في خطابه الأخير بمناسبة عيد العرش (30 يوليو المنصرم)، دعا الملك محمد السادس الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون إلى العمل سويا على “تطوير العلاقات الأخوية”، مؤكدا أن الوضع الحالي للعلاقات مع الجزائر “ليس في مصلحة شعبي البلدين، كما أنه غير مقبول من طرف العديد من الدول”.

ويعتبر عيد العرش في المغرب مناسبة قومية يحتفل بها ابتداء من 30 يوليو من كل سنة، يتخللها عدة احتفالات رسمية و شعبية، و هي ذكرى تَربُّع الملك على العرش وبيعته الرسمية. وقد بويع الملك محمد السادس في 23 يوليو عام 1999، وأصبح ملكا رسميا في 30 من يوليو.

وسبق للملك محمد السادس أن اقترح أواخر العام 2018 إحداث آلية للحوار الثنائي، بينما ردت الجزائر بشكل غير مباشر بالدعوة إلى اجتماع لوزراء خارجية اتحاد المغرب العربي (ليبيا وتونس والجزائر والمغرب وموريتانيا) الذي أضحى مجمدا عمليا منذ أكثر من ربع قرن.

ليست هي المرة الأولى التي يوجّه فيها العاهل المغربي محمد السادس نداء أخويا إلى الجزائر، غير أن الخطاب هذه المرة تميز على عدة مستويات:

أولا جاء في سياق عرف تصعيدا من الجانب المغربي من حيث إثارته لمسألة القبائل عبر سفيره عمر هلال حين دعا خلال اجتماع دول عدم الانحياز يومي 13 و14 يوليو الماضي، إلى "استقلال شعب القبائل" في الجزائر. وهو تصعيد جاء إثر مسلسل الجدل الإعلامي والسياسي بين المغرب وإسبانيا الذي انتهى إلى أزمة ديبلوماسية بين البلدين بسبب استقبال إسبانيا لزعيم البوليساريو المتهم بارتكاب جرائم.

ثانيا: الخطاب الملكي استغرق 15 دقيقة كان حوالي نصف وقته مخصصا للعلاقة الجزائرية، ومن أبرز ما جاء فيه، أن المغرب والجزائر توأمان متكاملان، وأن "الحدود المفتوحة هي الوضع الطبيعي بين بلدين جارين وشعبين شقيقين". أما على مستوى المعجم، كانت مفردات الخطاب تترجم عمق الوجدان المشترك، الوجدان المغاربي في عمقه الإنساني، وكذلك كان الأسلوب والمضامين.

ثالثا: الخطاب اتسم بأقصى درجات التودد، متحررا من عبارات اللوم والعتاب، مخاطبا الوجدان والمنطق، ساعيا إلى تبديد المخاوف واسترجاع الثقة بين البلدين، داعيا إلى تجاوز العوائق الأيديولوجية والنفسية التي تشكلت على مدى العقود السابقة والانخراط في بناء علاقة جديدة أساسها التعاون والعمل المشترك.

كان الخطاب مفعما بمشاعر الود، كما لو أنه يريد أن يثير الانتباه إلى أمر جلل يجب أن تتضافر الجهود من أجل إبطال حدوثه، وأن الجفاء الذي طبع العلاقة بين البلدين بلغ منتهاه، وقد آن أن ينخرط الكل في حملة إسعاف لإنقاذ ما تبقى من العلاقة، لإنقاذ نبل المعنى الذي يجب أن تنطوي عليه علاقة شعبين شقيقين وجارين.

رد الفعل الجزائري

لم تحدث الخطابات الملكية أي أثر إيجابي في جدار الجفاء بين البلدين، ولم يقابلها الطرف الجزائري بأي إجراءات عملية، لا تجاوبا مع تلك النداءات، ولا قطعا نهائيا للعلاقة الديبلوماسية بشكل واضح. ولم يصدر تعقيب رسمي جزائري واضح بشأن الدعوة الجديدة للعاهل المغربي.

وفي بيان صدر عن رئاسة الجمهورية (الأربعاء المنصرم) إثر الاجتماع الدوري الأخير للمجلس الأعلى للأمن لم يتضمن أي رد على الخطاب الملكي. وفي عددها الأخير، فإن مجلة الجيش قد سارت على نفس الخط الذي انتهجته إزاء المغرب تصريحا وتلميحا حيث أكدت أن "التفكير في تقسيم الوطن أو التشكيك في وحدة الشعب أو المساس بشبر واحد من التراب الوطني لهو ضرب من ضروب الخيال والجنون". وشددت على أن "هؤلاء الحمقى والخونة يجهلون طبيعة الإنسان الجزائري، ولا يقدرون ردة فعله إن حاولت النفوس المريضة المساس بمثقال ذرة بالجزائر".

أما على المستوى الإعلامي، فقد نشرت وكالة الأنباء الجزائرية الرسمية، أول رد فعل لجبهة "البوليساريو" على الخطاب الملكي. وحسب وكالة الانباء الجزائرية، فإن "وزارة الاعلام الصحراوية" اعتبرت الخطاب الملكي قد اتسم هذه السنة بالـ"الكلام المعسول"، مشيرة إلى أن الدعوات الملكية تتناقض مع ما يقوم به المغرب من توسعات وخرقه لاتفاقية السلام مع الطرف "الصحراوي".

ونشرت صحيفة الشروق الجزائرية مقالا رفضت فيه الاقتراح المغربي وحذرت من التقارب مع الرباط. ووضعت الجريدة الجزائرية سلسلة من الشروط التي، حسب قولها، يجب تلبيتها قبل أن يتمكن الجيران من التوافق بينها، خاصة أن الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون تحدث في مرات سابقة عن بعض الشروط لفتح الحدود، وعلى رأس هذه الشروط اعتذار المغرب عن الاتهامات التي وجهها للجزائر على خلفية الأحداث التي وقعت في العام 1994. وعلى ذات المنوال سار الإعلام الجزائري العمومي والخصوصي.

هذا الصمت الديبلوماسي الجزائري إزاء النداء المغربي يقابله ضجيج ديبلوماسي يضطلع به وزير خارجيتنا رمطان لعمامرة في أقصى شرق القارة الأفريقية ليصلح ذات البين بين مصر وأثيوبيا، وهو أمر يدعو إلى الحيرة، فإن كان وزيرنا قد أوتي من الحكمة في حل مشاكل الآخرين فالأولى أن ينفع الجزائر بحكمته في علاقتها بجيرانها، ولاسيما جارها الغربي الذي تقطعت بيننا وبينه السبل وبات الوضع على ما يبدو ينذر بما هو أسوأ.

الإعلام المغربي

انخرطت كل المنابر الإعلامية المغربية في طقس من الترحيب والاستبشار بمضامين الخطاب الملكي، وخصصت له بشكل نسقي حصصا تناولته بالشرح والتحليل. ورحب كُتاب مغاربة بدعوة الملك، ورأوا أن "الكرة الآن في ملعب الجزائر"، بينما شكك كُتاب جزائريون بهذه الدعوة ووصفها بعضهم بأنها "تكتيك ظرفي".

الإعلام المغربي في عمومه كان موضوعيا ومتواضعا لولا بعض الأقلام التي لا تقل غطرسة عن غطرسة الإعلام الجزائري، هذه الأقلام المغربية للأسف لم تستوعب روح العصر ولا تتمتع سوى بموهبة الاستعراض والمزايدة، حيث وجدت في الخطاب الملكي فرصة للتعبير عن نرجسيتها ومرضها القومي الذي يسيء إلى المغرب وإلى سياسته التي انتهجها منذ عقد من الزمن على الأقل؛ ولحسن الحظ أن في الوسط الإعلامي المغربي من يتصدى لها.

وفي بلاغ لها، حول أسلوب تعاطي الصحافة الجزائرية مع الخطاب الملكي، قالت النقابة الوطنية للصحافة المغربية أنها تابعت "ما نشرته العديد من المؤسسات الإعلامية الجزائرية خلال الأيام القليلة الماضية"، وسجلت "بهذه المناسبة أن دور وسائل الإعلام يتمثل أساسا في المساهمة في التعبئة بما يمكن من تجاوز الصعوبات، وبما يحقق مصالح الشعوب عبر التعاون والتآزر والتضامن. و بذلك فإن وسائل الإعلام المغربية و الجزائرية كانت، و لاتزال، مدعوة إلى استثمار الفرص التي تتيحها التطورات في اتجاه تحقيق التقارب والمصالحة بين القطرين الشقيقين اللذين دفعا ثمن الأزمات المتتالية بين البلدين غاليا، فيما يتعلق بتحقيق التنمية و التطور و تحسين ظروف العيش الكريم .إلا أن كثير من وسائل الإعلام الجزائرية حادت عن هذه الأدوار النبيلة، واجتهدت في إبطال ما تتيحه هذه الفرصة التاريخية بكثير من المعالجات الإعلامية التي بدت موحدة ومنسجمة، وكأنها صادرة عن جهة واحدة، معالجات تفتقد إلى أبسط شروط المهنية وأخلاقيات هذه المهنة النبيلة،  اكتظت بمضامين العداء وبعبارات السب والقذف" .

وواصل البلاغ: "إن النقابة الوطنية للصحافة المغربية، بالقدر الذي تعبر عن اعتزازها الكبير بمضامين الخطاب الملكي الأخير والذي يمثل فرصة حقيقية أمام العلاقات المغربية الجزائرية لتجاوز مخلفات الماضي، فإنها تعبر عن امتعاضها وأسفها إزاء ما نشرته وسائل إعلام جزائرية لم تر في هذه الفرصة التاريخية غير مناسبة لتفريغ مزيد من الأحقاد والعداء، وتدعو الصحافيين الجزائريين الشرفاء والأحرار إلى التصدي لهذه النزعة العدوانية التي تحاول بعض الأوساط الجزائرية تثبيتها في العلاقات بين الشعبين"، كما دعت "الاعلام المغربي إلى عدم الانسياق أو رد فعل سلبي بل العمل على دعم التوجه الإيجابي في تفعيل العلاقة بين البلدين والشعبين الجارين".

مآل العلاقة المغربية الجزائرية بعد الخطاب الملكي الأخير

لقد مر أسبوع على الخطاب الملكي دون رد رسمي جزائري لحد الآن. فهل النخبة الحاكمة في الجزائر تتدارس الأمر على نار هادئة ثم ترد التحية بمثلها أو بأحسن منها؟ أم أنها سترد بالرفض؟ أم ستلتزم الصمت في انتظار 20 أوت، وهو يوم قومي في كلا البلدين؟

واقعيا، إن واقع العلاقة المغربية الجزائرية يقف على الطرف النقيض من المنطق والأخلاق والوجدان؛ واقع البلدين وواقع علاقتهما البينية بات عصيا على المعالجة بالطرق التقليدية التي ظلت سياسة البلدين تعتمدها. هذا الوضع الذي نشأ بشكل سيء يصعب معالجته في غياب سياسة صلبة في كلا البلدين، سياسة متشبعة بقيم العدل والحرية والسلم.

لا يمكن أن ننكر أن المغرب لم يبق حبيسا في سياساته القديمة من حيث أنه ظل يجتهد ويبتكر ما هو متاح للخروج من الأزمة سواء على صعيده الداخلي أو على صعيد محيطه الإقليمي، لكن للأسف هناك مساحة مشتركة من تخلف النخب الفكرية والسياسية بين كل الأقطار المغاربية، وخاصة في الوسطين الجزائري والمغربي: السياسي والأكاديمي.

الطبقة السياسية في الجزائر والمغرب للأسف تعاني من جفاف في الخيال السياسي الخلاق، تعاني من فساد في الأخلاق ومن الجهل بميكانزمات السياسة، ولا هَمَّ لأباطرتها سوى المغانم الشخصية. أما الوسط الأكاديمي، باستثناء مبادرات فردية، يمكنك القول أن السواد الأعظم من الأكاديميين مجرد متطفلين على المجال، يجهلون ما يحدث في العالم، يجترون ما تحصلوا عليه في فترة طفولتهم ويكرسون جهدهم لتكريس التخلف.

الطبقة السياسية في البلدين ونخبها الفكرية تفتقد إلى النضج، تعاني من الخواء العلمي ومن الكسل والجهل وتضخم الأنا، تتبنى قضايا بعيدة عنها وتلتحق بجبهات غامضة، لا فرق بينها وبين المرتزقة المراهقين المغرر بهم؛ وبالتالي أصبحت هذه الطبقة السياسية ونخبها الفكرية عبئا على الدولة وعلى الشعب، خطاباتها وأنشطتها تعيق سيرورة التطور الذهني والوجداني للشعبين وتكبح حيوية الأفراد والمؤسسات.