في نهاية العام 2017، غادر فرقاء السياسة والسلاح الليبيين، تونس بعد جولة ثانية من المفاوضات بآمال كبيرة لحل سياسي شامل ينهي سنوات الاقتتال الداخلي ويفتح صفحة جديدة من تاريخ ليبيا يجمع كل المختلفين على طاولة واحدة. في ذلك الوقت حاول المبعوث الأممي تصوير اللقاءات على أنها مرحلة مفصلية في الأزمة الليبية مؤكدا أن المجتمعين متفقون على الشروط التي طرحها سلامة حول القيام بتعديلات تعطي الفرصة للجميع للمشاركة في العمليّة السياسيّة عبر توزيع جديد لتركيبة المجلس الرئاسي وقيادة الجيش، لكن ما حصل بعد ذلك يثبت أن الأزمة في البلاد أكبر من أن تحل بمجرّد مؤتمرات لم ير الليبيون فيها حلاّ لمشاكلهم إلى اليوم.

في لحظة فبراير 2011، كانت ليبيا تحت وطأة قصف عسكري بالموازاة مع قصف إعلامي كبير. في الوقت التي كانت طائرات الناتو تقصف مدن البلاد وأرتال جيشها كانت قنوات الدعاية تصوّر اللحظة على أنها ثورة تنهي مرحلة العقيد معمّر القذافي ستعقبها نهضة تاريخية تقودها وجوه جديدة ستقضي على الفساد وستفتح البلاد على ديمقراطية تعطي الشعب أحقيته في تقرير مستقبله السياسي والاقتصادي. نجحت الدعاية وقتها في استقطاب المئات من الشباب والتغرير بهم في معركة لم يدركوا عواقبها الوخيمة إلا بعد أن تم إسقاط نظام القذّافي ودخول ليبيا في حالة من الفوضى والاحتراب الأهلي لم تخرج منهما إلى اليوم.

ومع دخول البلاد في أزمة أمنية خطيرة في 2014 لم يكن أمام القوى التي أسقطت النظام من خيار سوى المبادرة بتنظيم مؤتمرات متعاقبة للخروج من الحرج الذي وضعت فيه البلاد. كانت مؤتمرات التخلّص من المسؤوليات أكثر منها لقاءات لتجميع الليبيين والبحث عن حلول منطقية. بالنسبة إلى القوى العظمى الهدف من بدايته ليس إسقاط نظام فقط، الهدف الحقيقي هو توفير واجهة سياسيّة طيعة تضمن للجميع حصّة من ثروات البلاد، لكن ما حصل مع السنوات كان جريمة في حق شعب حالم ببلد هادئ وبحق في ثروة منحها لهم القدر.


إذا تجاوزنا السنوات الأربع التي أعقبت أحداث فبراير، والتي كانت فيها ليبيا ساحة للفوضى والصراع السياسي والإرهاب والفساد، فإنه منذ العام 2015، تغيرت خطة القوى الكبرى المؤثرة نحو خيار "التجميع" بهدف تحقيق انفراجة في واقع البلاد. أهم المؤتمرات كان لقاء الصخيرات الذي حاول فيه المبعوث الأممي آنذاك مارتن كوبلر الخروج بنقطة مضيئة في سجله باعتبار تجربته في غالبها كانت فاشلة وعرفت فيها البلاد صراعا محتدما بين الجميع تقريبا. كوبلر نجح في توقيع اتفاق تشكلت بموجبه هياكل سياسية نالت الاعتراف الدولي، لكنه خيار بعيد جدا عن إرادة الشعب وعلى ذلك بقي إلى اليوم اتفاقا هشا رغم ما حظي به من شرعية دوليّة منحت حكومة السراج صلاحيات جعلته يقوي مواقفه خارجيا ويستخدم الاتفاق في كل صراع مع مخالفيه بحجة أنه صاحب الحق الدّائم.

في اتفاق الصخيرات نقاط كثيرة صيغت وصلاحيات أكبر منحت وحتى قرارات فرضت، وكانت الحجة وقتها فرض الأمن في البلاد، وفرض الأمر الواقع أيضا بمنح السراج مجدا لم يكن يحلم به مدعوما داخليا من أطراف الإسلام السياسي. لكن ما بقي ينقص الصخيرات كان الشرعية الداخلية التي بقيت إشكالا أثر في العملية السياسيّة بعد ذلك، بما يعني أنه فشل في تحقيق النقاط التي صيغت فيه سواء على المستوى الأمني سواء على المستوى السياسي سواء على المستوى الاقتصادي، الشيء الوحيد البارز في الصخيرات أنه منح السراج مكانة لم يكن يحلم بها، ومنحه سفارات تمثل في ظاهرها ليبيا وفي حقيقتها تمثيليات لمجوعات سياسية أو أطراف وجدت في تلك المواقع فرصة لكسب المال وسرقة أموال الليبيين.

بعد الصخيرات كانت هناك مبادرات إقليمية ومحاولات لتجميع الليبيين، من باريس إلى القاهرة إلى الجزائر إلى تونس، تنقل أطراف الصراع وقدّموا تصوراتهم للحلول، لكن في أغلبها كانت تعبيرات عن مواقف أو محاولة لكسب النقاط من كل طرف أكثر منها نوايا للتجاوز بالإضافة إلى عجز الأطراف المستضيفة عن الضغط أو عن تقديم تصورات واقعية للحل مما جعلها لعبا في الوقت الضائع.

تواصلت الأزمة وتواصلت معها محاولات التقريب إقليميا ودوليا إلى أن قررت إيطاليا الدولة ذات التاريخ الخاص في ليبيا والتي أرادت أن تفرض نفسها لاعبا بين البقية من خلال الدعوة إلى مؤتمر في مدينة باليرمو. المؤتمر استدعيت له أطراف كثيرة إقليميا ودوليا وحاول الإيطاليون تصويره على أنه فرصة كبيرة للتجميع. وإذا كان لقاء الصخيرات قد نجح بعيوبه الكثيرة في توقيع اتفاق لاقى الرضى الدولي، فإن مؤتمر باليرمو الذي تتطلب التحضير له أشهرا طويلة، لم يخرج بغير موعد للقاء جامع فشل بعد ذلك وبلقاء خفي بين السراج وحفتر وبصورة جماعية باهتة في حضورها للفاعلين الدوليين، وبابتسامة شاحبة لمن فيها توحي بأن المؤتمر لن يختلف عن سابقاته في تحقيق الفشل باستثناء الإيطاليين الذين كانت متفائلة بل تتجاوز توقعاتهم حسبما صرّحوا لأمر مفهوم وهو تنظيمهم للقاء. ومن سوء حظ الإيطاليين أن تفاؤلهم أعقبته الحرب التي أعلنت من طرف الجيش الليبي على طرابلس لإنهاء سطوة المليشيات وهو ما أنهى كل أمل في المصالحة في وقت قريب.

فشل مؤتمر في باليرمو لم يوقف الاتصالات بين أطراف كثيرة للبحث عن حل للأزمة، لكن مع اقتراب الحرب في طرابلس من عامها الأول تبدو الصورة قاتمة. التقى طرفا النزاع منفردين في أكثر من عاصمة عربية ودوليّة لأجل الحل، كل واحد يدافع عن مساره وفق ما يراه غير أن آفاق الانفراج مازلت صعبة في ظل لغة الاحتراب القائمة. الصعوبة زادت تعقيدا مع تطورات الشهرين الأخيرين اللذين اختارت فيهما تركيا أن تدخل بشكل مباشر لحماية حلفائها الإسلاميين في طرابلس من خلال إرسال جنود أتراك ومرتزقة سوريين وأجانب من حاملي الفكر الجهادي الذين كانوا يقاتلون في سوريا نظرا لخبرتهم في المعارك. التصرف التركي بالقدر الذي كشف ما كان يخفيه الأتراك من تعاملها ودعمها للجهاديين بالقدر الذي عمّق الأزمة وذهب بها إلى طريق صعب رغم الاتفاقات الحاصلة بوقف إطلاق النار تحت ضغط دولي وتحت مخرجات حوار برلين الأخير الذي يبدو أنه لن يكون استثناء عمّا سبق.

وفي خطوة جديدة لحلحلة الأزمة بدأ التحضير لمؤتمر في مدينة جنيف السويسرية. الملاحظ هذه المرة هو عودة المبعوث الأممي غسان سلامة إلى الواجهة بعد غيابه تقريبا منذ تحضيرات المؤتمر الوطني الجامع بداية 2019. سلامة عموما يحمل في جرابه سجلا هاما من الفشل مثل سابقية. الرجل في بعض الفترات أصبح مجرّد رقم بلا قيمة يقدّم إفادات لمجلس الأمن يعطي فيها صورة لم تعد خافية على أحد، رغم أن كثيرين تفاءلوا عقب تعيينه باعتباره أكثر قربا وفهما للأزمة. المهم اختار سلامة أن يكون جزءا من مشاورات جنيف من خلال الدعوة إلى الإسراع بتنظيم اللقاء الذي سيحضره ممثلون عن مجلسي النواب والدّولة.

ودون استباق النتائج في جنيف لا يبدو الأمر سهلا حتى في اللقاء القادم. لا يسود التفاؤل عند طرفي النزاع. التصريحات المتشنجة والاختراق المتواصل للهدنة لا تقدّم صورة إيجابية عن مستقبل العملية العسكرية والسياسية، فالأطراف الموجودة شرق البلاد لا تريد تكرار أخطاء الماضي عبر لقاءات لا تقدّم ولا تؤخر، والأطراف الماسكة بزمام السلطة في "منطقتها الخضراء" غرب البلاد مازالت تفكر بنفس المنهج القديم المتساهل مع المنفلتين والخاضع لخيارات لا تقدّم بالعملية السياسية كلها مؤشرات عن تعثر جديد في جنيف وربما حتى في غيرها مستقبلا.