولم أعد له بعد ذلك.. لم أحمل معي أي متاع من البيت.. زوجي عاد إلى بيتنا لأول مرة يوم العيد، بعد أن توقف القصف قليلاً، لإخراج الأوراق المهمة.. وابني يبكي بشكل يومي لافتقاده البيت وألعابه وغرفته". تتعرض للقصف المستمر بعض الأحياء في طرابلس مثل غوط الشعال وقصر بن غشير وبوسليم، والإسلامي والدريبي والرياضية وكشلاف وجنزور والسراج وقرية البوعيشي وصالح، وتحولت بعضها مثل حيّ الزهور وحي الأكواخ وخلة الفرجان  (التي تحولت إلى ثكنة عسكرية)، إلى منطقة أشباح خلت من أهلها بسبب القصف الشديد المتواصل. اضطر السكان للنزوح قسراً، منهم من لجأ إلى الأقارب، ومنهم من استأجر بيوتاً في المدن المجاورة.

الحرب بشعة في كل أشكالها، لكن الحرب الأهلية، وحدها قادرة على تدمير الإنسانية. حين تشتعل حرب بين دولة وأخرى، فإن أهل البلد الواحد يتوحدون ضد العدو في الغالب، حتى وإن كانوا يختلفون في الرأي والتوجه، لأن مصابهم واحد، وفقدهم واحد وخسارتهم واحدة.. مصاب يؤجج المشاعر الإنسانية، فتطغى على أي خلاف قائم، في التوجه أو القناعة أو المبدأ أو الرأي. في ليبيا، يختلف الحال. إنها حرب أهلية، وفي الحروب الأهلية، يقتل الأهل بعضهم ببساطة.. تخلق الحرب الأهلية عزلة نفسية قصوى وتدمر المشاعر الإنسانية في الإنسان، وتخرب الروح.. تنعدم الثقة بين الأفراد والجماعات.. وينطوي الإنسان على نفسه دون أن يغوص في ذاته، فالأصوات التي تحدثها الحرب، تمنعه من أن ينفرد بنفسه رغم عزلته.. ولذلك فمعظم مذكرات الحرب كتبت بعد انتهائها بفترة.

في بنغازي، لا يختلف الأمر عن طرابلس، إن لم يكن أكثر تعقيداً، فبنغازي شهدت في هذه الحرب الشرسة، معارك أكثر وأشد ضراوة من العاصمة، وسقط من أبنائها أعداد أكبر أيضاً.. شهدت أحياء مثل بوعطيني وسيدي فرج والليثي النزوح االكبير، وأيضاً بنينا وقنفودة والهواري والقوارشة وشبنة والمساكن.. إلا أن شباب تلك البيوت المعرضة للقصف والدمار والموت وللسطو أيضاً حين تخلو، ظلوا بها. يقول أحد الأصدقاء عن أصوات القصف الشديد: "الحقيقة أنها مسألة تعوّد، ولعل عِلم الأغلبية بالقوة التدميرية المحدودة للقذائف، يساهم في التعايش مع هذه المشكلة التي يتوقع الجميع أنها لن تدوم". وفي بنغازي، تكفلت أيضاً جمعيات خيرية بإعداد مدارس لاستقبال من لا مكان له.

النزوح داخل الوطن بسبب حرب أهلية، موجع لحد لا يتصوره إلا من يعيشه. يقول أحد أفراد عائلة بنغازية، استقبلت نازحين: "بيتنا كبير ويسع الجميع، وقد استقبلناهم على الرحب والسعة، ومع ذلك فهم يشعرون بحرج مستمر، وكأنهم عالة علينا، في حين نشعر نحن في المقابل بالأنس الكبير في وجودهم معنا.، كما أن حالتهم النفسية سيئة جداً، خاصةً الأطفال منهم، فهم يعقبون على أي صوت يسمعونه بفزع:  "القصف قريب"، أو "هذي قريبة!". لا تخلو مناطق الخطر من قاطنين يرفضون بعناد تركها، قائلين: " ما نمشيش ونسيب حوشي أبداً".

 

*نقلا عن "هنا صوتك"