ليس من السهل اليوم معرفة الدور الأمريكي مما يقع في ليبيا. دونالد ترامب وعلى غير عادة السياسيين الأمريكيين السابقين، اختار البقاء في الخلف وإرسال رسائل لا يفهم محتواها بشكل واضح، لكنها تسمح في الأخير بالكثير من التأويلات لعل أهمها أن واشنطن أقرب إلى "معسكر" السراج منها إلى معسكر البرلمان، بالنظر إلى عدة تفاصيل على رأسها الانسجام التام مع النظام التركي الذي يرسل بدوره إشارات عن رضى أمريكي عن دوره في ليبيا وأساسا في ترجيح كفة حكومة الوفاق سواء عبر المواقف السياسية أو عبر المشاركة العسكرية ودورها الأساسي في تغيير مسار المعارك.

الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يكشف الصورة المخفية للمواقف الأمريكية حول ليبيا. ففي حوار له مع قناة محلية في 20 يونيو قال الرئيس التركي إنه توصل إلى اتفاقات مع نظيره الأمريكي دونالد ترامب يمكن أن تبشر بـ"عهد جديد" فيما يتعلق بليبيا. وأشار أردوغان أنه "بعد محادثاتنا بشأن العملية الانتقالية في ليبيا، يمكن أن تبدأ حقبة جديدة بين تركيا والولايات المتحدة. لقد توصلنا إلى بعض الاتفاقات".  هذه التصريحات لا يمكن فهمها إلا بكونهما متقاربين في وجها النظر حول الأزمة. والواقع أن الأتراك والأمريكان لم يكونا بعيدين دائما في أغلب القضايا، وأنقرة أشبه بالطفل المدلل لواشنطن.

مؤشر آخر على ميل الأمريكان إلى كفة الوفاق هو تواصلهم المستمر مع المسؤولين في طرابلس على عكس علاقتهم بالمسؤولين في الحكومة المؤقتة الذين تكون زياراتهم لهم واتصالاتهم بهم نادرة. الفرق أن الولايات المتحدة دائما ما تحاول التموقع وسط اللعبة تراقب مساراتها ويكون تدخلها حاسما وفي التوقيت الذي تراه مناسبا لها، وهذا ربما ما تقوم به في ليبيا.

التواصل المستمر بين الوفاق وواشنطن، يؤكده اللقاء الأخير في زوارة وجمع السراج وباشاغا بقائد الأفريكوم والسفير الأميركي بطرابلس، أين عقد اجتماع مغلق دام لفترة غير قصيرة. ونقلت وسائل إعلام أن الاجتماع استعرض "آخر المستجدات العسكرية والأمنية والجهود الأمريكية لتحقيق الاستقرار في ليبيا"، بالإضافة إلى مواضيع أخرى من بينها الحرب على الإرهاب التي تقول الوفاق أنها شريكة فيها مع حلفائها الدوليين.

بعض المراقبين اعتبروا أن اللقاء ركّز بالأساس على الأمور العسكرية، وما حضور السراج وباشاغا دون وزير الخارجية محمد سيالة إلا دليلا على ذلك. وقد يكون مؤشرا على رغبة أمريكية في إيقاف العمليات العسكرية والتوجه نحو مسار سياسي لا يقصي أحدا. وواشنطن هنا ربما ترسل رسالة إلى القاهرة أيضا بأن مبادرتها ضمن الخيارات المطروحة وإن بأشكال أخرى تجنبا لحساسية العلاقة بين الوفاق ومصر التي تعرف توترا كبيرا بسبب التقارب الواضح مع الجيش.

كما يعتبر البعض أن الولايات المتحدة لينة في تعاملها مع حكومة الوفاق ولا تتخذ منها موقفا حتى في أكثر الإشكالات حساسية في علاقة بالأمن والمليشيات. والأمر يفهم لسببين، الأول أن الوفاق هي القادرة بناء على الاعتراف الدولي على التعامل "الشرعي" في علاقة بالاتفاقيات العسكرية والاقتصادية، وكان لهما تنسيق في السابق خلال الحرب على داعش في سرت التي كان للأفريكوم دور رئيسي فيها، كما أن الولايات المتحدة كانت من مباركي اتفاق الصخيرات الذي صعدت بموجبه حكومة الوفاق.

وما يؤكد التقارب أيضا هو ما قاله فتحي باشاغا وزير داخلية الوفاق الذي أعلن أن التطورات الأخيرة على الأرض (سيطرة الوفاق على بعض المناطق) جعلت العلاقة مع واشنطن أكثر وثوقية، في سبيل البحث عن مخرج للأزمة ينهي أشهر الاقتتال والتوجه للحل السياسي.

والتقارب مع الوفاق سواء بشكل مباشر أو عبر حلفائها الأتراك، لا يعني فكا للارتباط مع مسؤولي الحكومة المؤقتة. وعلى الرغم من أن واشنطن لم تعلن أي لقاء رسمي أو غير رسمي مع قادة الجيش الليبي، لكن أخبارا متضاربة تم تداولها ونفتها السفارة الأمريكية، حول زيارة مسؤولين أمريكيين لبنغازي أياما قليلة بعد سيطرة الوفاق على بعض المواقع. وسواء حصل اللقاء أو لم يحصل فإن واشنطن ليس بتلك السذاجة التي تجعلها تحسم في أحد طرفي الصراع في ليبيا بالنظر إلى الأوراق الكثيرة التي بين يدي كل طرف تفرض بقاءها في المعادلة مهما كانت مواقف القوى الإقليمية منهما.

يبدو أن الولايات المتحدة مازالت تبحث عن نفسها في ليبيا. التطورات الأخيرة ودخول أطراف إقليمية ودولية مختلفة على خط الأزمة، بعثا إشارة إلى أن المنطق القديم الذي تتعامل به لم يعد نافعا، خاصة أن من بين المنافسين على الأرض هذه المرة روسيا التي يبدو بدورها أنها "تكفر عن ذنب الصمت" الذي شاركت به في 2011 وتريد إصلاحه هذه المرة. بالنسبة إلى الولايات المتحدة لا يزعجها الدور التركي ولا بقية الأدوار بقدر من يستفزها وجود روسيا في الواجهة، وحتى تموقعها الأخير الذي يقترب غربا كان يفهم منه فقط لأن روسيا محسوبة على الجيش وقيادته، وعلى الرغم من كونها تخاطب الفرقاء بمنطق الحياد والدعوة إلى وقف إطلاق النار، لكن المؤكد أن واشنطن تلعب دائما في الصف المقابل لموسكو، وهذا قد لا يكون دائما في صالح ليبيا.