وهي طرابلس وليلها الغافي على شاطيء بحر وأطفال ونساء ورجال , عائلات تفرش المودة وتنتشي بعبير الألفة, مثل كل صيف تفوح لياليك يا طرابلس .

هي "المِلاحة " وملحها النقي , ملح يفوح في الأرجاء, مثل عبير تنفثه تلك الروابي و" الطوابي " الغدقة بكل كريم وطيب .

ليس بعيدا ذاك البحر, نعبر طريقا يمتد بين " السواني " الباذخات، رحلة تفيض بالبهجة والضحك والتأمل,هكذا أقضي ذاك الوقت أشْتَمُّ رائحة تفوح من هنا وهناك, حتى أنفاس النّاس في تلك الهدأة من قيلولة صيف لها رائحة , صيف لايلفحنا بقسوة, شمسه حانية وألوانه زاهية, ولبحرنا الأبيض ألف حكاية  ولحكاية البنت حواّء مذاق يتدفق من روح معبأة بالذكرى .

 وحين صار ذاك الطريق معبّدا, وكانت "البشكليط " , وكان لها هي البنت أن تكون محوّطة بيدي أبيها تجلس قدامه, وفي قفص صغير يجلس الأصغر في الإخوة, وأحيانا يجلس اثنان, والخلف سيكون مَرْكبًا لاثنين,أمّا من يحوط الموكب من جانبيه أو من جانب واحد فسيكون أكبر الأولاد, ليتبادلا مع الصغيرين في الخلف دورا للركوب, ويأبى الصغيران ترك تلك الربوة التي يطلاّن منها على الدكاكين والنّاس, ويلّوحان أحيانا لبعض زملاء المدرسة .
 وستكون هنّاك ذات عام " بشكليط " صغيرة لأخيها الكبير والذي 
سيحمل بعضا من تلك الحمولة الغالية عن " بشكليط بوه " , لكنّ البنت حواء لن تتنازل عن عرشها,ستظل هناك محاطة بذراعي أبيها ترقب يد يه وهما تقودان, وتسمع صوته وهو يرّد سلاما, أو يهدر بشتيمة محببة, إذا ناوشه أحد بكلمة تغضبه .

وهيَّ تنتظر تلك اللحظة,حين ينفسح الأفق ويظهر هو بكامل أزرقه  وتموجاته,برائحته العبقة بأعشابه الندية , ... البحر يالهذا الإسم وحموّلاته الأثيرة, وليّ طرابلس الأكبر شيخ أوليائها, تنام بكامل فتنتها في حضنه .

هل ينبت لي جناحان حين أراه .. " ربما " , لأن تلك البنت الصغيرة تركض وتركض, تنزع قفطانها وتختار "جابية "تلك الجوابي حيث يجفّ المّاء وتظهر تللك البللورات اللامعة النقيه في ضوء شمس حانية,هو الملح الذي يضرب بنقاوته المثل, زهرته البنفسجية وزيته النادر .

 وهي تلك البنت " بنت الملاحة " تعوم في جابية , يحوّطها الأب بنظراته ويحذرها , قلبها يخفق وهي تنظر هنّاك اتساع وفضاء يكبر حتى تلتقي سماء وبحر . 

وستفكر كيف يلتقيان وتظل هي هناك وهو هنّا , تسبح في دائرتها المغلقة, ومثل أمّ صغيرة تنتبه لأخ صغير أو أخوين في جابية مجاورة , وتنظر بحسد لإخوتها الأكبر وهم يبتعدون هناك حيث يحتضنهم اللون الأزرق, الموج وزبده وسؤال أخيها الصغير " خيرة ما نوليش أزرق ", لقد صدق كلام رفاقه الصغار في السانية, أنّ لون جلده سيغدو أزرقا حين يعوم في " جابية".

صوت أبي ولون البحر و غرقي في الجابية , هذا الغرق الذي سيظل نكتة إخوتي الأثيرة , وأبي يدافع أن الجابية "غارقة هلبه".

أن أسبح وأعوم في ذاك اليّم الأزرق هو حلمي,فأغدو سمكة ملونة تسافركلّ بحار الدنيا وتعود إلى بحرها الأبيض ,إلى "الْمِلاحة " وشط بوستة,إلى جابية تحضنها وأبيهاالذي يحرسها.

   ورحلة العودةوهي محمّلة ٌ بقصص سترويها لأمّها, ثم في ظل زيتونة وارفة ستحكي لرفيقات السانية, كيف سبحت طويلا ورأت أسماكا كبيرة .؟ 

وأن  عروس بحر داعبت قدميها ونادتها كي يسافرا معا, لكنّها تذكرت صاحباتها و"ال خليطة " وظل الزيتونة , فشكرت عروس البحر واعدة إياها أن ترافقها حين تكبر قليلا ....!؟