يعود ملف سد النهضة الإثيوبي إلى واجهة الأحداث بالقارة الأفريقية وعلى صعيد المشهد السياسي العربي والدولي، فبعد كر وفر ومحاولات طويلة لإيقاف مشروع سد النهضة عبر مفاوضات ترضي جميع الأطراف، ضربت إثيوبيا بعرض الحائط كل تلك المحاولات معلنة رسمياً عزمها المضي في الملء الثاني لسد النهضة في يوليو المقبل، متهمة مصر والسودان بتقويض المفاوضات.

إعلان إثيوبيا لم يأت متوافقا مع الهدف الذي أعلن مع بدء المفاوضات، والمتمثل في بلورة اتفاق قانوني نهائي ملزم لجميع الأطراف، بخصوص قواعد ملء وتشغيل سد النهضة، مع الامتناع عن القيام بأي إجراءات أحادية بما في ذلك ملؤه قبل التوصل إلى اتفاق. ونقلت وكالة الأنباء الإثيوبية "إينا" عن نائب رئيس الوزراء، وزير الخارجية الإثيوبي، ديميكي ميكونين، الأربعاء 07/04/2021، قوله إنه لا يمكن لإثيوبيا أن تدخل في اتفاق من شأنه أن يحرمها من حقوقها المشروعة الحالية والمستقبلية في استخدام نهر النيل. وأكد أن ملء سد النهضة في السنة الثانية سيجري كما هو مقرر وفقا لإعلان المبادئ، مبدياً استعداد إثيوبيا لتسهيل تبادل البيانات والمعلومات حول ملء السد. واعتبر أن المواقف المناهضة لملء السد قبل إبرام اتفاق ليس لها أي أساس في القانون وتتعارض مع حق إثيوبيا الأصيل في استخدام مواردها الطبيعية.

يجب أن نعترف، أنّ سدّ النهضة حولته الحكومات الأثيوبية خلال السنوات الأخيرة، ولأسباب داخلية، إلى قضية عزة وتنمية ونهوض وطني، والى هدف قومي ينبغي أن تلتف حوله الأمة الأثيوبية بكل مكوناتها الإثنية والسياسية، ومن ثم تم تغليف المشروع بالكثير من المبالغات الشوفينية والشعارات، وتحول أحيانا إلى تحد في مواجهة مصر، وهو أمر وان كان يخدم الحكومات الأثيوبية داخليا، إلا انه لا يخدم العلاقات والمصالح الأثيوبية والمصرية، والمؤكد أن الاعتبارات السياسية والإعلامية لعبت ولا تزال تلعب دورها السلبي في هذا المجال إلى حد كبير. 

وبعد عشر سنوات، من انطلاق مشروع "سد النهضة" الإثيوبي على النيل الأزرق، لا تزال أزمة "السدّ" تمثّل نقطة إثارة للتوتّرات الجيوسياسية بين مصر والسودان وإثيوبيا، إذ إن هذا المشروع الذي بدأت أديس أبابا ببنائه منذ عام 2011 يثير توترات حادة بينها وبين السودان ومصر اللتين تتقاسمان معها مياه النيل وتخشيان أن يحد السد من كمية المياه التي تصل إليهما. مصر والسودان تخشيان أن يؤدي السد إلى تقليص حصتي البلدين من المياه التي تعتبر شريان الحياة فيهما، وتأتي المخاوف المصرية مع قلق من تهديد حصتها المائية السنوية، والمخاطر كبيرة بالنسبة لمصر، التي تمتد بها الأراضي الصحراوية، لأنها تحصل على 90 بالمائة على الأقل من مياهها العذبة من نهر النيل. فمصر، والتي توصف بأنها "هدية النيل"، تعتمد بشكل كامل تقريباً على النيل لتلبية احتياجاتها المائية المختلفة، وهي المستفيد الرئيسي من اتفاقيات 1929 و1959 بشأن استخدام مياه النهر المشتركة. إذ تمنح اتفاقية عام 1959 مصر حصة قدرها 55.5 مليار متر مكعب سنوياً من أصل 74 ملياراً متاحاً، وتسعى مباحثاتها الفنية إلى الإبقاء على حصتها المائية السنوية، (55.5 مليار م³)، في سنوات ملء وتشغيل السد، وهو ما تراه إثيوبيا حسب زعمها مساسا بسيادتها وحقوقها في التنمية وتوليد الكهرباء، دون الوصول لحل مرضٍ للطرفين. وبالرغم من أن مصر قدمت الكثير من جوانب حسن النوايا والتعبير العلني عن إدراكها لأهمية سد النهضة للتنمية الأثيوبية، بل وتقديمها مساعدات لأثيوبيا في أكثر من مجال، وبالرغم من مرونتها في التعامل مع المفاوضات الخاصة بسد النهضة، إلا أنه يبدو أن السلطات الأثيوبية تميل إلى اتباع سلسلة من الحیل الدبلوماسیة المخادعة، منذ توقیع إعلان المبادئ عام 2015، الذي یشیر إلى أنه یجب على جمیع الأطراف التوصل إلى اتفاق أولاً قبل ملء الخزان.

أما الحكومة السودانية فقد أكدت، أن إعلان إثيوبيا عزمها ملء بحيرة السد العملاق الثانية، سيتضرر منه 20 مليون مواطن يقطنون على ضفاف النيل الأزرق، معلنة رفضها الخطوة، معتبرة أن ذلك يشكل تهديداً مباشراً لسد الروصيرص وبالتالي على منظومات الري وتوليد الكهرباء ومحطات مياه الشرب على طول النيل الأزرق والنيل الرئيسي، الأمر الذي يشكل تهديدا للأمن القومي السوداني. من جهته زعم المتحدث باسم الخارجية الإثيوبية دينا مفتي، أن "مخاوف السودان حول سد النهضة وسلامته تعد ذريعة لإخفاء دوافعه الحقيقية". كما زعم مفتي إلى أن ذلك يمثل "وقوفاً ضد مصالح السودانيين" الذين ينتظرون جني ثمار بناء سد النهضة الإثيوبي، حسبما ذكرت شبكة "فان بي سي" الإثيوبية، التي أشارت إلى أن تصريحات المتحدث باسم الخارجية السودانية جاءت خلال مؤتمر صحفي افتراضي حضرته مجموعة من الإعلاميين المحليين والدوليين العاملين في جنوب السودان لمناقشة عدد من القضايا أبرزها التوترات بين إثيوبيا والسودان بسبب النزاع على مناطق حدودية بين البلدين.

والآن المشكلة أصبحت أمرا واقعا، ولتأكيد المؤكد، أسابيع قليلة تفصلنا عن شهر مايو ومع بدايته ستبدأ الرياح الموسمية الجنوبية الشرقية في الهبوب على الهضبة الأثيوبية، ليبدأ هطول الأمطار على بحيرة تانا ومنها تتدفق إلى النيل الأزرق، المسؤول عن 70 في المائة من مياه المجرى الرئيسي عند الخرطوم. وبوصول المياه لمواقع سد النهضة ستدخل أزمة السد من منتصف يونيو مرحلة تصعيد استثنائية، مع حلول الموعد الذي حددته أثيوبيا للملء الثاني للسد. وهو ما ترفضه مصر والسودان قبل الوصول إلى اتفاق شامل ونهائي، يتسع ليشمل كل مراحل الملء وقضايا توزيع وإدارة المياه في سنوات الأمطار العادية والجفاف الممتد ونظام ملزم للتحكيم.

ولعله من الأهمية بمكان الإشارة، إلى أنّ ملف سد النهضة الإثيوبي ظلّ إحدى أهم القضايا العالقة على الخريطة الإفريقية منذ عقود، ودخل هذا الملف منعطفات كثيرة لسنا في وارد التعرض لتفاصيلها التاريخية. فالذي يهمنا أكثر هو الحديث عن الحاضر. فقد بدأ العمل في بناء سد النهضة أثناء أحداث ثورة يناير 2011 في توقيت استثنائي دون الرجوع إلى مصر حسبما تقتضيه اتفاقيات (1929 ـ 1958) وجاء تفهم مصر لأهمية السد بالنسبة لإثيوبيا، ما يعني تعامل مصر مع الملف بطريقة إيجابية جدا أملا في إتمام الاتفاق حول قواعد ملء السد، بشرط عدم الإضرار بأمنها المائي الحيوي، وقدمت تنازلات لقبول تخفيض حصتها من المياه في سنوات ملء السد وفقا لاتفاق دولي ينظم العملية وهيدروليكية التشغيل، وقد وصلت الاجتماعات إلى مستويات متقدمة، لتفاجأ أخيرا بعدم توقيع إثيوبيا على الاتفاق النهائي، ما أوجد حالة من عدم الثقة واستشعار نيات غير مطمئنة من قبل الجانب الإثيوبي حيال هذا الموضوع، وهو الأمر الذي رفع درجة الخطر السياسي ودفع الملف مجددا إلى واجهة الأحداث الدولية.

وكانت أثيوبيا قد لجأت إلى طرق خبيثة، خططت لها مسبقاً، لإلغاء حقوق الدول المستفيدة من مجرى نهر النيل، والمنظمة بموجب اتفاقيات سابقة، وتبنت الاتفاقية الإطارية لدول المنابع، وقادت الصراع لإنجازها عام 1995، ورفضت الربط بين هذه الاتفاقية والاتفاقيات السابقة، مؤكدة أحقية وأولوية الأمن المائي لدول المنبع ''النيل والأنهار الأخرى''، من دون دول المصب ومنها مصر. وانتهت بتوقيع بوروندي على الاتفاقية الإطارية في أول شهر آذار من العام 2011، الأمر الذي وفر المجال والظروف لاستمرار أثيوبيا في تحقيق أهدافها، من تفريغ اتفاقيات دول المصب وبخاصة مصر من مضمونها، وعدم الالتزام بأي اتفاقية سابقة تضمن حصة وحقوق دول المصب، ما وفر الحرية اللازمة لإنشاء سد ''النهضة''. وبذلك تحقق الهدف الرئيسي لأثيوبيا من تجريد مصر بالدرجة الأولى من حقوقها التاريخية والقانونية في ملف نهر النيل، ''اتفاقيات دول حوض النيل منذ عام 1894 ـ 1902 ـ 1929 وآخرها عام 1959. إضافة إلى ذلك فقد استغلت أثيوبيا ضعف مستوى التفاوض مع مصر وغياب الردع القسري بعد ''ثورة 25 كانون الثاني 2011''، غير عابئة بالاعتراضات المصرية، انطلاقاً من انعدام التوافق والتشرذم السياسي في ذلك الوقت، الذي أدى إلى عدم الاستقرار السياسي والأمني والاقتصادي... ومن ثم استغلت جميع الظروف وكسبت الوقت لإنجاز بناء السد من دون أي تعديل، لفرض الأمر الواقع، لأن بناء السد ينطلق ويستند إلى صراع سياسي واقتصادي غير معلن مع مصر، وبتخطيط أمريكي ـ إسرائيلي، ولم تعبأ بالاعتراضات المصرية.

إنّ عزم أثيوبيا الملء الثاني لسد النهضة في يوليو المقبل، لا ريب في إضراره بالأمن المائي لمصر، وبأمنها القومي والاستراتيجي، لا يمكن إدراجه إلاَّ في سياق سعي استراتيجي لإضعاف مصر، ولإعلاء بنيان ''إسرائيل العظمى''، فيد إسرائيل، التي ستحْكِم قبضتها على كهرباء السَّد، إنتاجاً وتوزيعاً، في بناء هذا السَّد مرئية لكل من له عينان تُبصران. ولتأكيد المؤكد، فعدة مصادر تتحدث عن وجود قواعد للصواريخ الإسرائيلية بسد النهضة لحمايته من أي اعتداء في إطار العلاقات والمصالح بين إثيوبيا وإسرائيل والتي أخذت أبعادا أسرع وأقوى منذ تولى ''أبي أحمد'' منصب رئيس الوزراء (الحائز على جائزة نوبل والتي قد يكون لإسرائيل الفضل في الفوز بها)، صاحبها حلم إسرائيلي قديم بتوصيل مياه النيل إلى تل أبيب.

خلاصة الكلام: أزمة سد "النهضة" فتحت الباب مجدداً على ما يُعرف بـ "الأزمات الصامتة" في العالم العربي، أي الأزمات المتعلقة بالأمن المائي، وهي أزمات وجودية لا تقل تهديداً عن الأزمات العسكرية والحروب، بل هي أخطر، لأن العدو يستهدف الدول العربية بمياهها، وليس سراً أن "إسرائيل" والولايات المتحدة تقفان بصورة أساسية وراء استهداف الأمن المائي المصري عبر استهداف حصتها في مياه نهر النيل... والأهداف لا تخفى على أحد. وإننا في هذا السياق، نذهب أبعد من ذلك، ونتساءل كما يتساءل الكثيرون: ما الأزمة المائية المقبلة، بمعنى من هي الدولة العربية التالية التي ستكون مستهدفة بمياهها، العراق أم سورية المستهدفتان من تركيا بمياه نهري دجلة والفرات؟... أين المؤسسات العربية المعنية (خصوصاً ما يُسمى المجلس العربي للمياه)؟ إن ملف الأمن المائي العربي من أكثر الملفات حضوراً على مستوى الدراسات، ليس فقط من الدول العربية وخبرائها واقتصادييها، بل من العدو وبصورة أكبر، وغالباً ما يتم نشر نتائج هذه الدراسات على أوسع نطاق بكل ما تتضمنه من حقائق ومخاطر وتحديات وأطماع، مع ذلك لا يتم التعامل معها عربياً بصورة جدية حتى وصلت إلى ما وصلت إليها... وسد "النهضة" هو البداية فقط.





كاتب صحفي من المغرب.