رأى الباحث السياسي في الشؤون الإفريقية فاتح القديري، أن ثمة أسباب عديدة تحولت على إثرها منطقة الساحل التي تحظى بأهمية جيوستراتيجية في سياسات القوى الدولية، إلى ساحة تنافس يتدافع نحوها العديد من اللاعبين الدوليين بحثًا عن النفوذ والهيمنة والموارد.

وقال القديري في ورقة تحليلية، "منذ زمن بعيد عاشت قارة أفريقيا تدخلات أجنبية لا تنتهي، وذلك بحثاً عن ما تملكه دول القارة من كنوز كالذهب والألماس وغيرها من المعادن التي فتحت شهية الدول الاستعمارية. وثمة أسباب عديدة تحولت على إثرها منطقة الساحل التي تحظى بأهمية جيوستراتيجية في سياسات القوى الدولية، إلى ساحة تنافس يتدافع نحوها العديد من اللاعبين الدوليين بحثًا عن النفوذ والهيمنة والموارد وهو ما يبدو جلياً في حالتي فرنسا وروسيا. فبالنسبة لفرنسا، فإنها تنظر إلى منطقة الساحل باعتبارها منطقة نفوذ تقليدية لها نظرًا لماضيها الاستعماري هناك تعزز من خلالها موقعها ومكانتها في النظام الدولي في ضوء اعتمادها على الكتلة التصويتية لدول المنطقة التي تدور معظمها في الفلك الفرنسي منذ عقود، وذلك للدفاع عن قضاياها في المحافل الدولية. كما تعد المنطقة سوقًا واسعة للصادرات الفرنسية ومصدرًا مهمًّا للحصول على الموارد والثروات الطبيعية خاصة أن المنطقة قد أضحت إحدى محددات أمن الطاقة بالنسبة لبعض القوى الغربية لا سيما النفط والغاز واليورانيوم".

وتابع، :"تعتمد باريس على المنطقة كحائط صد فيما يتعلق بمواجهة التحديات الأمنية التي تتعرض لها القارة الأوروبية، لا سيما أن الساحل من المناطق الأساسية لمواجهة انتشار التنظيمات الإرهابية، ومن أهم ساحات مواجهة موجات الهجرة غير الشرعية من أفريقيا إلى أوروبا عبر البحر المتوسط. ويضمن التمركز في المنطقة لباريس المتابعة عن قرب والتأثير في عدد من الملفات الإقليمية المهمة مثل تطورات الأزمة الليبية، والعلاقات مع دول الشمال الأفريقي، والتفاعلات في شرق المتوسط، ومعادلة أمن البحر الأحمر ناحية الشرق، في الوقت الذي تعتبر دول الساحل والصحراء بوابة لوسط وغرب القارة الأفريقية. في حين لدى روسيا رغبة في إعادة تأكيد نفسها كقوة عظمى من خلال بوابة أفريقيا، وتزداد أهمية منطقة الساحل في السياسة الروسية نظرًا لتموضعها الاستراتيجي كمفترق طرق يربط بين الأقاليم الخمسة للقارة الأفريقية، مما يمكّن موسكو من نسج علاقات جيدة مع دول المنطقة بما يضمن الحصول على دعم أكبر على المستوى الدولي في مواجهة العقوبات الغربية وتحديداً الأمريكية. إضافة إلى الاستفادة من الفرص الاقتصادية المتاحة في المنطقة من أجل الوصول للموارد والثروات الأفريقية، نظرًا لحاجة موسكو الحيوية إلى تأسيس تحالفات تجارية مع الدول الأفريقية بما فيها فتح أسواق جديدة لتوسيع المبيعات العسكرية الروسية والمساهمة في تأسيس أسواق ناشئة سريعة التطور مما يسهم في تخفيف آثار العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها منذ 2014، وفي الوقت نفسه التواجد بالقرب من مناطق التأثير الجيوسياسي في شرق وشمال القارة بهدف تعزيز النفوذ والحضور الدولي. وتحاول موسكو استغلال تنامي مشاعر العداء للوجود العسكري الفرنسي في بعض دول المنطقة بتقديم نفسها كبديل في الحرب ضد التنظيمات الإرهابية، خاصة مع فشل الاستراتيجية الفرنسية في تحقيق إنجازات حقيقية في هذا الصدد منذ انخراط باريس في الساحل، واتهام البعض لها بأنها تسعى بالأساس لتأمين مصالحها الحيوية في المنطقة، وهو ما أدى إلى تفاقم الأزمات الأمنية في دول المنطقة، على نحو قد يمنح موسكو تفوقًا استراتيجيًّا بالتحكم في موجات الهجرة غير الشرعية لأوروبا، وإدارة عمليات مكافحة الإرهاب في المنطقة، وما تشكلانه من ورقة ضغط سياسي يمكن توظيفها في مساومة أوروبا على تخفيف العقوبات وفي ملفات أخرى في مناطق استراتيجية مختلفة في المستقبل".

وأضاف القديري، :"يعزز هذا الطرح ترحيب بعض دول المنطقة مثل بوركينافاسو والنيجر ومالي بانخراط روسي في محاربة الإرهاب، وإدراك موسكو أن باريس باتت وحيدة وسط أزمات المنطقة بعد التراجع الأمريكي خلال السنوات الأخيرة بتخفيض التواجد العسكري بنسبة 10%، وتباطؤ القوى الأوروبية في تقديم المساعدة لها، في الوقت الذي تواجه صعوبات مادية ولوجستية في تحقيق تقدم في ملف الإرهاب، مما يدفع بمنطقة الساحل للتحول باتجاه روسيا التي تسعى لإيجاد موطئ قدم يعزز نفوذها المتنامي في القارة. دللت التطورات الأخيرة في أكثر من بلد أفريقي على احتدام الصراعات بين القوى المتنافسة استراتيجيا واقتصاديًا. وفي هذه الحقبة كان من اللافت التراجع الفرنسي في أكثر من موقع، وفي المقابل تأكيد الاختراق الروسي في مسعى استرجاع النفوذ من قبل قوة عائدة، يتم ذلك وسط تهافت دولي مع تعزيز الوجود الصيني وتآكل وجود القوى الاستعمارية السابقة. ومن الواضح أن المناطق الرخوة والرمادية في القارة السمراء مرشحة للمزيد من النزاعات وستكون الخصومة الروسية، الفرنسية من عناوينها. بينما أعلنت فرنسا قرار إنهاء عملية (برخان) في منطقة الساحل، وسجلت تراجعاً في غرب أفريقيا معقل النفوذ الفرنسي التاريخي، شهدت باماكو عاصمة مالي مظاهرات تطالب بالتدخل الروسي على منوال ما حصل في جمهورية أفريقيا الوسطى، وكذلك شهدت أديس أبابا عاصمة إثيوبيا مظاهرات رفعت فيها الأعلام الروسية وكانت تستنكر الإدانات الأميركية للعنف في إقليم تيغراي. ويدلل ذلك على أنه في سياق الصراعات بين القوى المتنافسة تبرز المفارقة بين التراجع الفرنسي والاختراق الروسي مما ينبئ باحتدام الصراع بين القوى الاستعمارية القديمة، والقوى المدافعة عن مصالحها والقوى الصاعدة. وحسب الوقائع الميدانية والتقارير، أصبحت منطقة غرب ‫أفريقيا معقلاً جديداً للإرهاب ونقطة تمركز لإعادة ترتيب صفوف تنظيمي داعش والقاعدة. وكل ذلك يزيد من صعوبة توقع مآلات هذه الحقبة من صراع الآخرين على أراضي قارة المستقبل وخيراتها. بالفعل، تعد أفريقيا قارة واعدة نظراً لتنوع مواردها الطبيعية وغناها واحتياطاتها الضخمة من المعادن ومقوماتها البشرية الشابة. ولذلك يزداد الاهتمام بها للحصول على حصة من مواردها أو على نصيب من استثماراتها. وإذا كان هناك تنوع كبير بين القوى المتنازعة، إلا أن الخشية الفرنسية كانت تتعلق بالدور الليبي قبل 2011 والصيني أساساً وكذلك بأدوار القوى الصاعدة (تركيا وإسرائيل وغيرها) فإذا بالدور الروسي الصاعد يجذب الأضواء، وفي المقابل تزداد المشاعر المعادية للفرنسيين والصورة السلبية للأميركيين في غرب أفريقيا ودول القرن الأفريقي وأماكن أخرى".