الأصول اليهودية للدولة الدينية (الثيوقراطية)

بعد توقيع السودان على "إعلان مبادئ" نصّ على فصل الدين عن الدولة في البلاد، تباينت وجهات النطر المغاربية بين مستحسن ومستنكر ومتحفظ، وعاد النقاش حول العلمانيا على مواقع التواصل الاجتماعي. وهي مناسبة للنقاش حول مفهوم "العلمانيا" وتجلياتها في الفكر العربي منذ عصر النهضة إلى اليوم.

ظلت العلمانيا مفهوما منبوذا لدى قطاع عريض من المثقفين والسياسيين الناطقين باللسان العربي، وفي مسعى للنيل من هذا المفهوم يستدل هؤلاء ببعض السياسات العربية الموصوفة بالعلمانية (سوريا والعراق البعثيتان، ومصر الناصرية وكذلك الجزائر وتونس..)، من منطلق أن هذه الدول "العلمانية" كانت مثالا في الاستبداد والفساد. فهل فعلا كانت هذه الدول علمانية؟ كل الدلائل تثبت أن الريجيمات السياسية التي تبنتها تلك الدول لا علاقة لها بالعلمانيا، بل تأسست على خلفية دينية وقومية تقف على الطرف النقيض من كل ما هو مدني.

وباستثناء السودان التي أقرّت مؤخرا بفصل الدين عن الدولة فكل الأنساق السياسية تقر في دساتير بلدانها على "أن الإسلام دين الدولة". فهل ثمة ما يؤشر على أن تكون العلمانيا أفقا للدول العربية مستقبلا؟

إن قراءة للراهن الخليجي الذي تأسست  دوله على خلفية ثيوقراطية/وهابية بشكل صريح تختلف جذريا عن باقي الدول العربية التي خلطت بين القوانين الوضعية والدين كمصدر للتشريع، هذه القراءة تقودنا إلى الاستنتاج أن الدول الخليجية منذ اندلاع "أزمتها" تعيش وضعية انتقالية تؤشر على تحولها المنهجي من النسق الثيوقراطي إلى النسق العلماني.

فما هي العلمانيا؟

تحمل كلمة السياسة في اللسان العربي معنى تدبير شئون الرعية وتسييرها على مبدأ الأمر والنهي. بينما في التداول الغربي، ولاسيما الانكليزي والفرنسي تنحدر من اللسان الإغريقي وترتبط بالمدينة (بوليس) مصدر اشتقاق كلمة (بوليتيك)، ومعناها علوم تدبير شئون المدينة. في عصرنا الحديث ارتبطت السياسة بكل ما هو وضعي وعقلاني، وكانت الديمقراطيا والعلمانيا وحقوق الإنسان من مفرداتها.

يؤكد باحثون أن عناصر العلمانيا توجد في جميع المجتمعات، فالعلمانيا ليست ميزة خاصة بثقافة، بأمة أو بقارة محددة. بإمكانها أن تكون موجودة في جميع الظروف حتى ولو أن بعض الثقافات لا تستخدم مصطلح "العلمانيا" بحد ذاته.

العلمانيا وسيرورة العلمنة

على المستوى الإيتيمولوجي، تنحدر الكلمة الفرنسية (Laïcité) أو كلمة (laïcisme) من اللاتينية المتأخرة (laizisms)، يقابلها في التداول الانكليزي كلمة (Sécularisme). والكلمتان وإن كانتا ولدتا في وسطين مختلفين، وإن ارتبطت الأولى بالسلوك والثانية بالممتلكات، فكلاهما تنطوي على نفس المفهوم: فصل الزمني عن الروحي.

تاريخيا ظهرت كلمة (لائكي/Laic) في القرن الثالث عشر، وظلت نادرة الاستخدام حتى القرن السادس عشر، واصطلاحيا تنحدر من الكلمة اللاتينية «laicus» بمعنى "الشأن المشترك، شأن الشعب"، أما كلمة (كليريكوس/ klerikos) فقد أعيد استخدامها في الكنيسة الإغريقنية ومعناها كنسي وكل من يزاول مهمة كنسية.

في اللسان العربي، "هناك وثيقة تفيد أن لفظ "علماني"  كان مستخدمًا في مجاله التداولي الكنسي العربي منذ القرن التاسع الميلادي، استخدمتها الكنائس المشرقية في التمييز بين رجال الدين والرعية. بيد أن لفظ "عِلمانْيَا" بوصفه مصطلحًا (للدلالة على تيار فكري أيديولوجي بشأن علاقة الدين بالدولة وغيرها من المسائل) فلم تستخدمه الكنائس الغربية ولا الشرقية، بل استُخدم من طرف منظّري هذا التيار نفسه في القرن التاسع عشر".

في العصر الحديث، تتعارض العلمانيا مع الاعتراف بدين الدولة. ومع ذلك، فإن مبدأ الفصل بين الدولة والدين يمكن العثور عليه في تطبيقات مختلفة بحسب البلدان.

بفرنسا، "بفضل قرون من العمل المتأني، بفضل ذلك وحده، تمايزت شيئا فشيئا مختلف وظائف الحياة العمومية، وانفصلت عن بعضها البعض، وتحررت عن وصاية الكنيسة.  بقوة الأشياء تعلمن الجيش في وقت مبكر ثم الوظائف المدنية والإدارية، ثم القضاء. كل مجتمع لا يريد البقاء في دولة ثيوقراطية فهو ملزم بإنشاء قوى متمايزة عن الكنيسة، وإلا قوى مستقلة وذات سيادة، القدرات الثلاث: التشريعية والتنفيذية والقضائية. لكن العلمانيا تبقى ناقصة متى احتفظ رجال الدين بحقهم على كل من هذه القدرات وخاصة الحياة العمومية والخصوصية: حق التدخل، الرصد، المراقبة أو النقض. على هذا الوضع، تحديدا، كان مجتمعنا إلى غاية الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. الثورة الفرنسية أبرزت لأول مرة في وضوح تام فكرة الدولة العلمانية، والدولة المحايدة بين جميع الأديان. مستقلة عن جميع رجال الدين، وخالية من أي مفهوم لاهوتي. ...... على الرغم من ردود الفعل، على الرغم من العودة المباشرة أو غير المباشرة للريجيم القديم، على الرغم مما يقارب من قرن من التذبذبات السياسية والتردد، على الرغم من كل ذلك، فقد نجا المبدأ: الفكرة العظيمة، والمفهوم الأساسي للدولة العلمانية، يعني أن التمييز العميق بين الزمني والروحي، دخل عاداتنا لدرجة أصبح خروجه مستحيلا. التناقضات في الممارسة، التنازلات بالتقسيط، النفاق المتنكر في قناع احترام التقاليد، لاشيء كان قادرا، مع ذلك، على منع المجتمع الفرنسي من أن يصبح الأكثر لائكية في أوروبا.

على مستوى العالم الموصوف بـ"الغرب"، كانت إسبانيا من أسبق الدول الأوروبية إلى إعلان علمانيتها بعد فرنسا، وذلك في ظل الحكم الجمهوري بين عامي 1868 و1876. أما في أمريكا، فعلى الرغم من الطابع الليبرالي والعقلاني لإعلان الاستقلال الأمريكي عام 1776، فقد كانت المكسيك هي السباقة إلى التكريس العلني لعلمانية الدولة منذ أواسط القرن التاسع عشر، كما كانت تركيا في عهد مصطفى كمال أتاتورك أول دولة إسلامية تتبنى العلمانية. غير أن بلدان (إسبانيا، المكسيك وتركيا) رغم تحمسها المبكر للعلمانيا ظلت متخلفة على صعيد الممارسة الديمقراطية. الدولة اليهودية، أي إسرائيل، مازالت بين سائر دول العالم أكثرها طائفية، لأنها جعلت من الدين نفسه قومية، ولم تتخذ لنفسها دستوراً لأن أي دستور معناه الحد من نفوذ المؤسسة الدينية (التوراة والشريعة الموسوية).

هناك من اعتبر الدول الشيوعية علمانية، وهو خطأ في التوصيف، فتلك الدول "اللادينية" لم تمت بصلة إلى العلمانيا. ومن المغالطة تصنيف البلدان الشيوعية كبلدان علمانية، لأن العلمانيا ليست ضد حرية المعتقد، وبالضرورة ليست ضد الرأي السياسي في حين فإن الاتحاد السوفياتي ومن دار في فلكه الأيديولوجي حارب الدين كما حارب الحريات السياسية.

بعض البلدان الأوروبية التي تتضمن دساتيرها مضامين دينية مثل ألمانيا «الشعب الألماني واعٍ لمسؤوليته أمام الله»، أو التي تشترط أن يكون رئيس الدولة بروتستنتيا على غرار النرويج والسويد، فهي بالمقابل لا تتخذ من الإنجيل مصدرا للتشريع ولا مصدرا للتربية والتعليم.

العلمانيا  في السياق العربي

لم تقتصر العلمانيا على الغرب وحسب، فسرعان ما تسربت أفكارها إلى الشرق، وكان لها تأثيرها في توجيه الأفكار الإصلاحية، فراجت بعض الدعوات للاقتداء بها. غير أن ذلك الاقتداء ظل ذا نزعة انتقائية وانتهازية حيث سعى أغلب المفكرين النهضويين إلى ربط العلمانيا بما ينسجم مع الدين الإسلامي. هذا التذبذب هو الذي أثر سلبا على إسهامات كل من رفاعة الطهطاوي وخير الدين التونسي، ومن تبعهما من المفكرين والمصلحين.

غالبا ما يصف المثقفون العرب (سواء كانوا من دعاة العلمانيا أو من خصومها)، غالبا ما يصفون بعض الريجيمات السياسية العربية بالعلمانية (سوريا مثلا، أو العراق والجزائر وتونس...). ويغفل هؤلاء أن دساتير هذه البلدان اعتمدت القرآن مصدرا للتشريع وجعلت من التربية الإسلامية مادة أساسية في النسق التربوي فضلا عن التعاطي الاستعراضي للدولة ورئيس الدولة مع الدين، وهذا وحده يدل أن تلك الدول لا علاقة لها بالعلمانيا، بل ظلت ريجيماتها السياسية تتبنى الدين تثبيتا لنفوذها وتقحمه في كل شيء حتى في صراعها مع الإسلام السياسي ومع الجماعات الإرهابية.

وحتى المفكرين العرب الأكثر عقلانية لم يساهموا في تطبيع العلاقة بين شعوبهم والعلمانيا، بل لم يتحروا الموضوعية في عرضها أكاديميا وجماهيريا. فالعلمانيا لدى المسيري، مثلا، صنفان: جزئية وشاملة، وفي نقده للعلمانيا الشاملة يعتبرها الوجه الآخر للإمبرياليا.

وبصرف النظر عن خلفية توصيف المسيري للعلمانيا عبر تصنيفها إلى صنفين، فإن هذا التصنيف يبدو تعسفيا، ويعطي فهما خاطئا للعلمانيا، كان يكفيه أن يصف ما سماه بـ"العلمانيا الشاملة" بالإمبرياليا، ويضع الإمبرياليا في ضوء نقده وتحليله ويكشف عن مخططاتها المعادية للإنسانية وللعلمانيا أيضا. وكان عليه أن يقدم تعريفا موضوعيا للعلمانيا محذرا من محاولات تحريفها عن مقاصدها. غير أنه جنح بشكل مفرط في إدانة العلمانيا وتحميلها جرائم ليست من صميمها.

لماذا العالم الإسلامي يخاف من العلمانيا؟ يتساءل أحدهم. ثم يقول: حسنا، دعونا نطرح السؤال بطريقة أخرى. إذا لم نستورد شيئا من الغرب إلا الديمقراطيا والعلمانيا، هل كان وضعنا سيؤول اليوم إلى بلدان تابعة، شديدة البؤس فكريا، تمزقها الحروب الأخوية، غارقة في دمائها؟ أنا واثق لو لم نستورد من الغرب سوى الديمقراطيا لكنا الأفضل. وما كنا في حاجة إلى دقيق الغرب، لكنا الأفضل: الخبرة الإبداعية لإنتاج ذلك بأنفسنا. ليخلص في الأخير أن الديمقراطيا والعلمانيا إرث بشري كوني.

العلمانيا اليوم

ليس للعلمانيا أهداف أو مضامين عدوانية ولا تحمل أي ازدراء للدين. على العكس من ذلك، تفترض العلمانيا في جوهرها رعاية واحترام مختلف الأديان، وعلى الدولة ضمان وتأمين حرية هذه الأديان وفق طرق وأساليب مختلفة. بل يمكن القول أن العلمانيا جاءت لتضع حدا للحروب بين الأديان والمذاهب في الدين الواحد.

وليست العلمانيا، فقط، تمييزا سطحيا بين الزمني والروحي، بل تتطلب فصلا حقيقيا بين السياسي والديني. والعلمانيا ضمن هذا المسار لم تكن مذهبا أو فلسفة، كما أنها ليست أيديولوجيا. وبالتالي فإن العلمانيا تحمل مناعة في ذاتها ضد أي انحراف أو تشوه.

وتعني العلمانيا من الناحية القانونية، عدم كفاءة الكنيسة في الشؤون العمومية والمجال الزمني، كما تتضمن بالمقابل عدم كفاءة الدولة في المجال الروحي، فالحرية الدينية شرط أول ومطلق، وبانتفائه تنتفي العلمانيا من أساسها. لكن هذا لايعني أن الدولة العلمانية دولة لا دينية، أو دولة تنكر الدين، بل هي دولة لا تفضل ديناً على آخر.

اليوم، هناك استخدام شائع وخاطئ للنعت "العلماني". الفرد الذي يتبنى العلمانيا، يوصف بالكافر، الملحد أو المحايد على المستوى الأيديولوجي، وهو توصيف خاطئ ومضلل، لأن العلماني صفة تعني الإنسان العادي/الشعبي مقابل الإنسان الذي دخل صف الانضباط الديني (les ordres). هذا الاستخدام الخاطئ غالبا ما يسبب التباسا حول مبدأ العلمانيا (مبدأ الحياد لدى دولة أو مؤسسة، وليس لدى فرد بصفته الشخصية، إلا إذا تحدث باعتباره ممثلا الدولة) ويعطي أحيانا تأويلا   تعسفيا لهذا المبدأ، وبالنسبة للفرد أو مجموعة من الأفراد فقد جعل هذا الاستخدام الحياد (على الصعيد الأيديولوجي أو الديني) كشرط للتعبير في الفضاء العمومي، وهذا يتعارض مع مفهوم حرية التعبير. في الواقع مبدأ العلمانيا، الذي يستلزم الفصل بين القدرات (Pouvoirs) لا يتعارض مثلا مع حق المجتمع المدني في التعبير عن نفسه إزاء حكومة من خلال المنظمات الدينية وممثليها.

الإسلاميون والعلمانيا

كان موقف الإسلاميين واضحا من الديمقراطيا من حيث أنها ضد الإسلام. بل رفضوا كل المعجم السياسي والمدني المرتبط بالديمقراطيا: التعددية، الحرية السياسية، تداول الحكم، المعارضة، البرلمان وما شابه. لقد رفضوا الديمقراطيا جملة وتفصيلا. بعد عناد وتمنع اعترفوا بالديمقراطيا وتصالحوا معها، وأفضت حالة التطبيع هذه إلى تبنيهم لمفرداتها السياسية والمدنية باستثناء مفردة واحدة هي (العلمانيا)، ومن المؤكد أنهم سيكتشفون أنهم أجحفوا في حقها وظلموها ورجموها بالغيب وتعسفوا عليها.

صحيح أنهم اعترفوا بالديمقراطيا كرها، وبهدف استغلالها لا بهدف تطويرها، أو بلغة الحرب، عقدوا معها هدنة من أجل اختبارها. وبعد أن اختبروها لم تبخل عليهم ومنحتهم ما كانوا يريدون. وهنا جاء دورها لتختبرهم وكانت نتيجة الاختبار متباينة من حيث تجربة كل حزب وكل بلد، فماذا لو جربوا الدفاع عن العلمانيا؟

الثيوقراطيا والعلمانيا

الأيديولوجيا وعي زائف إزاء العلم كوعي صحيح، وإذا كانت العلمانيا في منبتها هي فصل الدين عن السياسة ثم اتسعت لتفصل الدين عن العلم والتربية، فإن العلمانيا كسيرورة تاريخية هي تنظيف السياسة والعلم والتربية من المضامين الأيديولوجية، سواء كانت دينية أو معادية للدين، أي من كل المقولات ذات المحتوى اللاعقلاني، الخرافي أو الفرجوي، أو العنصري والمتعالي، ومن المقولات ذات النزعة الشمولية، أو النزعة المعادية لكل ما هو إنساني في بعده الكوني. وبالتالي فإن العلمانيا هي فصل الأيديولوجيا عن السياسة والتربية والعلم.


التفكير في الثيوقراطيا كمزيج من السياسي والديني لا معنى له إلا إذا أخذنا مسبقا بعين الاعتبار ما يسمح لنا بتمييزهما. هنا، فإن التمييز بين السياسة والدين، أو، بعبارة أخرى، بين القدرتين الزمنية والروحية، لم يكن كونيا منذ الوهلة الأولى. لا يتم طرحه بالطريقة نفسها في اليهودية، المسيحية أو الإسلام. في الديانات الأخرى، مثل البوذية أو الهندوسية، قد تكون فكرة الدين في حد ذاتها كواقع متمايزة عن السياسة التي لم يتم النظر فيها قبل بداية العولمة.

ما يسمى "الثيوقراطيا اليهودية" لدى فلابيوس (القرن الميلادي الأول)، "لا يتطابق مع أي مشروع سياسي، بل على العكس من ذلك، فقد سجل عزوف اليهودية عن السياسة (بمعناها الوضعي). هذه اللامبالاة بالسياسة يتم تبريرها في اتجاه بحيث التوراة هي الأداة التي تتوسلها حكومة من الله تفوق كل الأشكال الممكنة من التدبير السياسي.  بالنسبة لفلابيوس، لا يمكن لأي ريجيم سياسي أن يحقق الامتلاء الذي تحققه حكومة الله، ولا يمكن لأي قانون أن يتساوى مع كمال التوراة التي أعطاها الله لموسى. إن ريجيما سياسيا، أيا كان، يبقى وجوده ثانويا إزاء شريعة الله. لهذا إذن، باسم الثيوقراطيا يصبح من الممكن أن نقبل بأي سيادة سياسية ليست من الله، لأنه في العمق، ليس هذا هو المهم. وبالتالي، فإن الثيوقراطيا لدى فلابيوس، هي أكثر من نسق سياسي، هي نوع من الحكومة المثالية، نوع لا يقبل الترجمة إلى أي شكل من أشكال الريجيم السياسي. على العكس من ذلك، هذا الشكل المثالي كشف عن عيب جميع أشكال الحكومات البشرية، وقاد اليهود إلى العزوف عن السياسة التي يمارسها الآخرون.

يميز فلابيوس إذن الثيوقراطيا كحكومة الله عن كل أشكال الريجيم السياسي. وفي قراءته المتكررة لتاريخ اليهود، رأى نفس  التمايز: الثيوقراطيا مرتبطة بوجود القبائل الكهنوتية التي لا تمارس  السياسة، في حين أن من يمارس هذه السياسة يقع بالضرورة خارج هذه القبائل الكهنوتية. لذا يشكل الكهنة  طبقة على حدة، ويجب أن يتم اختيارهم من نسل هارون، شقيق موسى، الذي لا يحق لهم الزواج من غير اليهوديات.

ابتكر فلابيوس مصطلح الثيوقراطيا للدفاع عن فكرة أن الشعب اليهودي يمكن أن يقبل السلطة السياسية من الرومان، وفي ذات الصدد، فإن فلابيوس نفسه حارب الرومان قبل أن يصطف إلى جانبهم. يبقى من الممكن إدراك بعض الغموض في فكرة الثيوقراطيا لدى فلابيوس يعكس غموض الشخص (وهو ذات الغموض الذي يعيشه الإسلام السياسي، إن فلابيوس هو جد دعاة الشريعة والحاكمية).

هل العلمانيا، فعلا، مفهوم معقّد  مثلما يدعي المدافعون عنها؟ أليس أعداء التجديد، وحتى الجهلة من أنصار التجديد هم من عملوا على تعقيدها، على مستوى الشرح والتفسير؟ ومع ذلك؛ هناك من يرى، أن ليس هناك علمانيا أكثر من الإسلام نفسه. وأن المسلمين أنفسهم علمانيون. فأين الخلل؟

إن الخلل يكمن في الذهول عن مقاصد الإسلام. الإسلام يدعو إلى العدل وحفظ المال والنفس والعرض، غير أن كثيرا من الأطفال والنساء والرجال يعانون ويموتون لأنّهم لا يستطيعون تحمّل نفقات علاج أنفسهم؛ لأنّه لا يوجد نسق صحّي يستحق هذا الاسم، فعلى الرغم من الاعتراف، بالإجماع، بأنّ الحفاظ على حياة الإنسان يمثل أحد الأهداف الرئيسة للإسلام، إلا أنّ هذا الوضع المأساوي لا يحرك ساكناً عند دعاة الدين.

ما يتجلّى في كتابات مفكري التّنوير هو تغيير عميق في الطريقة الّتي جعلوا من خلالها المجتمع والقانون موضوع تفكير. بينما، في الأزمنة الّتي سبقتهم، كان أساس المشروعيّة والقانون خارج الإنسان. من هنا أصاب السّياسة مسٌّ من الثورة الكوبرنيكيّة، الّتي جعلت من الإنسان مصدر وأساس الرّابطة الاجتماعيّة والقانون. هذا هو المعنى الّذي يجب أن ينطوي عليه رفض نظريات الشّرع الإلهي (الثيوقراطيا) ذات الأصل التوراتي منذ أن نَظّر لها المفكر الإغريقي ذو الأصل اليهودي يوسف فلابيوس بداية القرن الميلادي الأول. وسار على تعاليمه، بداية القرن الرّابع، عدد من المسيحيين، أبرزهم لاكتانس الروماني ذو الأصل الأمازيغي، الّذي قال: "وحدها شريعة الله كافية لهذا الغرض"، وهو أوّل مُنظّر للإمبراطوريا البيزنطيّة الّتي أسّسها الإمبراطور قسطنطين على أساس مسيحي. هؤلاء هم أسلاف منظّري الدولة الإسلاميّة بداية القرن العشرين، أسلاف حسن البنا، المودودي وسيّد قطب وكل التيارات الإسلاموية. ودولة إسرائيل خير مثال عن هذا "التعلق" المرضي بتوراتها وإصرارها على إضفاء المظهر اليهودي على الدولة في تناقض فاحش مع جوهر الديمقراطيا والعلمانيا وكل ما هو مدني.

هذه الحركات الإسلاموية التي تعتبر نفسَها الأكثر حكمةً بين المسلمين كافة، والأكثر اهتماماً بمصير الأمة، والأكثر قدرة واستعداداً لإعادة بناء عظمة الإسلام، فإن تجربتها في الوصول إلى الحكم في العديد من البلدان الإسلامية أثبتت أنّه ليست لديهم رؤية، أو مناهج، أو مهارات، أو كفاءة لحلّ المشكلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وهكذا، لا يرى الإسلاميون أيّة صلةٍ من شأنها أن تخلط وتربط دينهم بالطموحات المشروعة للإنسان في الحياة. ويكفي أن نلقي بنظرة على حياة الوعاظ ورجال الدين والنشطاء المنافحين عن الدين ضد العلمانيا لنكتشف حجم الكذب الذي يمارسه هؤلاء، حيث بنوا أمجادهم المادية والمعنوية بشكل فاحش دون أن يقدموا شيئا لمجتمعاتهم الرازحة تحت التخلف والفقر والفساد المالي والسياسي.

على المستوى الاجتماعي والاقتصادي، ينص الإسلام على العدل ويحرم الظلم، وعلى مستوى الحريات، نص ألا إكراه في الدين، وأن لكل عابد ما يعبد، وأن النبي نفسه لا يجب أن يكون مسيطرا على الناس. أين الخلل إذن؟

الخلل في النخبة، ولاسيما النخبة التي اتخذت من الدين معاشا وامتيازا. ومن المؤكد أن دعاة الإسلام السياسي هم من يضطلع بدور التغيير حين يفهمون روح الدين وحين يتفقهون في علم السياسة؛ عندها فقط سينشرون تعاليم الديمقراطيا ويكونون أكثر حرصا في الدفاع عن العلمانيا.(للمقال مراجع).