برزت تركيا كلاعب مهم، لكن محيِّر، في منطقة الشرق الأوسط الكبير وما بعده. وتأرجحت سياساتها مع توسّع دورها، وباتت اليوم تؤدّي دوراً مهماً في ليبياوفي الدول المجاورة لها.

ويبرز اسم تركيا باستمرار في النقاشات الجديدة حول النفوذ الخارجي في المنطقة، وتبرز التخمينات بشأن دوافعها في هذه النقاشات أيضاً.

من ذلك،ما تزال تركيا، الحاضرة تاريخياً في طرابلس، تُركّز في أعقاب سقوط القذافي، على جميع مواطنيها وأنشطتها الاقتصادية في هذه المنطقة الغربية من ليبيا، الواقعة في قبضة الميليشيات.

التدخّل التركي في ليبيا لم ينحصر في صفته المباشرة عن طريق القنوات الرسمية سواء الديبلوماسية أو العسكرية بل إمتدّ إلى ما يعرف حديثا ب"القوة الناعمة".

حيث  بدأت تركيا عام 2017 بإنشاء أول مدرسة تسمى "الوقف" في ليبيا بهدف تجنيد الأطفال والشباب لصالح الجماعات المسلحة وتفيذ عمليات إرهابية ضد الجيش الوطني الليبي ومؤسسات الدولة.

في ذات الصدد،وكشف موقع "أفريكان ديلي فويس" الأمريكي، أن المسؤولين بأنقرة يطالبون بفتح مؤسسات تعليمية بليبيا ما يمهد لاستيلاء الأتراك على نظام التعليم في البلاد.

إذ يقول محمد الزيدي الكاتب والباحث المتخصص في الشأن الليبي في تصريحات صحفية :"إن الجماعات الإرهابية تسعى لاستهداف العقول والنشء، عن طريق العبث بالتعليم أولا، تمهيدا لتنفيذ مخططاتهم الإرهابية".

وكشف "الزيدي"خطة أردوغان لتحويل ليبيا لدولة مصدرة للإرهابيين والتكفيريين، قائلا:" إن أردوغان استغل الجمعيات الخيرية والمساعدات المالية لاستطاف القلوب المنكوبة، قبل سيطرته على  المدارس والجامعات ودور العبادة لتدريس وترسيخ الأفكار الإرهابية والمتطرفة.

في ذات الإطار،إثر إسقاط نظام القذافي سنة 2011 و دخول البلاد في دوامة الفوضى وكالة التعاون والتنسيق "تيكا" كانت أيضا جزءا من التدخل التركي في ليبيا؛ في ظاهر أنشطتها اهتمام بالعمل الإنساني والمدني، لكن الواقع أن المنظمة جزء من المشروع الأوردوغاني الداعم للإسلام السياسي، فهي في ارتباط تام برئاسة الوزراء ووزارة الخارجية التركيتين وهي واجهتهما في الخارج عبر الأنشطة التي تقوم بها ومن خلالها يتم التسويق للسياسة التركية ولحزب العدالة والتنمية وزعيمه رجب طيب أردوغان الذي أصبح أشبه بالخليفة العثماني الطامح لاستعاد أمجاد امبراطورية أجداده الضائعة. وخير دليل على التفكير "الماضوي" لحكومة أوردوغان ومن خلالها المنظمة المذكورة هو قيام الأخيرة في شهر فبراير الماض، بتجهيز إحدى المدارس العثمانية في طرابلس بعدد من المعدات الحديثة من خلال حضور رسمي للسفير التركي "أحمد دوغان".

ويقول المتحدث باسم غرفة عمليات الكرامة بالجيش الليبي العميد خالد المحجوب لـ"العرب"إن "تيكا هي اليافطة الخيرية للمشروع العثماني الإخواني الجديد، وهي بالأساس أداة اختراق للمجتمع تجمع بين الجانب المخابراتي وبين تمويل الإرهاب من خلال الدعم الذي تقدمه للجمعيات والمنظمات والأفراد المتورطين في ضرب مؤسسات الدولة الليبية، وفي محاولة التصدي لعملية التحرير والتطهير التي تقودها القوات المسلحة الليبية في مختلف أرجاء البلاد.

ويضيف أن "تيكا هي الوجه الآخر لجمعيات مثل "قطر الخيرية"التي تصب معها في نفس الهدف لاختراق المجتمعات عبر دعم قوى الإسلام السياسي وتمكينها من التغلغل في المدن والقرى والمناطق النائية والأحياء الفقيرة والمحرومة التي تشعر بالغبن"مشيرا إلى أن "الوكالة التركية تعتبر إحدى أبرز أذرع نظام أردوغان التخريبية في ليبيا".

وتعتبر أهداف تيكا في ليبيا متشعبة ولها وجوه عدة، بما في ذلك التمهيد لدور تركي في مشاريع إعادة إعمار البلاد التي تواجه حربا ممنهجة للسيطرة عليها من قبل الإسلاميين وحلفائهم منذ ثمانية أعوام. لكن الوكالة التركية تواجه اليوم تراجع دورها في المناطق الخاضعة لسيطرة الجيش الوطني، وباتت تركز بالأساس على مصراتة ثاني أكبر مدن غرب ليبيا، باعتبارها مركز التبعية للقرار التركي.

من جانب آخر،يلعب الإعلام التركي دوراً بالغ الأهمية في تسويق أفكار الدولة وتبرير أنشطتها الخارجية. كما يساهم في تغطية النقص الحاد في المعارف العامة للأتراك عن أحوال دول أخرى، بعيدة نسبياً من بلادهم.

كما يستغل الإعلام التركي الفجوة التربوية حول البلدان خارج بلاده بشكل ملحوظ، ويستطيع، من دون جهد يُذكر، أن يؤثر في الرأي العام في ما خص سياسة البلاد الخارجية. فيمكنه، بسهولة نسبية، أن يقنع التركي بأن مصلحته الشخصية والقومية والوطنية تحتم على دولته الذهاب إلى ليبيا. كما يبث الإعلام عدداً لا بأس به من الدراسات العادية والكلمات الصعبة أمام المشاهد، فينتهي الأمر، بعد فترة، بأن يصبح التركي أكثر حماسة من حكومته بالذهاب إلى ليبيا.

ويرى مراقبون أن المنظمة أصبحت أداة بيد أردوغان عبر خطة لتوسيع نفوذه ضمن ما يعرف بمصطلح "الدبلوماسية العامة" الذي ظهر مع المفكر الأمريكي إدموند غاليون القائمة على التأثير في دولة ما عبر أنشطة ثقافية أو إنسانية أو مدنيّة بهدف نشر مشروع سياسي أو ثقافي معيّن.