يعد المسرح الشعبي أحد معالم مدينة بنغازي الليبية التي طالما كانت منجبة للمواهب وصانعة للنجوم، حتى أنها جعلت من الفنون شأنا حياتيا يوميا، ومن الفن الرابع حالة ثقافية واجتماعية متواصلة مع الواقع المعيش، ولا سيما المسرح الجماهيري الذي يحظـى بإقبال كبير على متابعة عروضه التي عادة ما تقدمه بشكل يومي.

وأحدث المسرحيات التي تقدم على خشبة المسرح الشعبي «مقالب ذا فويس» التي تم افتتاحها منذ رمضان الماضي، وهي من تأليف واخراج خميس مبارك وبطولة ميلود العمروني وطارق بوقرين ومراد العرفي وعلي المغربي وبوبكر بن دردف وعبدالعزيز العيساوي ومهند الاوجلي وسند وهبي وعبدالقادر السعيطي وحمادي الطيرة والمطرب عيسى الشريف، بينما يتولى الطيب الطيرة الإشراف العام على العمل.

والمسرحية من النوع البوليسي الكوميدي الذي يقصده المتلقي للبحث عن مساحة للترويح عن النفس والضحك أمام المواقف الطريفة، وتم الاعتماد في نصها على استحضار إطار البرنامج التلفزيوني الشهير « ذا فويس » المخصص لاكتشاف مواهب الغناء ، لانتحال الشخصيات السياسية وتقديمها في إطار ساخر يفضح الواقع السياسي في البلاد

تنتمي المسرحية الى الكوميديا السوداء التي تطرح القضايا المؤلمة والملفات الصعبة بأسلوب يدفع للضحك حيث تنتقد بشدة الأوضاع السياسية في ليبيا ولاسيما خلال السنوات الماضية وتجعل منها مادة للإضحاك في إطار كاريكاتوري تعود على تقديمه فنانو المنطقة الشرقية الذين يمتلكون طاقات مهمة في مجال الكوميديا وأصبح عدد منهم نجوما شعبيين من الدرجة الأولى، وهو ما يفسره استمرار العروض لأشهر متتالية بشكل يكاد يكون يوميا كما هو الحال في المسرح التجاري المصري

وتكفي الإشارة الى اسم بطل « مقالب ذي فويس » ميلود العمروني لندرك حجم ما توفره المسرحية من مساحات واسعة للضحك والابتسامة ، وهو الممثل الذي قدم منذ بداياته في العام 1974 عشرات الأعمال الكوميدية ، بل وكان منظّرا للضحك من خلال كتابه « الضحك والإضحاك » الصادر في العام 2004 والذي يعتبر أول كتاب يتحدث عن الضحك في ليبيا من الولادة وحتى الموت.

ويقول العمروني «أنا أول مَن قام بوضع تعريف للضحك في العالم ويؤسفني أن أقول ذلك بنفسي، فأنا عندما قمت بتأليف كتابي «الضحك والإضحاك» لم أجد أي تعريف للضحك لأن العلماء قالوا إن الضحك ظاهرة لا يمكن وضعها في إطار لأن أسباب الضحك تختلف من إنسان لآخر، ومن خلال المَراجع التي استعنت بها وعددها أكثر من أربعين كتابًا كلها تجزم بأن الضحك ظاهرة لا يمكن وضعها في إطار، قلت إن الضحك مبني على الفهم،  وليس كل الفهم يؤدي إلى الضحك ، فأحياناً تفهم مسألة حسابية ولكن ليس فيها أي مثير للضحك، وأقول إن بعض الفهم يؤدي إلى الضحك، والضحك ميزة إنسانية»

وفي الرابع والعشرين من أغسطس الماضي، قصد قائد الجيش الليبي المشير خليفة حفتر، مقر المسرح الشعبي، ليتابع عرض «مقالب ذي فويس» وهو ما رأي فيه البعض مؤشرا ليس على دعم المسرح فقط وإنما على مساندة المضامين التي تقدمها المسرحية من خلال المواقف والموسيقى والغناء في تعرية لصراع السياسيين على السلطة في بلد يواجه أزمة متفاقمة منذ عشر سنوات

وتاريخيا وتأسس المسرح الشعبي ببنغازي العام 1936، واحتضن عدة مهرجانات، وكان له دور كبير في الحركة المسرحية، ومن ضمن المسرحيات الشهيرة التي تم عرضها به مسرحية «غريب» لمنصور فنوش، ومسرحية «ضحك ساعة» ومسرحية «عفريتة» ومسرحية «صور عائلية» و«عجب يا دنيا» ومسرحية «كوشي يا كوشة» و«المستشفى».

ومنذ تأسيسه ، تعاقبت على المسرح الشعبي عدة أسماء ابتداء من فرقة الشاطئ إلى أن اتخذ اسم المسرح الشعبي للتمثيل والموسيقى بموجب قرار الترخيص رقم (59) بتاريخ السادس من أغسطس 1960 الصادر عن مصلحة الشئون الاجتماعية والعمل بالمملكة الليبية المتحدة آنذاك ووفق نائب مدير المسرح الشعبي بنغازي الطيب الطيرة ، فإن المسرح انبثقت منه عدة مسارح، حيث ظهر في سنة 1969 المسرح الوطني بنغازي على يد عدد من العاملين في القطاع ومنهم المسرحي والإعلامي والمسؤول الثقافي إبراهيم العريبي ، ثم أسس رجب العريبي فرقة« السنابل » ، وعبد الحميد القماطي فرقة « العربي » لكن يبقى المسرح الأم هو المسرح الشعبي الذي يقع في موقع إستراتيجي وسط بنغازي ما يجعل منه قبلة للجمهور من كافة المناطق.

وقبيل أحداث فبراير 2011 طالب المسؤولون عن المسرح بصيانته ووجدوا دعما من عائشة القذافي، ولما كان في آخر مراحل الصيانة جرت الأحداث التي أسقطت النظام، فتعطل الأمر لبعض الوقت لتتواصل بعد ذلك ، وفي 28 مارس 2013 تم افتتاح المسرح الذي ظهر  في حلة جديدة من حيث جمالية التصميم وتميز الأجهزة التقنية ، بمسرحية « الهشيم » لمحمد القديري وبطولة أسامة بركة وسعاد خليل وعلي الفيتوري وتوفيق الفيتوري

وعندما أطلق الجيش معركة الكرامة ضدّ الجماعات الإرهابية في مايو 2014 ، كان المسرح يوجد في موقع اشتباكات ما جعل منه نقطة الارتكاز للجيش في الحرب ، وبعد الإعلان رسميا عن تحرير المدينة في يوليو 2017 ، تسلمت إدارة المسرح الشعبي مبنى المسرح من القوات المسلحة ومشاة البحرية ، وتبين أن الأضرار بلغت نسبة 70% في المبنى و80% في المعدات ، فتم ترميمه من جديد ، وفي فبراير 2019 قام رئيس الحكومة المؤقتة آنذاك عبد الله الثني بافتتاحه ليعاود نشاطه في احتضان العروض المسرحية والتظاهرات الكبرى ، ولكن انتشار حائجة كورونا حكم من جديد على المسرح بالإغلاق لمدة تفوق العام ، وفي أبريل الماضي تم افتتاحه للعروض اليومية بمناسبة بداية شهر رمضان مع اتخاذ الإجراءات الاحترازية اللازمة قبل دخول الحضور من تعقيم ولبس الكمامات والتباعد الاجتماعي أثناء جلوسهم علي المقاعد المخصصة.

وانطلق المسرح الشعبي في بنغازي في يوليو الماضي في عرض المسرحية الكوميدية الغنائية الجديدة «حفلة ليبيا» تأليف وإخراج فرج عبد الكريم، وبطولة عدد من نجوم الكوميديا، وقال عنها أستاذ العلوم السياسية بالجامعات الليبية مختار الجدال: «"حفلة ليبيا...كوميديا سوداء أضحكتني تارة وأبكتني أخرى، بفصل واحد ومشاهد عدة لخصت الواقع والحالة الليبية والصراع القائم منذ 2011 وحتى اليوم، وهي تشخص الصراع الذي وصل إلى الاختلاف في العائلة الواحدة بن الأب وأبنه، وبين الجار وجاره.. ورسمت صورة قاتمة لراهن المستفيدين من العقود والتحويلات والاعتمادات التي جلبت للوطن حاويات فارغة لا تحتوي شيء…أسقاط جميل ورائع وأبداع مؤثر يجعل كل من شاهد المسرحية يتأمل في أسباب الصراع الذي قادنا إلى التمترس خلف أفكار ومصالح مما جعل الوطن ينقسم ويتدحرج نحو هذه الهوة السحيقة من الاختلاف…»

وخلال الأيام القادمة، سينطلق المسرح الشعبي في تقديم عروض مسرحية « شيلوا » تأليف الفنان الكوميدي الراحل صالح الأبيض وإخراج مفتاح بادي لتضاف الى زخم النشاط المسرحي الذي تعطيه بنغازي مكانة مهمة في حياتها اليومية ، فالمسرح واحد من ركائز الثقافة في شرق ليبيا ، والمسرح الشعبي عماده في بنغازي.