أرضنا لم تكن رحيمة بأهلها، لقد كانت شديدة القساوة  عليهم فما إن ينفك الربيع راحلاً وحاملاً معه عباءته الخضراء حتى يتكشف وجه الأرض عن بساط أحمر قد جردت منه الحياة ما عدا نبات العوسج الذي يملأ المكان بأشواكه. هنا وهناك 

الربيع في بلادي لا يخلو من منغصات كثيرة خاصة تلك الرياح القادمة من الصحراء والتي يدعوها الأهالي برياح (القبلي) لأنها آتية من عمق الجنوب، محملة بالأتربة والغبار وأيضاً أعواد العوسج الجافة التي تملأ المكان وتعبث بشوارع المدينة ..كانت بنغازي الخمسينيات. 

50 تعاني شظف العيش وكانت مصادرها قليلة وكان الأهالي يعتمدون في الأساس على التجارة وتقديم الخدمات، لقد كنت ترى تلك المعاناة على سحنات الناس حيث حفرت أخاديد من ايدات على وجوههم نتيجة الضيق الذي يعانون منه..ضنك الحياة لم يترك مساحة للفرج والبهجة ورغم تلك المرارة التي تختلج في نفوسهم إلا أنه لم تخل قلوبهم من طيبة وود وكرم، فقد كانوا ملتصقين بعضهم ببعض وكأنهم أسرة واحدة. 

كانت كثير من الأسر تعيش تحت سقف واحد وكانت أبواب المنازل مفتوحة طيلة اليوم وفي الغالب خالية من الأقفال والموصدات  الأخرى نت الأقفال ، كانت الجيرة ترسم العلامة الفارقة في الجيرة، كانوا يتكاتفون. 

وقت الشدة ووقت الفرح.. فقلما تجد أسرة منعزلة عن أخرى وإلا اعتبرت أسرة منبوذة في الحي وكانت الأسر تنعت بحرفة رب الأسرة فكانوا يقولون: عائلة (الفقي) للشخص الذي يقوم بهم في الصلاة وعائلة (الحداد) وعائلة (القزار) وعائلة (القهوجي) الذي كان صاحب مقهى، وهكذا نعوت.. وكانت طموحات الناس بسيطة لا تتعدى السعي نحو الحصول على رغيفها اليومي العاطل بأنه بطال كان رب الأسرة يمثل المحور و الركيزة للأسرة البنغازية فإذا ما غاب عنها كان ذلك بمثابة كارثة للأسرة،فهو الركن الأساسي  وكان الموت يمثل الهاجس الأكبر للأسرة عند فقدانه. بل يمثل فاجعة لا حدود لها ..

وكانت الحياة الاقتصادية جد بسيطة تمثل في خدمات عامة وتجارة التجزئة..وكانت علاقة الموظف بمرؤوسية علاقة السيد والمسود.. كانت الناس تخشى كثيراً من السلطات فكان مشهد الشرطي وهو يذرع الشارع بمثابة خطر داهم على السكان الابتعاد عنه..الخوف من السلطات لم يكن وليد اللحظة بل كان إرثاً غرس في نفوس الليبيين..تذكر والدتي أنها كان لها أخ لم يتجاوز عمره السنة السابعة وكان راجعاً من الفرن القريب من البيت آنذاك وكان يحمل على رأسه طبقاً من خبز البيت فلمحه أحد الجنود الأيطاليين و أراد نهب رغيف منه ..ولكن الطفل امتنع عن ذلك فبادره بضربة على رأسه من أخمص البندقية فخر مغشياً عليه، حمل الطفل وهو مضرج بدمه و لاأحد تجرأ على اسعافه وكذلك ما بقى من خبز لكن ما هي إلا ساعات حتى توفاه الله.نتيجة النزيف الصادر من جمجمته و لم يجد أحدا ان يسعفه حتى من قبل الجيرة  

لقد لف الصمت بيت والدتي ولم يقوى أحد على أن ينبس ببنت شفة كان الخوف من الشكوى أن تتهم الأسرة بالمؤامرة على السلطات الإيطالية وقد تصل التهمة إلى الخيانة.. ودفن الطفل بصمت دون جنازة علنية..حتى بعد رحيل الإيطاليين لم يكن لدى الليبيين الوعي السياسي بحيثيات الدولة فكانوا يعتبرون الملك بأنه قديس فكانوا يتبركون حتى باسمه فكانوا ينعتونه (بالسيد) حتى لأي شخص قريب من الملك ومن الحاشية الملكية.. كلهم (أسياد) كانت البلاد قد عرفت نظام (البرلمانات) وكان لأول مرة تمارس الديمقراطية الغربية بوسائل الانتخابات لكن ديموقراطية ذات ثوب به كثير الخروق.. فكان هناك موالاة ومعارضة للذين يتقدمون لمجالس النواب.. وكان دائماً مرشح الحكومة هو الناجح حتى ولو كانت لديه صفرية الشعبية وكانت الانتخابات تزور علنية.. وكانت الأصوات تشتري وتباع في السوق ولم يعد أحد يقوى على دخول الترشيح سوى الأغنياء والتجار.. هؤلاء لم يكن لهم برامج سياسة خاصة بالبلاد بل يسعون لتقوية مراكزهم خاصة التجارية..أما في الدواخل فكان الصراع محسوماً لدى القبائل وعادة لا توجد صناديق ترشيح.

فالكل يفوز بالتزكية ودون الدخول في انتخابات لقد كان الملك يملك ويحكم ضارباً بالدستور عرض الحائط.. فكان هو الذي يعين الحكومة وكان هو الذي يصدر المراسيم خاصة التشريعية..لقد كان الديوان الملكي هو الحاكم الحقيقي للبلاد.. كان يتذكر هذا كله وعيناه معلقة على منارة (سيدي خريبيش) التي كانت تكشف بأنوارها في عز النهار ما خبئ ما بين أزقة وحواري المدينة..بقيت المنارة وظل العوسج يضرب الشوارع حتى اليوم.. والأرض لا تزال تنبت الزرع والعوسج أيضاً.و ظل السكان فى عزلة عن وجودهم