نغمة ما تسمى (المنطقة العازلة) لا تزال الشغل الشاغل للحرباء العثمانية المتلونة متمثلة برأسها المستبد أردوغان، الذي بات لا يعرف كيف يداور أطماعه في ليبيا وعلى أي حبال يتراقص، ويراقص معها مساحة تمنيات أحلامه الإرهابية إلى أبعد قدر ممكن مفصحاً عن متابعة دوره بدعم الإرهاب راسماً له أبعاداً وخططاً تتناسب مع تفكيره المسموم. والهدف واحد جليّ لا لبس فيه، وهو المتاجرة بالليبيين في منطقة سرت والجفرة لاستخدامهم ألغاماً موقوتة في الحرب على وطنهم،والمتاجرة بأعراضهم ودمائهم تنفيذاً لمخططات مشبوهة في زرع جيوب عثمانية في هذه المناطق.

أما أمريكا فيبدو أنها لم تعُد يكفيها في ليبيا اللعب على الحبلين، والأكثر على حبل السراج، وهو الأمر الذي يحلو للمسؤولين الأميركيين تجميله بتسميته "سياسة الحياد النشط". ولا بد من القفز عن الحبلين نحو ثالث، قديم جديد، هو إنشاء "منطقة عازلة" أو "آمنة"... ولكن لماذا الآن...؟ أمريكا تريد قطع الطريق على تركيا بإقامة "منطقة عازلة" على خط سرت - الجفرة، وفي رواية أخرى تريد اقتطاع منطقة سرت ـ الجفرة ضمن مخطط تقسيم ليبيا، فتكون بوابتها للسيطرة على الهلال النفطي.

لا بد من إعادة التذكير بخريطة المصالح الأميركية في ليبيا بعد أن وصلت النار إليها... والمعني هنا سرت والجفرة. ولمن لا يعرف فإن سرت والجفرة أو ما بات يسمى خط سرت - الجفرة، هو مفتاح السيطرة على منطقة الهلال النفطي التي تضم حقول النفط ومرافىء تصديره، والهلال النفطي هو حوض نفطي يقع على ساحل البحر المتوسط ويمتد على طول 205 كم من طبرق شرقاً إلى السيدرة غرباً، ويعتبر أغنى مناطق البلاد بالنفط ،أما منطقة الجفرة فتأتي أهميتها من موقعها وسط البلاد، وتبعد نحو 650 كم جنوب شرق العاصمة طرابلس، وهي محور ربط بين الشرق والغرب والجنوب، وتعني السيطرة على قاعدة الجفرة السيطرة تقريباً على نصف ليبيا. وتضم الجفرة أكبر القواعد الجوية (قاعدة الجفرة) والتي تقع على بعد 300 كم جنوب سرت... 

ولا شك أن وجود القاعدة قرب الهلال النفطي يعطي من يسيطر عليها القدرة على حماية منشآت إنتاج وتصدير النفط التي تقع شرق مدينة سرت حيث توجد المرافىء النفطية (رأس لانوف وسيدرا ومرسى البريقة وزويتينا) إضافة إلى 11 أنبوباً لنقل النفط و3 أنابيب لنقل الغاز... وبديهي القول، إن من يسيطر على الثروة النفطية في ليبيا يكون في موقف الأقوى في أي تسوية مستقبلية... والجميع لا يخفي أطماعه باستثناء دول الجوار التي تعد فعلياً من المتضررين من هذه الأطماع خصوصاً أن الطامعين يعتمدون على الإرهابيين والمرتزقة بشكل أساسي (وتركيا مثال معلن) وهؤلاء يشكلون التهديد الأكبر لدول الجوار (ومجمل الدول العربية) وما زلنا نرى كيف أن تركيا تطبق السياسات الأميركية في نقل الإرهابيين من بلد إلى بلد في سبيل أطماعها الاستعمارية التوسعية.

يتحدثون ويتباكون ويطالبون بمنطقة عازلة بالمنطقة الوسطى، عبر شاشات الفضائيات النفطية المصابة بفايروس الاستنعاج وطأطأة الرؤوس، منطقة عازلة... لمن...؟ للذين يؤوون المسلحين والعملاء والغرباء من عشرات التنظيمات التي فرّختها داعش والقاعدة... للذين يستكينون لأردوغان وزبانيته وينفذون أوامره... المنطقة العازلة التي يطالبون بها يريدونها منطقة خارج القانون، منطقة آمنة للمزيد من التآمر والضغط على الدولة والشعب والتهديد بالتقسيم والانفصال، منطقة عازلة لعودة نزلاء فنادق الدوحة واسطنبول... وضمان استمرارهم في تنفيذ أوامر أسيادهم عن قرب هذه المرة.

يتفنن المحلّلون "الاستراتيجيون" و"العسكريون" والطبّالون والزّمارون ومبيّضو الأموال والضمائر الميتة الذين نبتوا فجأة مثل الفطور السامة على فضائيات النّفط ليتسيّدوا المشهد الإعلامي الموبوء في الحرب على ليبيا بكل ما فيه من عفن وخيانة لرسالة الإعلام، وليصرخوا ليل نهار بضرورة المنطقة العازلة بسرت والجفرة، يساندهم في ذلك عرّابو مافيات دولية وتجار أعضاء بشرية وجثث ومخدرات ليجد كل منهم موطئ قدم له على أرض ليبيا. فالضبابية التي ترسمها أطراف كشفت عن وجهها الحقيقي تجاه ليبيا وشعبها على صورة المشهد الليبي والمدثرة بمبررات وحجج لا سند قانونيًّا لها، ولا أساس لها من الواقع، لا تزال أحد الأساليب التي اعتمدتها تلك الأطراف للتخفي وراءها، وستر حقيقة أهدافها الاستعمارية المبيتة ضد الدولة الليبية. 

وبنظرة سريعة على صورة المشهد الليبي وما جاوره قبل العام 2011 يقف المتابع الفطن والعاقل والموضوعي على البون الشاسع بين ما قبل ذلك التاريخ وما بعده، ويقف على حقيقة ما يساق من مبررات وذرائع لا تمت للواقع بصلة، وكيف اشتغلت الأطراف الطامعة على إعداد المخطط التدميري لاستهداف ليبيا، وتحقيق الأهداف والمشروعات الاستعمارية، ذلك أن ما يسوَّق اليوم من ذرائع وشعارات لتبرير انتهاك سيادة ليبيا والنيل من استقلالها والانتقاص من وحدة أراضيها، وتقطيع أواصر نسيجها الاجتماعي عند مقارنته بما قبل العام 2011 لا يوجد على أرض الواقع ما يسنده ويعضده.

 وبنظرة فاحصة وموضوعية ومتعقلة إلى المشهد الليبي، نجد أن الأطراف الطامعة والمعادية لليبيا كيف تذرف دموع التماسيح كذبًا بادعاء خوفها على الشعب الليبي. وبكل هدوء نتساءل: منطقة عازلة...؟ وهل من منطقة عازلة إلا حيث يكون الجيش العربي الليبي وحلفاؤه؟ وهل من منطقة عازلة خارج سلطة الدولة والقانون والمؤسسات الناظمة لحياة الناس؟ أنظروا إلى ما فعله أمراء الظلام والفتاوى الأخوانية في المناطق التي سيطروا عليها...، أنظروا إلى ما الذي فعله أمراء الحرب من اعتداءات مستمرة على حريات وممتلكات وبيوت وأعراض الناس فيها، انظروا إلى حروبهم اليومية فيما بينهم على النفوذ والمال والسلطة، والضحايا الذين يقضون ظلماً من المدنيين نتيجة هذه الصراعات الدموية...

بين الأطماع الأميركية والأوهام التركية تغدو التسميات مستنسخة من حال الاتفاق، وربما تشبه إلى حدّ التطابق ما يطرحه النظام التركي من هلوسات حول المنطقة العازلة وتفرعاتها ومشتقاتها، التي باتت تحتاج إلى قاموس سياسي لفك ألغازها وطلاسمها. واللافت أنّ الاتفاق مع الأميركيين بهذا الخصوص، ما يلبث أن يعود إلى الإقرار بأن هناك خلافات واختلافات تحول دون التنفيذ، وتارةً يمرر ما يشي بأن ليس هناك من اتفاق، ويصل الوهم في بعض الأحيان إلى الحديث عن تنفيذ اتفاق لم يتم الاتفاق عليه...! ولا يتردد في التلويح تهديداً ووعيداً.

 والسؤال فعلاً: أين وصل الاتفاق الأميركي التركي؟ وهل تمّ فعلاً أم لا يزال في طور الأخذ والرد وربما حبيس التمنيات؟ ليبقى في نهاية المطاف مادةً للاستهلاك الإعلامي ليس أكثر، أو في أفضل الحالات مجرد مساحة للابتزاز، يمارسها الأميركي والتركي، كلٌّ وفق أطماعه وحساباته!

في الحسابات القائمة يبدو كل ما يتم تداوله بالون اختبار، يجرّبه الأميركي والتركي وفق اعتبارات تتقاطع فيها الأطماع والأحلام المريضة التي يتقاسمانها، حيث الاختلاف في المقاربات لا يقتصر على التحالفات الملزمة داخل العلاقة الأميركية التركية، بل يمتد إلى حدّ التناقض في فهم الحيثيات التي تحكم كل طرف وبنك الأهداف الذي يعمل عليه. فلا الأميركي لديه الاستعداد بالمقامرة بأطماعه من أجل إرضاء التركي، ولا الأخير لديه الرغبة في التخلي عن إرهابييه، مضافاً إليه فقدان الثقة المتبادلة على وقع المأزق التركي المتفاقم، وفي ظل استعصاء الخيارات الأميركية، ليس على مستوى المنطقة فحسب، بل على النطاق الدولي. والأدهى من ذلك، أنّ كلا الطرفين يعتقد إلى حدّ الجزم أن المشهد مؤقتٌ، والتحالفات داخله وخارجه آنية، ولا يمكن الاتكاء عليها أو المراهنة على استمرارها، وخصوصاً أنّ التجربة عمّقت الشرخ القائم بين الجانبين. 


الأميركي الذي تراجع غير مرة عن الفكرة، يتجه في المنحى ذاته والمسار عينه، وإن لم تتغير نغمة الأطماع، بينما التركي يمضي في إحصاء أوهامه، فكلّ يوم لديه وهم جديد، وما يضيفه من لغوٍ لا يعدو كونه أضغاث تلك الأوهام وهلوسات الرجل المريض بنسخته المنقَّحة، لينتهي به المطاف إلى الإقرار بأنها ليست أكثر من حبر على ورق... حالها حال الكثير مما طرحه ومما قد يطرحه لاحقا! وبالتالي فإن على أردوغان وحكومته وكل القوى التي كانت تراهن على الإرهاب أن يعيدوا النظر في حساباتهم، وإذا كانوا "حريصين" على الشعب الليبي -وفق ما يدّعون- فعليهم العمل بجدية لوقف دعم الإرهابيين، وإغلاق حدودهم، والعمل بجدية مع روسيا ومصر... لإنجاح المبادرات السياسية لحل الأزمة، وبخاصة أن وقائع الميدان والهزائم المدوية التي لحقت بإرهابييهم في معظم جبهات المواجهة لم تعد تساعدهم على المزيد من المراهنات لأن تلك المراهنات باتت خاسرة سلفاً.

للمرة الألف - ربما - سنُوصِّف لأميركا حالتها، والنتائج التي لن يكون لها قدرة مجرد مُحاكاتها، لا تحقيقها في ليبيا وعلى امتداد خط المواجهة، ومحورها: لا حياة لمُخطط أميركي هنا في ليبيا، لن يَتكسَّر فقط، بل سيُنتج في تَكسُّره حالة أخرى هي على الضِّد مما تُخطط له، وبتَحطُّمه سيَنتُج عنه مُعادلات لم تتوقعها! للمرة الألف - ربما - سنُؤكد لأميركا أنها إذا لم تُدرك الآن مع من تَشتبك، فإنها لن تُدرك ولن تكتشف إلا بعد فوات الأوان الذي لن تَجد بعده من يُساعدها على حفظ ماء الوجه، وهو ما ينبغي لمجلس العقلاء فيها أن يبحث عنه بهذه الأثناء، إن كان فيها ثمة عُقلاء!

خلاصة الكلام: قَبلَ ترامب أم لم يقبل، اِلتوى ذراع أردوغان أم انكسر، خاب الإخوانيون أم بالغوا بالخيانة، فإن المنطقة الوسطى، لن تكون إلا ليبية... هذا الدرس سيُستكمل لمن لم يفهم بعد. فالشعب الليبي ليس بحاجة إلى منطقة عازلة بسرت والجفرة، ولم يكن يوما بحاجة إلى هذا النوع من المعاملة، بل يرفض رفضا باتًّا كل أشكال التدخل في شؤون بلاده الداخلية، والانتقاص من سيادتها ووحدتها، ويرفض كل ألوان الإرهاب من بوابة الكذب والافتراء بـ"مساعدته حتى تحقيق تطلعاته"، فمن يريد أن يساعد الشعب الليبي صادقا، فعليه أن يكف عن دعم الإرهاب وجلب الإرهابيين والتكفيريين والمرتزقة، وتوفير ميادين التدريب ودعمهم بالمال والسلاح، وأن يدعم الشعب الليبي نحو خيار الحل السياسي مع إعلانه التبرؤ من الإرهاب وتنظيماته.


باحث وكاتب صحفي من المغرب.