لا يحتكم رئيس الحكومة هشام مشيشي على شرعية انتخابية ولا على زعامة شعبية تساعده على إقناع التونسيين بمشروعه الإصلاحي وبالصبر على الإجراءات القاسية التي يرى نفسه مجبرا على اتخاذها لمواجهة الأزمة المالية والاقتصادية الطاحنة التي تعرفها البلاد ، وهي إجراءات كفيلة بالإطاحة بأية حكومة في أي بلد آخر ، أو على الأقل بالتحفيض من شعبية أي زعيم حقيقي وإن كان يحظى بثقة الشعب.

كما أن مشيشي لا يمتلك أدوات الدولة القوية القادرة على فرض قراراتها ولاسيما في وجه الغضب الشعبي ، فخلال السنوات الماضية عجزت الحكومات المتلاحقة على التصدي للاحتجاجات والاعتصامات في مواقع الإنتاج الرئيسة بالبلاد ، وخضعت لابتزاز النقابات العمالية القطاعية وتنسيقيات المحتجين ، واضطرت لتحميل ميزانية الدولة بنودا إضافية ، أدت لاحقا الى حالات العجز ومنها الى الاقتراب من حالة الإفلاس ،

و شهدت السنوات الماضية ، تغولا غير مسبوق للمهربين ولرساميل الاقتصاد الموازي الذي يكاد يبلغ عتبة الستين بالمئة من الاقتصادي الجملي في البلاد ، ولعصابات الاحتكار والمضاربة التي لم تترك شأنا حيويا دون أن تتدخل فيه بدءا من الزيت النباتي والسكر والسجائر والخضار والفواكه واللحوم والأسماك وصولا الى علف الحيوانات ومواد البناء ، ما زاد من غلاء الأسعار والتلاعب بشروط العرض التجاري ، ودفع تحالف المحتكرين الى غياب المنافسة التي تعتبر من أبرز مقومات الاقتصادات الحرة ، كما ساهم ضعف الرقابة في تشكيل وجهة نظر تزعم وجود غطاء سياسي توفره أحزاب الحكم لشبكات الاحتكار ضمن خطة العمل على تشكيل طبقة جديدة من الفاعلين الاقتصاديين المنتسبين إليها أو المتواطئين معها  

وتحول التهريب من وإلى تونس الى قوة ذات تأثير فاعل في الوضع الاقتصادي بحاضنة اجتماعية واسعة ، ما ساهم في ضرب الصناعة الوطنية في مقتل ، وفي إهدار السلع المدعومة من قبل الدولة ، وفي إرباك المجال التجاري ، وفي المضاربة على العملات الأجنبية ، وفي تكوين اقتصادات محلية من خارج سياق النظام المصرفي ، واتسعت شبكات التهريب من محورها التقليدي مع ليبيا والجزائر الى دول الساحل والصحراء والضفة الشمالية للمتوسط ، حيث يشمل نشاطها كل ما يمكن أن يشترى ويباع ، وصولا الى الأدوية والمخدرات وحبوب الهلوسة ، وفي مناسبات عدة تم التحذير من العلاقات القائمة بين التهريب والإرهاب وغسيل الأموال وفقدان الدولة لإمكانية السيطرة على السوق بما يجعلها تخسر مصادر جنائية مهمة كان يمكن أن تساعدها على تجاوز أزماتها المالية.

كما ارتفعت مؤشرات الفساد الذي أصبح نمطا مجتمعيا ، وجزءا أساسيا من المعاملات اليومية في مختلف مجالات الحياة ، وهو ما جعل الرئيس قيس سعيد يقول أن "تونس تملك كل الثروات ولكن للأسف كلما زادت النصوص زادت اللصوص" ، مشيرا الى ما نعتها بأسراب الجراد التي تأتي على الأخضر واليابس ، لكن السلطات تبقى عاجزة على مواجهة الظاهرة ، كون الفساد ضرب كل مستويات القرار ، وبات أحد أعمدة منظومة الحكم ، واخترق حتى المؤسسات التي تتبنى مقاومته ، وذلك بسيطرة نزعة الفرد الفاسد الى تحويل المؤسسة الى جهة تخريب ممنهج عبر الوعي بطبيعة أدوات المقاومة لتعطيل حركتها في اتجاه أداء المهمة التي يفترض أن تقوم بها.

 إن الحديث عن بلد ديمقراطي يعني ضرورة توفير حد الأدنى من الخدمات العامة ، يشير الخبراء المتخصصون الى أنه ودون تعليم جيد وصحة وتدبير من الأمن ، ترتد مشاركة الناس في المناقشات السياسية الى الحد الأدنى، كما أن من الواضح أن الفساد يعني ضعف الخدمات العامة لأن الرشاوى - أكثر أشكال الفساد شيوعًا - تؤدي إلى سوء تخصيص الموارد ، ويهتم صناع القرار أكثر بالحصول على مستوى أعلى من الرشاوى ، وليس لاتخاذ القرار الأفضل، ولجعل الأمر أسوأ ، يزيد الفساد أيضًا من تكلفة الخدمات العامة . ونتيجة لذلك ، فإن البلدان الفاسدة لديها استثمارات أقل وتصبح أكثر فقراً .

 إلى ذلك ، يؤدي الفساد المتزايد إلى تراجع الثقة بالنخب والدولة . في بلد ترتفع فيه مستويات الفساد ، لا يثق السكان في السياسيين وجهاز الخدمة المدنية ، حيث مع الشك وحتى المخاوف من النخب ، لا يمكن للسكان استثمار أنفسهم في التصويت أو المشاركة في المجتمع المدني أو المشاركة في المناقشات العامة. نتيجة لذلك ، بدأت ثقافة الديمقراطية في الانهيار.

 إن أسلوب الإضعاف المتعمد للدولة في تونس  والتي انطلق منذ العام 2011 وشارك في إنتاجه أغلب الفعاليات السياسية والحزبية والنقابية بهدف التمكن من اختراق مفاصلها بزعم السعي الى ضمان  عدم عودة نظام حكم الفرد ، أدى الى تشكيل أسس ثقافة جديدة تنبني على فكرة المغالبة بواسطة التكتلات الفئوية والجهوية والمناطقية والحزبية والنقابية والمهنية المنغلقة على مصالح أفرادها وجماعاتها ، دون التفكير في بقية المجتمع ، حتى تحولت الدولة الى رهينة لدى قوى بعينها تزعم الدفاع عن الديمقراطية والتعددية وحقوق الإنسان والمساواة أمام القانون ، وتمارس أبشع التصرفات المنافية لذلك ، لتتحول الأنانية الإيديولوجية والمصلحية والفئوية الى فيروس يخترق كافة المؤسسات ويلقي بظلاله على تصرفات المواطنين العاديين.

اليوم ، بدأ مرحلة الحصاد المر لما بذرته النخبة السياسية الحاكمة خلال السنوات العشر الماضية ، ولما روي من جداول النفاق والتوافق الكاذبين ، ومن نكد حظ الحكومية الحالية ، أنها قبلت القيام بدور يتجاوز قدراتها ، ويحاول الإسلام السياسي الدفع بها الى المنزلق ليجد في كل مناسبة القدرة على التنكر لدوره ، والتنصل من المسؤولية ، ليحمل رئيس الحكومة وفريقه عبء أي قرارات غير شعبية تثير غضب الجموع أو تسبب انتفاضها

غير أن أي مساع حكومية لمزيد الرفع من الأسعار ، سيؤدي الى وضع اجتماعي معقد يهدد بالانفجار ، ولا سيما إذا تعلق الأمر بالرغيف الذي يبقى محرك الانتفاضات في تونس ، ولاسيما أن الإصلاحات القاسية لا تجري في أي بلد من البلدان ، إلا من قبل « فدائيين » يمتلكون الرمزية السياسية والشرعية الشعبية الواسعة وتصدقهم الجماهير وتساندهم بقبول التضحية في سبيل تحقيق تلك الإصلاحات التي لا تظهر نتائجها الإيجابية إلا بعد فترة.