د .  حمدى عبدالرحمن
إن النمط العام الذى يميز السياسة الأمريكية تجاه أفريقيا قبل بداية الحرب الباردة اتسم بالعزلة وكف الأيدى عن التدخل فى الشئون الداخلية للقارة، ويكفى أن نشير إلى الوقوف الأمريكى الصامت تجاه مؤتمر برلين عامى 1884 ـ 1885، والذى تم بمقتضاه تقسيم أفريقيا بين القوى الاستعمارية الأوروبية ويبدو أن عدم الرغبة أو حتى عدم الخبرة هى التى وقفت وراء هذه السياسة الأفريقية للولايات المتحدة وعليه فقد واجهت هذه السياسة معضلة حقيقية مع بداية فترة الحرب الباردة فى أواخر الأربعينات، وربما أكد هذا المعنى جورج ماجهى مساعد وزير الخارجية للشرق الأدنى والشئون الأفريقية بقوله: إننا لسنا فى موقع يمكننا من ممارسة المسئولية بشكل مباشر تجاه أفريقيا، إننا نفتقد الرغبة لتحمل المسئوليات التى يقوم بها الآخرون وعلى أى حال فإن المبادئ التى نؤمن بها والالتزامات الحاكمة لحركتنا فضلا عن عدم خبرتنا أسهمت جميعها فى عدم تحملن لهذه المهام ـ ويمكن القول بشكل عام أن الدبلوماسية الأمريكية تجاه أفريقيا فى ذلك الوقت واجهت مشكلات أساسية: أولها: أنها كانت بشكل مباشر وثانيها: أنها كانت تؤمن بالدور المحورى للقوى الأوروبية فى مستعمراتها الأفريقية السابقة وثالثها: اعتقد كثير من الأمريكيين أن ممارسة التمييز العنصر داخل الولايات المتحدة ذاتها إلى رد فعل غاضب بين صفوف المثقفين الأفارقة على أن رياح التحرر الوطنى التى هبت على أفريقيا منذ الخمسينات دفعت بالولايات المتحدة إلى إعادة النظر فى سياساتها السابقة تجاه أفريقيا، وبالفعل أرسل الرئيس أيزنهاور فى عام 1957 نائبه ريتشارد نيكسون إلى أفريقيا حيث زار ثمانى دول دفعة وحدة من أجل تحليل الأوضاع المتغيرة والمتسارعة التى شهدتها القارة فى ذلك الوقت، وقد أكد نيكسون فى تقريره على أهمية الاستقلال والتحرر الوطنى بالنسبة للأفارقة وطالب أيضا بضرورة أن تعترف كافة إدارات الحكومة الأمريكية بالأهمية المتزايدة لأفريقيا بالنسبة للمصالح الأمريكية واقترح نيكسون بأن يتم تعيين مساعد مستقل لوزير الخارجية للشئون الأفريقية، وأن يتم على صعيد آخر توجيه الاستثمارات الأمريكية إلى أفريقيا فى نفس الوقت الذى تتوقف فيه أمريكا عن ممارسة التمييز العنصرى حتى تكسب ود وتأييد الأفارقة بيد أنه يمكن القول أن نيكسون رغم اعترافه باستمرار الدور الأوروبى المهيمن فى أفريقيا وضرورة التشاور والتنسيق مع القوى الأوروبية فإنه أكد على ضرورة صنع سياسة أمريكية مستقلة تجاه أفريقيا واتساقا مع هذا التصور الجديد ظهرت خلال عقد الخمسينات مجموعة من المنظمات الأهلية الأمريكية المهتمة بأفريقيا، ومع ذلك اللجنة الأمريكية الخاصة بأفريقيا والمعهد الأمريكى الأفريقى، ومجلس الشئون الأفريقية وأيا كان الأمر، فإن اعتبارات الحرب الباردة وسعى الولايات المتحدة إلى احتواء المد الشيوعى فى أفريقيا قد استحوذت جميعها على اهتمامات صانع القرار الأمريكى فالرئيس كيندى الذى أبدى تعاطفا ملحوظا مع القوى الوطنية المناهضة للاستعمار فى أفريقيا البرتغالية، وقف مكتوف اليدين بسبب الاهتمام الأمريكى بقواعد حلف الناتو فى المنطقة، وعلى صعيد آخر، فإنه بالرغم من تزايد السخط الدولى على نظام التفرقة العنصرية فى جنوب أفريقيا فإن الرئيس ريجان لم يستطع أن يواجه حكومة بريتوريا العنصرية بسبب خشيته من تزايد النفوذ الشيوعى فى المنطقة، بل أن الولايات المتحدة استمرت فى تأييدها لكافة التنظيمات والقوى التى نظر إليها على أنها تناضل من أجل الحرية مثل مقاتلى جبهة ـ يونيتا ـ فى أنجولا على أن التقارب الأمريكى السوفيتى الذى بدأت خطواته الأولى عام 1984 باجتماع كل من ريجان وجروميكو كان يعنى فى أحد دلالاته أن الحرب الباردة قد أفل نجمها وأوشكت على الانحسار، يعنى ذلك أن التطورات التى شهدها النظام الدولى قد مهدت الطريق أمام الإدارة الأمريكية لإعادة النظر فى سياستها تجاه أفريقيا ولعل وارن كريستوفر وزير الخارجية الأمريكية الأسبق يوضح ذلك المعنى بقواه ـ خلال سنوات الحرب الباردة الطويلة لم تتحدد سياستنا الأفريقية بناء على الطريقة التى نؤثر بها على أفريقيا ولكن بما تحققه من مصالح لكل من واشنطن وموسكو، على أنه مما يحمد له اليوم أننا تجاوزنا مرحلة تبنى سياسات قائمة فقط على حماية خطوط التجارة القريبة من أفريقيا بغض النظر عن مصالح الشعوب الأفريقية ـ وليس بخاف أن قائمة المصالح والأهداف القومية التى كانت تشكل محددا للسياسة الأمريكية تجاه أفريقيا اشتملت على أربع قضايا أساسية هى: ـ احتواء الشيوعية (لم يعد لهذا التهديد أى وجود اليوم) ـ حماية خطوط التجارة البحرية (لا يوجد تهديد جدى على هذه الخطوط) ـ الوصول إلى مناطق التعدين والمواد الخام ـ دعم ونشر القيم الليبرالية ولاسيما تلك الخاصة بالديموقراطية وحقوق الإنسان وإذا كانت خبرة العلاقات الأمريكية منذ الستينات تعكس رؤى أمريكية متباينة تجاه القارة الأفريقية هى أقرب إلى نموذج قصة العميان والفيل والتى تجسد غياب الرؤية الشاملة والمتكاملة بشأن موقع إفريقيا فى عملية صنع السياسة الخارجية الأمريكية، فإن نهاية الحرب الباردة قد أحدثت تغيرات جذرية فى تلك الرؤى وأيا كان الأمر، فإنه يمكن القول بأن المتغيرات الدولية الجديدة التى سارت باتجاه العولمة الأمريكية، أفضت إلى إعادة توجيه السياسة الأمريكية نحو أفريقيا من خلال التركيز على دبلوماسية التجارة كأداة للاختراق، بالإضافة إلى دعم قادة أفارقة جدد وقد اتضحت ملامح إدارة كلينتون إلى تأسيس شراكة أمريكية أفريقية جديدة أولا: طبيعة الشراكة الأمريكية الأفريقية: خضعت السياسة الأفريقية للولايات المتحدة فى مرحلة ما بعد الحرب الباردة لعملية تقويم وإعادة ترتيبها لأولوياتها وأهدافها ولا يخفى أن عملية التقويم والتمحيص تلك دفعت إليها مجموعة من العوامل والمتغيرات لعل من أبرزها: ـ ازدياد أهمية المرتكزات الاستراتيجية التى تقوم عليها العلاقات الأمريكية الأفريقية فى عصر العولمة الأمريكية فالمحددات الثابتة مثل الموقع الاستراتيجى للقارة والثروات الطبيعية وخطوط التجارة تدفع دوما إلى التأكيد على أهمية أفريقيا فى منظومة السياسة الكونية للولايات المتحدة ـ تغير الصورة الذهنية الخاصة بأفريقيا والتى ظلت مسيطرة فترة طويلة حيث طرأ تغير ملموس فيما يتعلق بسياسات التحرر الاقتصادى، وهذا بالقطع من وجهة النظر الأمريكية أضف إلى ذلك فقد وصل إلى السلطة عدد من القيادات الجديدة التى حاولت أن تدعم أواصر العلاقة مع الولايات المتحدة وقد واكب ذلك تزايد الاهتمام الأمريكى بغزو الأسواق التى تضم نحو سبعمائة مليون نسمة ـ تغير الرؤى والتصورات فى الإدارة الأمريكية بشأن المشكلات والصراعات التى تعانى منها مناطق معينة فى أفريقيا مثل الجنوب الأفريقى ومنطقة البحيرات العظمى وشرق أفريقيا فقد أدركت بعض مراكز صنع القرار الأمريكى أهمية تحقيق الاستقرار والأمن وتدعيم فرص النمو الاقتصادى فى أفريقيا بما يخدم المصالح الأمريكية الحيوية فى المنطقة ـ إعادة تقويم السياسة الفرنسية فى أفريقيا حيث أضحت الحكومة الفرنسية تسعى إلى انتهاج سياسة أكثر قارية وهو ما تمثل فى اجتماعات القمة الفرنسية الأفريقية الفرانكوفونية التى أصبحت تضم دولا غير ناطقة بالفرنسية فى نفس الوقت الذى اقتنعت فيه الإدارة الأمريكية بأن سياسة المساعدات التى تنتهجها القوى الأوروبية الكبرى قد أخفقت لكن ما هى أهداف التوجه الأمريكى الجديد فى أفريقيا؟ نستطيع من خلال تحليل الخطاب السياسى لكبار المسئولين فى الإدارة الأمريكية أن نشير إلى هدفين رئيسيين وهما: ـ الهدف الأول: ويتمثل فى دفع عملية الاندماج الأفريقى فى الاقتصاد العالمى ولدعم هذه الغاية، فإن الإدارة الأمريكية تعمل على ثلاثة محاور دولية أساسية هى: ـ 1 ـ تطبيق مفاهيم الشراكة الأمريكية الأفريقية التى تقوم على إنهاء مرحلة المساعدات المالية وإحلال مرحلة التبادل التجارى محلها، إضافة إلى تشجيع الاستثمارات الأمريكية فى القارة ـ 2 ـ دعم النظم التى تأخذ بمفاهيم التحول الديموقراطى وفقا للتصور الأمريكى ولاسيما فى المناطق ذات الأهمية الاستراتيجية بالنسبة للمصالح الأمريكية فى القارة ـ 3 ـ العمل على منع الصراعات وإنهاء حروب التطهير العرقى بما يحقق المن والاستقرار وفقا لمنظور المصلحة القومية الأمريكية ـ الهدف الثانى: ويتمثل فى حماية المصالح الأمريكية الحيوية ولاسيما الاعتبارات الأمنية، وعليه فإن الإدارة الأمريكية تولى اهتماما كبيرا بقضايا انتشار الأسلحة، ودعم بعض الدول لأنشطة تقع فى إطار التصور الأمريكى للإرهاب وثمة قضايا أخرى محل اهتمام أمريكى مثل تدفق المخدرات والجريمة الدولية وانهيار البيئة ومن اللافت للنظر حقا أن مساعدة وزيرة الخارجية الأمريكية للشئون الأفريقية السيدة سوزان رايس Suzan Rice قد أكدت على أن جولات أولبرايت فى أفريقيا تسعى إلى تقويم المبادرات والسياسات الأفريقية على ضوء الهدفين السابقين ثانيا: ملامح ومجالات الشراكة الأمريكية الأفريقية: يمكن إبراز أهم ملامح السياسة الأمريكية تجاه أفريقيا فى ثلاثة مجالات أساسية تشتمل على القضايا الأمريكية الكبرى فى أفريقيا وذلك على النحو التالى: ـ 1 ـ المجال الاقتصادى: يمكن تلمس أهداف التحرك الاقتصادى الأمريكى الجديد فى أفريقيا من خلال التقرير الذى صدر فى منتصف عام 1997 بعنوانه ـ تعزيز العلاقات الاقتصادية للولايات المتحدة مع أفريقيا ـ حيث أعده فريق مستقل من الخبراء بتكليف من مجلس العلاقات الخارجية وقد أوصى التقرير بأن تكون الولايات المتحدة فى مقدمة الدول الصناعية الكبرى التى تستفيد من الفرص الجديدة فى أفريقيا واستنادا إلى ذلك عملت الإدارة الأمريكية بدأب شديد على إدماج أفريقيا فى الاقتصاد العالمى من خلال: أ ـ تشجيع الدول الأفريقية على انتهاج سياسات اقتصادية ناجحة وهو الأمر الذى يحقق نمط التنمية المستدامة بما يخلق فى النهاية فرصا أفضل للتجارة والاستثمارات الأمريكية فى القارة ب ـ قانون النمو والفرص فى أفريقيا، وهو الذى وافق عليه الكونجرس فى إطار تحقيق الرؤية الأمريكية الجديدة حول أفريقيا ويعد هذا القانون منافسا لاتفاقية لومى Lome المبرمة بين دول الاتحاد الأوروبى ومنطقتى الكاريبى والباسيفيكى ج ـ سياسة المساعدات الأمريكية تجاه أفريقيا: إذ لا يخفى أن الرؤية الأمريكية الجديدة التى ترفع شعار التجارة بدلا من المساعدات لا تعنى إلغاء أو تخفيض المساعدات الأمريكية المقدمة للقارة، ولكنها تركز على مبدأ المساعدة من أجل دعم جهود الإصلاح الاقتصادى والسياسى ـ حسب المتطلبات ـ فى المنطقة د ـ الاستفادة من التجمعات الاقتصادية الإقليمية فى أفريقيا مثل ـ جماعة تنمية الجنوب الأفريقى ـ السادك ـ والجماعة الاقتصادية لغرب أفريقيا ـ الأكواس ـ 2 ـ المجال الأمنى: إذ يعد هذا المجال من ابرز ملامح السياسة الأمريكية الجديدة تجاه أفريقيا ـ ويمكن أن نشير فى هذا الخصوص إلى المرتكزات الآتية: أ ـ تحقيق الاستقرار والسيطرة الأمنية فى منطقتين على جانب كبير من الأهمية وهما منطقة البحيرات العظمى ومنطقة القرن الأفريقى الكبير مع الاعتماد على قيادات أفريقية جديدة تتسم بولائها الواضح للولايات المتحدة كما ظهر ذلك جليا فى مؤتمر ـ عنتيبى ـ الذى عقده كلينتون مع زعماء ست دول أفريقية ولا يخفى أن هذه السياسة تسعى كذلك إلى محاصرة النظم الأفريقية المعادية لأمريكا مثل السودان وليبيا ومن المؤشرات التى تؤكد هذا التوجه الأمريكى أن وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة أولبرايت وضعت على قائمة زيارتها الأفريقية فى أكتوبر 1999 الاجتماع بأركان المعارضة السودانية، وعلى رأسهم جون جارانج زعيم الفيصل الرئيسى فى حركة التمرد السودانية، وكذلك التنسيق ما بين المبعوث الأمريكى للسودان هارى جونسون Harry Johnston وممثل منظمة ـ الإيجاد ـ الكينى دانيال موبيا Danial Mboye ويأتى ذلك كله فى إطار عدم تمثيل الجانب الحكومى الرسمى فى السودان ب ـ تشكيل قوة تدخل أفريقية لمواجهة الأزمات وذلك استنادا إلى المبادرة الخاصة بمواجهة الأزمات الأفريقية (ACRI) وتتمثل الرؤية الأمريكية لهذه القوة فى العمل من أجل تعزيز القدرة الأفريقية على مواجهة الأزمات الإنسانية وتحديات حفظ السلام أما الدور الأمريكى فينحصر فى التدريب وتوفير المعدات اللازمة والاتصال لتحقيق الترابط بين الوحدات فى الدول المختلفة وتتألف هذه القوة من وحدات قوامها ما بين عشر آلاف إلى اثنى عشر ألف جندى أفريقى بقيادة ضباط أفارقة مؤهلين ومن الدول المشاركة فى هذه القوة السنغال وأوغندا ومالاوى ومالى وغانا وأثيوبيا ج ـ التركيز على قضايا الإسلام السياسى، إذ طرحت عملية تفجير السفارتين الأمريكيتين فى كل من كينيا وتنزانيا ورد الفعل الأمريكى المتمثل فى توجيه ضربات عسكرية لكل من السودان وأفغانستان تساؤلات عديدة حول الحرب المعلنة بين الولايات المتحدة وحركات الإسلام السياسى وعلى رأسها جماعة أسامة بن لادن وعلى الرغم من أن تاريخ الصراع والتنافس بين حركة الإسلام السياسى والغرب عموما قديم ومعلوم، إلا أن من الملاحظ منذ نهاية أعوام الثمانينات ازداد حدة هذا الصراع ولاسيما مع إصرار الغرب على البحث عن (عدو) استراتيجى بديل للاتحاد السوفيتى ـ 3 ـ المجال السياسى: من الملاحظ أن إدارة الرئيس كلينتون قد رفعت شعار الديموقراطية وحقوق الإنسان فى سياستها الجديدة تجاه أفريقيا وهى تستخدم فى ذلك مجموعة من الأدوات مثل الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية ومؤسسة الوقف القومى من أجل الديموقراطية ووكالة الاستعلامات الأمريكية وبعثاتها العاملة فى الخارج، بيد أنه من الملاحظ ما يأتى: ـ أن الولايات المتحدة تولى اعتبارات المصلحة القومية الأهمية القصوى، وهو ما يعكسه اهتمامها بنظم هى ليست بالضرورة ديموقراطية بالمعنى الحقيقى ـ أنها فى سعيها لتحقيق الديموقراطية تعمل على تشكيل نخب جديدة فى أفريقيا موالية للغرب عموما وللولايات المتحدة بشكل خاص ـ أنها تستفيد من إمكانات العولمة الأمريكية فى تسويق نمط الحياة الأمريكية وطرح قضايا معينة مثل دور المرأة ومؤسسات المجتمع المدنى ويلاحظ بصفة عامة أن السياسة الأمريكية تعول فى المجالات السابقة على التنظيمات الإقليمية الأفريقية فى تحقيق أهداف الشراكة الجديدة مع أفريقيا فإذا نظرنا إلى منطقة الجنوب الأفريقى نجد أن جماعة تنمية الجنوب الأفريقى ـ السادك ـ ، أضحت أداة محورية فى دعم التعاون التجارى والمنى بين دول المنطقة، وتهتم الولايات المتحدة اهتماما بالغا بهذا الإطار التنظيمى الإقليمى، ويتضح ذلك من متابعة حركة التجارة الأمريكية من دول ـ السادك ـ حيث بلغت عام 1994 أكثر من سبعة بلايين دولار وفى عام 1997 وقعت الإدارة الأمريكية اتفاقا مع وزراء مالية ـ السادك ـ بشأن تنمية العلاقات التجارية الأمريكية مع دول المنظمة وتنظر الولايات المتحدة فى إطار هذا التجمع الإقليمى إلى جنوب أفريقيا باعتبارها حليفا استراتيجيا، حيث أن كلتا الدولتين تشتركان فى عدد من الأهداف السياسية العامة سواء داخل دولة جنوب أفريقيا ذاتها أو فى المنطقة بأسرها إذ تمثل جنوب أفريقيا ثانى أكبر شريك تجارى للولايات المتحدة فى أفريقيا حيث بلغ حجم تجارتها مع الولايات المتحدة عام 1994 نحو (42) بليون دولار، وهو ما يجعلها أكثر أهمية كشريك تجارى من دول شرق أوروبا مجتمعه وتفضى عملية تقويم السياسات والمواقف الأمريكية تجاه منطقة الجنوب الأفريقى إلى القول بأن جمهورية جنوب أفريقيا ستظل الشريك الرئيسى للولايات المتحدة فى أفريقيا والقوة المحورية التى يعتمد عليها فى تحقيق الاستقرار والنمو الاقتصادى فى النظام الإقليمى لدول الجنوب الأفريقى وعلى صعيد آخر، تعد الجماعة الاقتصادية لغرب أفريقيا ـ الأكواس ـ بمثابة الآلية المؤسسية لدعم جهود التعاون الإقليمى بين دول المنطقة على أن نيجيريا تمارس دورا محوريا وقائدا فى هذه الجماعة وهو ما ظهر جليا فى قيادتها لقوات الإيكوموج ـ ECOMOG ـ فى ليبريا وسيراليون، وعلى الرغم من العقبات التى تعترض عملية التحول الديموقراطى فى نيجيريا ذاتها، فإنها تمثل أكبر شريك تجارى للولايات المتحدة فى أفريقيا قاطبة كما أنها تعد ثالث مصدر للنفط المتجه للولايات المتحدة بعد كل من المملكة السعودية وفنزويلا وعلى سبيل المثال بلغت قيمة الواردات الأمريكية عام 1994 من البترول النيجيرى ومشتقاته نحو (44) بليون دولار يدفع ذلك إلى القول بأن السياسة الأمريكية تسعى إلى تحقيق مصالحها الاقتصادية والاستراتيجية فى غرب أفريقيا من خلال إعادة تقويم سياستها مع نيجيريا بما يحقق عودة الحكم المدنى لهذه الدول الأفريقية العملاقة ثالثا: السياسة الأمريكية والدائرة النيلية: بينا آنفا ملامح المبادرات والسياسات الأمريكية الخاصة بالشراكة مع أفريقيا على وجه العموم، على أننا نحاول فى هذا الجزء التركيز على طبيعة وأهداف السياسة الأمريكية فى منطقة حوض النيل حتى نتبين الالتقاء والاختلاف مع السياسى المصرية: ـ 1 ـ منطقة البحيرات العظمى، لاشك أن تاريخ التدخل الأمريكى فى هذه المنطقة معلوم ولاسيما بعد الاستقلال أنجولا عام 1976 وانتهاجها الفلسفة الماركسية اللينينية، حيث استهدفت السياسة الأمريكية منطقة البحيرات العظمى لتحقيق مصالحها الاستراتيجية طيلة سنوات الحرب الباردة على أن الموقف الأمريكى من الأنظمة الحاكمة فى المنطقة قد تغير مع أواخر أعوام الثمانينات وبداية التسعينات حيث سعت الولايات المتحدة إلى تحقيق هدفين أساسيين: أولهما: يتمثل فى إعادة ترتيب الأوضاع الإقليمية فى وسط أفريقيا والثانى: يرتبط بمحاربة وعزل نظام حكم الجبهة الإسلامية فى السودان وعليه فقد عملت الولايات المتحدة على تقوية وتعزيز روابطها العسكرية والاقتصادية مع أوغندة ورواندا تحت حكم الجبهة الوطنية التى تمثل الأقلية من التوتس وذلك منذ أوائل التسعينات وقد شملت هذه الروابط تقديم مساعدات عسكرية مهمة لكل من البلدين من خلال الوسائل الآتية: ـ برنامج المبيعات العسكرية الخارجية (وهى مبيعات حكومية يديرها البنتاجون) ـ برنامج المبيعات التجارية (وهى مبيعات خاصة تقوم بها شركات الأسلحة وينظمها البنتاجون) ـ السماح بنقل فائض المعدات الحكومية من قبل البنتاجون ـ برنامج التعليم والتدريب العسكرى الدولى ومن جهة أخرى، فقد وافقت الولايات المتحدة على الدور الأوغندى والذى أسهم فى إنهاء حكم الأغلبية من الهوتو فى رواندا وكذلك دور الحكومتين الرواندية والأوغندية بعد ذلك فى الصراع الذى شهدته جمهورية الكونغو الديموقراطية، وأفضى إلى انتصار تحالف قوى المعارضة بقيادة لوران كابيلا فى مايو 1997، وعلى الرغم من عدم وجود أية دلائل تشير إلى مساندة أمريكية لقوات كابيلا فإن الولايات المتحدة كانت تبارك التدخل الأجنبى فى شئون الكونغو بحجة دعم حركة التحول الديموقراطى بها ـ 2 ـ أثيوبيا وإريتريا: يمكن القول بأن التطورات التى شهدتها منطقة القرن الأفريقى فى أوائل التسعينات قد أفضت إلى ظهور ترتيبات إقليمية جديدة فانهيار أثيوبيا ـ منجستو ـ والصومال ـ سياد برى ـ واستقلال إريتريا اسهم فى إعادة ترتيب ميزان القوى بين السودان وجارتها، وعلى صعيد آخر، فإن تاريخ التعاون الأمريكى الإثيوبى قديم ومعروف منذ العهد الإمبراطورى، وربما يكون أحد الأهداف غير المعلنة للسياسة الأمريكية فى المنطقة هو التأثير على الخزان المائى ولاسيما فى منطقة النيل الأزرق والنظر إلى قضية المياه باعتبارها ورقة ضغط يمكن إثارتها فى إطار الترويج لمقولة حرب المياه فى القارة الأفريقية لقد سبق وأن تعارضت الولايات المتحدة مع أثيوبيا فى إجراء العديد من الدراسات والأبحاث باستصلاح الأراضى وتوليد الكهرباء على النيل الأزرق خلال الفترة من 1958 إلى 1963، ونشرت نتائج هذه الدراسات فى سبعة عشر مجلدا ولعل ذلك الإجراء الأمريكى كان يطرح فى أحد دلالاته محاولة الضغط على الإدارة السياسية لمصر الناصرية آنذاك وليس بخاف أن الوجود الأمريكى منذ ذلك الحين ما انفك يحاول تحقيق هذا الهدف وهو يرتبط دوما بالوجود الإسرائيلى حيث تسعى الدول العبرية من خلال استراتيجية حلف المحيط، أى إقامة تحالفات مع الدول والجماعات الإثنية والدينية المعادية للعرب إلى محاصرة الأمن القومى الغربى ولاسيما فى امتداده المصرى والسودانى، وطبقا لكريستيان توردينى فإن ـ الخطط الإسرائيلية المتعلقة بالبحيرات العظمة ومنابع النيل عموما لا يقتصر الهدف من ورائها على فتح ثغرة فى خطوط الأمن القومى والمائى العربيين من خلال أثيوبيا وإريتريا، بل يتجاوز ذلك إلى جعل أبواب المنطقة مشرعة أمام المصالح الأمريكية ـ ـ 3 ـ الأزمة السودانية: تسعى الحكومة الأمريكية إلى تغيير نظام الحكم القائم فى السودان حيث فرضت إدارة كلينتون عقوبات اقتصادية على السودان مع منحها فى الوقت نفسه دعما كبيرا لدول الجوار الجغرافى والثقافى المحيطة بالسودان وتعتمد الإدارة الأمريكية فى تحقيق هذه السياسة على قادة كل من أثيوبيا وإريتريا وأوغندة بالإضافة إلى بول كاجامى رئيس رواندا، وهم الذين يمثلون من وجهة النظر الأمريكية الجيل الجديد من القادة الأفارقة الذين يعملون بدأب على تحقيق طموحاتهم القومية والإقليمية المشتركة وعلى صعيد الحرب فى جنوب السودان، فإن واقع الخريطة السياسية والاجتماعية يشير إلى وجود نوع من التقسيم العملى فى البلاد حيث تمارس الحكومة سلطاتها المدنية والعسكرية فى عدد من الأقاليم والمناطق والمعارضة الجنوبية المسلحة تمارس سلطات مماثلة فى عدد من المناطق والجهات السودانية وتوجد بين هذين الطرفين مناطق ونواح لا تخضع فعليا لأى من الطرفين المتحاربين، وإنما تمارس السلطة فيها قيادات قبلية أو محلية تتحالف مع هذا أو ذاك طبقا لميزان القتال والمعارك العسكرية وهذه النقطة تكشفها الصراعات العسكرية الدائرة فى منطقة بحر الغزال ومنطقة أبى وأنحاء أخرى فى الغرب والشرق وبالنظر إلى السياسة الأمريكية المعلنة نجد أنها تسعى إلى تدويل المشكلة السودانية حيث تؤيد علنا خطة الإيجاد التى تنص على ضرورة تأكيد حق أهل جنوب السودان على تحديد مستقبلهم عبر استفتاء شعبى، وربما يكون ذلك وراء ميل البعض إلى القول بأن الولايات المتحدة تسعى إلى تقسيم السودان والقبول بقيام دولتين ألم تعارض السيدة مادلين أولبرايت، وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة، صراحة المبادرة المصرية الليبية الخاصة بالسودان ويلاحظ المتابع للمواقف الأوروبية إزاء المشكلة السودانية أنها لا تختلف كثيرا عن الموقف الأمريكى، إذ ترى بعض دول الاتحاد الأوروبى أن هيمنة حكومة الإنقاذ بتوجهاتها الأيديولوجية المتشددة على زمام السلطة فى الخرطوم فى نفس الوقت الذى تتعاظم فيه التأثيرات السلبية المدمرة للصراع على المستوى الإنسانى تدفع إلى ضرورة التأكيد على حق الاستفتاء وتقرير المصير للجنوبيين ومناقشة إشكالية العلاقة بين الدين والدولة وإذا كانت السودان تشكل عمقا استراتيجيا فى التفكير المصرى على المستويين الرسمى والشعبى، فإن التطورات التى شهدتها العلاقات المصرية السودانية منذ وصول حكومة البشير إلى السلطة عام 1989، لم تغير ثوابت السياسة المصرية التى أقامت حوار مع التجمع الوطنى السودانى المعارض كان من أبرز مظاهره دعوة جون جارانج لزيادة القاهرة عام 1997، وصدور إعلان القاهرة بشأن مستقبل السودان عام 1998 وعليه فإن المدقق للسياسة المصرية يلاحظ أنها لا تتفق تماما مع السياسة الأمريكية المعلنة وهو ما يدعو إلى ضرورة الحوار والتفاهم بين الجانبين المصرى والأمريكى ومع ذلك فإن التفكير الاستراتيجى الأمريكى الذى يقبل باندماج جنوب السودان المستقل فى إطار تجمع القرن الأفريقى الكبير يتعارض ولاشك مع المصالح المصرية فى المنطقة وعلى الرغم من الانشقاق الذى حدث بين جناح المؤتمر الشعبى بزعامة الترابى وجناح المؤتمر الوطنى بزعامة البشير، وهو الأمر الذى انتهى بالإطاحة بالترابى نفسه ووضعه رهن الاعتقال فى أعقاب توقيعه مذكرة تفاهم مع فصيل جون جارانج، فإن الإدارة الأمريكية الجديدة برئاسة جورج دبليو بوش لم تعبأ بهذه التطورات الداخلية المهمة على الساحة السودانية واستمرت على نهجها المتشدد فى التعامل مع السودان رابعا: آفاق المستقبل: فى أوائل يوليو من العام نشر مركز الدراسات الدولية والاستراتيجية بواشنطن مراجعة للسياسة الأفريقية للولايات المتحدة فى التسعينيات حيث تم التأكيد على أن المصالح القومية الأمريكية فى القارة الأفريقية وإن لم تكن ذات طابع استراتيجى، فإنها ذات أهمية بالغة فثمة روابط تاريخية تجمع بين نحو ثلاثين مليون أمريكى من أصول أفريقية وبين موطنهم الأصلى فى أفريقيا ومن ناحية أخرى توفر أفريقيا نحو (15%) من احتياجات الولايات المتحدة البترولية ويمكن أن نسوق فى هذا المقام الاعتبار المثالى الذى يحكم جانبا مهما من التفكير الاستراتيجى الأمريكى، وهو المتعلق بنشر الديموقراطية ونظم اقتصاديات السوق، وربما أضحت الأهداف الخاصة بمكافحة الجريمة والإرهاب وانتشار الأمراض الخطيرة، مثل مرض نقص المناعة المكتسبة (الإيدز) ، تأتى على قائمة المصالح الأمريكية الجديدة فى القارة الأفريقية على أن اللافت للنظر فى هذا التقرير أنه أربعة تطورات مهمة أثرت على المصالح الأمريكية فى أفريقيا خلال عقد التسعينيات وذلك على النحو التالى: أولا: تدهور الأوضاع المنية والاقتصادية والسياسية فى القارة، وهو الاتجاه الذى روج له بعض الكتاب فى إطار ما يعرف بالصورة التشاؤمية لأفريقيا فى الألفية الثالثة من الميلاد وفى نفس الوقت فإن العلاقات الأمريكية بدول القارة على المستوى الثنائى لم تشهد ملحوظا فى فترة ما بعد الحرب الباردة لقد ازدادت عملية تهميش أفريقيا اقتصاديا حيث يعيش جانب كبير من سكانها على أقل من دولار أمريكى واحد فى اليوم، كما أن النزاعات والصراعات المسلحة أضحت تشكل واقعا حياتيا فى أفريقيا، وعلى الرغم من الاهتمام الإعلامى والدبلوماسى الأمريكى بأفريقيا، إلا أن الموارد المادية المخصصة لدعم العلاقات الأمريكية الأفريقية ظلت محدودة للغاية بحيث ظهر واضحا أن هناك فجوة بين الأهداف والوسائل، وربما تكمن المشكلة المحورية فى مدى التشكك حول تدعيم المصالح القومية الأمريكية فى القارة ثانيا: ازدياد اعتماد الولايات المتحدة على أفريقيا فى الحصول على مصادر الطاقة، وربما يتطور ذلك فى السنوات المقبلة ليصبح مسألة استراتيجية فلا يخفى أن نحو (15%) من البترول الذى تحتاجه الولايات المتحدة يأتى من وسط وغرب أفريقيا ومن المتوقع فى المستقبل القريب أن تزداد هذه النسبة لتصل إلى (20%) ، كما أن الاستثمارات الأمريكية فى قطاع الطاقة ربما تزيد على الضعف يعنى ذلك من الناحية الواقعية أن السياسة الأمريكية فى أفريقيا سوف تركز على دول مثل أنجولا، ونيجيريا وتشاد، وغينيا الاستوائية، وهى دول ذات طابع مؤسسة هش، وتتسم بانتشار الفساد على نطاق واسع، وبعدم الاستقرار السياسى ثالثا: تمثل عمليات التطهير العرقى وجرائم الحرب وغيرها من مآس الصراعات وإمكانيات إعادة تفجيرها واندلاعها مرة أخرى معضلة للسياسة الأمريكية وتضعها فى سياقها العالمى فلا تزال المواقف الأمريكية إزاء أحداث رواندا عام 1994، والجبهة الثورية المتحدة فى سيراليون، وانتهاكات حقوق الإنسان فى كثير من أنحاء القارة تثير جميعها إشكالات بالنسبة لما ينبغى أن تكون عليه السياسة الأمريكية رابعا: انتشار مرض الإيدز يضع لأفريقيا فى دائرة الاهتمام العالمى ويؤثر على توجهات السياسة الأمريكية فى أفريقيا خلال السنوات المقبلة إذ أنه من المتوقع خلال العقود القادمة أن يقضى هذا المرض الخطير على نحو ربع سكان القارة، وتقليص الاقتصاديات الوطنية بنحو الثلث، كما أنه سيؤدى إلى حالة من الفوضى وعدم الاستقرار على المستوى القارى وأيا كان الأمر، فإن تحليل نصوص السياسة الخارجية الأمريكية تجاه أفريقيا ولاسيما منذ إعلان الشراكة الأمريكية الأفريقية عام 1998، يظهر أنها لا تخلو من المبالغة والطابع الحماسى، فإذا تغاضينا عن الاعتبارات الأيديولوجية التى وجهت السياسة الأمريكية طيلة سنوات الحرب الباردة فإن الأهداف والمصالح الأمريكية ولاسيما تلك المتعلقة بتأمين خطوط التجارة والوصول إلى مناطق البترول والتعدين ليست فى موضع تهديد حتى من قبل النظم التى تبدو غير موالية لأمريكا وعليه فإن السياسة الأمريكية خلال الربع الأول من القرن الواحد والعشرين لن تستطيع إنها عمليات تهميش القارة الأفريقية بمجرد رفع شعار الاندماج فى الاقتصاد العالمى، وعوضا عن ذلك، سوف يتم التركيز على التوجهات الآتية من قبل صانع القرار الأمريكى: ـ التركيز على مناطق إقليمية معينة واختيار دولة أو أكثر تمارس دور القيادة مثل جنوب أفريقيا فى الجنوب الأفريقى ونيجيريا والسنغال فى غرب أفريقيا وأوغندة فى وسط أفريقيا وإثيوبيا فى شرق أفريقيا ـ طرح قضايا معينة ووضعها على قائمة أجندة السياسة الأفريقية للولايات المتحدة مثل الإرهاب والتطرف وتدفق المخدرات والجريمة الدولية وحماية البيئة وحقوق المرأة الأفريقية وهلم جرا ـ المحافظة على الأمن والاستقرار من خلال إنشاء قوة أفريقية لمواجهة الأزمات (اكرى) ، وهنا يقتصر الدور الأمريكى على التمويل والتدريب ـ العمل على محاصرة النظم غير الموالية والتى تدعم التطرف والإرهاب من وجهة النظر الأمريكية مثلما هو الحال مع السودان وليبيا ـ تأمين وتعزيز فرص الاستثمار والتجارة فى المنطقة، وهو ما يؤكد عليه مبدأ ـ التجارة بدلا من المساعدات ـ ، ومن المتوقع ألا يحدث تحول فى مجالات الاستثمار الأمريكى فى القارة حيث أنها تركز على النفط والتعدين وعلى الرغم من الاعتقاد الشائع بوجود تنافس أوروبى أمريكى على مناطق النفوذ والسيطرة فى أفريقيا، فإن الواقع يشير إلى إحياء النمط القديم فى السياسة الأمريكية، والذى جسدته زيارة نيكسون فى الخمسينيات حيث تم التأكيد على أن يكون للولايات المتحدة سياستها الخاصة تجاه أفريقيا ولكن فى إطار من التنسيق والتعاون مع القوى الأوروبية ذات الميراث الاستعمارى والخبرة الطويلة فى أفريقيا فلا يخفى أن زيارة الرئيس الأمريكى السابق كلينتون لأفريقيا وجولته فى ست دول أفريقية مرة واحدة عام ـ 1998، إنما تعكس اهتماما واضحا من قبل أعلى سلطة فى الإدارة الأمريكية، بيد أنها مع ذلك لا تخلو من الطابع الدعائى والإعلامى المرتبط بتصاعد الحقبة الأمريكية أو ما يسمى Pax Ameicana ولنتأمل على سبيل المثال فقرة من خطاب الرئيس كلينتون فى العاصمة الغانية أكرا يوم 23 مارس 1998 حيث قال ـ أن الغاية المرجوة من هذه الرحلة هى أن تتمكن سوريا من وضع الأمور فى نصابها حتى يدرك أحفادنا بعد مائة عام من الآن أننا قد وضعنا أسس النهضة الأفريقية الحديثة وإذا كانت الطيور تظل تعمل بدأب جيئة وذهابا، كى تبنى أعشائها، فإننا نعمل كذلك على مساعدتكم فى بناء أفريقيا الجديدة ـ ومن الواضح أنه يتنازع التفكير الاستراتيجى الأمريكى اتجاهان رئيسيا بشأن مستقبل أفريقيا فى الألفية الثالثة: الأول والذى يروج له عدد من الدبلوماسيين وكتاب الرحلات، وهى يعطى صورة فوضوية وتشاؤمية عن أفريقيا ومن أمثلة ذلك مقالة كابلان عن الفوضى القادمة فى أفريقيا، أما الاتجاه الثانى فإنه يروج لأفريقيا ويعطى صورة مشرقة من خلال اندماج القارة فى الاقتصاد العالمى وتبنيها برامج التكيف الهيكلى، وقيامها بالتحول نحو الديموقراطية الليبرالية، وبغض النظر عن مدى تأثير كل منهما على صانع القرار السياسى الأمريكى، فإن أفريقيا سوف تظل فاعلا ضعيفا وهامشيا فى النظام الدولى خلال المستقبل المنظور، وسوف تكون كذلك موضوعا للتنافس بين القوى الدولية الكبرى

مجلة السياسة الدولية