السودان مرة أخرى غارق في الاضطرابات السياسية، وليس عبثا أن ينتفض الشعب السوداني ويتحرك، وأن لا تقف التظاهرات في المحافظات السودانية بل تتعاظم، وأن يحتدم الصراع السياسي وأن وأن… السودانيون زادوا من حضورهم في الساحات، هم يريدون حكومة مدنية، والعسكر يصعب عليهم ترك المقاعد بهذه السرعة، فهو بالتالي صراع ذو دلالات عميقة، فلا الشعب متراجع وبتقديره أنه صار في ربع الساعة الأخير، ولا المجلس العسكري بمتراجع أيضا بعدما حسم الموقف. في حقيقة الأمر، يواجه السودان مأزقاً سياسياً حقيقياً خانقاً، بخاصة بعد إهدار فرصة عودة رئيس الحكومة عبد الله حمدوك عن استقالته، ثم قراره بالتخلي عن منصبه، بعدما أكّد  أنه حاول إيجاد توافقات بين الأطراف المتنازعة  لكنه فشل في ذلك واعترف بفشله، وحذر من أن السودان  يواجه منعطفاً خطيراً  جداً قد يهدد بقائه، وأنه كان يسعى دائماً إلى تجنب انزلاق السودان نحو السقوط.

إن تشعّب الأمور وازدياد تعقيدات المشهد السياسي والعسكري والأمني في السودان يؤكد أن هناك انعدام ثقة مطلقة بين المكونين الأساسيين في السودان،  المكون العسكري والسياسي، اللذين قادا الإطاحة بنظام  الرئيس السابق عمر حسن البشير، جراء ممارسات وسلوكيات اعتبرت إخلالاً بمضمون الوثيقة الدستورية وبما تضمنته القوانين والتشريعات الناظمة في السودان، وما أدت إليه بعد ذلك من خروج مظاهرات حاشدة ومواجهات ساخنة ودامية، وبالتالي انسداد أفق الحل السياسي، ما وضع القيادة السودانية في حيرة مطلقة، ووضع السودان أمام المجهول. ومع أن العسكر في السودان الذين اعتقلوا الرئيس السوداني عمر البشير وأعلنوا زعمهم بالتزامهم بأهداف الحراك الشعبي ظلوا محافظين على ارتباطاتهم بجهاز الدولة العميقة للبشير، فهم واقعيا أبناء قيادته وتدربوا وتقدموا عسكريا في ظله والولاء له، وقاموا بتنفيذ خططه ومشاريعه وبرامجه السياسية والأمنية وغيرها مما عرفوا به تاريخيا، حتى المجازر الدموية ضد أبناء الشعب، وهذه وقائع تاريخية لا يمكن إنكارها أو التهرب منها. وبعد الاحتجاجات واعتقال الرئيس في السودان لم تخرج المجموعة العسكرية من رهاناتها التي مكنتها عسكريا وسياسيا، وزادت من تمسكها بسيف السلطة والالتفاف على أهداف الحراك الشعبي.

السودان اليوم لقد نضجت حلقاته، ولا يبدو أنّ في الأفق مسامحة لبقاء العسكر... فهل يبقى الجيش هو الحكم النهائي؟ مع كل دعوة جديدة يطلقها مناصرو السلطة المدنية المعارضون للفريق أول البرهان الذي عزز سلطته بانقلاب الخامس والعشرين من تشرين الأول، تقوم السلطات باستخدام وسائل جديدة، مثل قطع خدمة الإنترنت ونصب كاميرات على المحاور الرئيسية في الخرطوم لرصد تجمعات المتظاهرين والفتك بهم، بحيث أسفرت التظاهرات المناهضة للانقلاب العسكري خلال شهرين عن مقتل 48 متظاهرا وإصابة المئات بالرصاص. وفي هذا السياق قالت لجان المقاومة في بيان لها الاثنين الماضي، إن "بقاء السلطة القاتلة على صدور السودانيين مهدد حقيقي لبقاء الدولة السودانية ويجب أن تسقط هذه العصابة ويُقاد مارشالاتها صاغرين إلى المقاصل دون رحمةٍ أو هوادة". أما قوى إعلان الحرية والتغيير بالسودان فقد دعت في بيان، مجلس الأمن الدولي إلى تشكيل لجنة مستقلة للتحقيق في جرائم السلطات السودانية، المرتكبة منذ انقلاب 25 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، مشددة على أن السلطة العسكرية تواصل ارتكاب جرائم ضد الإنسانية، وتتزايد أعداد المصابين والقتلى. وذكر البيان أن "قمع السلطة الانقلابية متواصل، مستهدفا مظاهرات الشعب، بإصابات مميتة، موجهة إلى الصدر والرأس، كما يتواصل الاعتداء على المستشفيات والمؤسسات الصحية". وفي المقابل اعتبر مستشار رئيس مجلس السيادة السوداني، العميد الطاهر أبو هاجة، أن المظاهرات الحالية "إهدار" للوقت... لأنها لن تقود إلى حل سياسي، محذرا في الوقت نفسه من "تقسيم البلاد".

وبعيداً عن نظرية المؤامرة فإن ما يجري في السودان، لا يمكن أن يحصل عفو الخاطر ومن دون مفاعيل خارجية مع التسليم بأن هناك أسباباً داخلية كثيرة لما يجري... في السودان، تدفع أمريكا والغرب المتحالف معها، باتجاه تقسيم هذه الدولة عرقياً وطائفياً إلى أقاليم متناحرة تبعدها أكثر فأكثر عن محيطها، وعن الأمة. وهنا من المفيد توضيح حقيقة مهمة هي أن مشروع برنارد لويس لتقسيم المنطقة يتقاطع مع مشروعات عديدة ومماثلة. فقد تمكنت أمريكا خلال العقد الثاني من هذا القرن من تنفيذ الجزء الأول من مخطط برنارد لويس، حيث تم في مطلع عام 2011 التقسيم الأول للسودان، حيث انفصل إلى دولتين شمالية وجنوبية، لكن المشروع لم يتوقف عند هذا الحد، فالمرسوم هو أربع دويلات وليس دويلتين، لذلك تسعى أمريكا في اللحظة الراهنة إلى إشعال النيران في الداخل السوداني، مستغلة استمرار الاضطرابات، ودخول المجلس العسكري في مواجهة مع المتظاهرين والمعتصمين الذين اندست بينهم عناصر موجهة من الخارج لتأجيج الموقف وزيادته تعقيداً، ومع استمرار الاضطرابات والفوضى فإن هذا الابتعاد يتسع ويتعمق ويتكرس كنهج يُفترض أنه سيقود السودان في نهاية المطاف إلى الوقوع في حفرة التبعية والخضوع ليس لأمريكا والغرب الاستعماري فقط، فهذا الهدف هو نصف المؤامرة، أما النصف الثاني فهو الخضوع والتبعية لإسرائيل عبر ربط السودان معه باتفاقيات تزعم أميركا "وغربها" أنها اتفاقيات سلام، وأنها تصب في مصلحة الشعب الفلسطيني. 

أما نهب ثروات السودان والتحكم بمقدراته الاقتصادية، فهذه تأتي لوحدها في ظل اتفاقيات التبعية والخضوع و"السلام المزعوم"... والسودان بلد الخير الوافر جداً حتى أنه يسمى بـ"بسلة العرب" الغذائية الزراعية لخصوبة أراضيها ووفرة محاصيلها وتنوعها... وبالأهداف الأبعد جغرافياً، فإن هذه المؤامرة الأمريكية إذا ما قُدر لها أن تكتمل فإن أمريكا لا تتحكم بالسودان فقط بل بجواره الجغرافي الذي يحتل مساحة بارزة ـ جغرافياً واقتصادياً ـ في قارة توصف بأنها قارة المستقبل... والثابت لدينا حتى الآن، لا يبدو أن المؤامرة الأمريكية على السودان وشعبه حققت أهدافها النهائية، بدليل استمرار التدخلات الأمريكية/ الغربية فيه، واستمرار حالة الفوضى والاضطرابات بحيث لا يكاد يهدأ ليوم واحد... وهذا يعني بالأساس أن الشعب السوداني ما يزال يقاوم التبعية ويرفض، وما زال قادراً على إسماع صوت الرفض إلى أمريكا وحلفائها... الشعب السوداني لم يكن في أي يوم إلا شعباً حيّاً، شعباً عربياً متمسكاً بأمته وبوحدة الأهداف والمصير والمستقبل معها، وهذا ما تعمل المؤامرة الأمريكية على محاولة النيل منها.

إنّ أزمة السودان الراهنة حسب العديد من المتابعين والمختصين، قد تجاوزت من شهور حدود الصدام بين عسكريين ومدنيين، وجدوى المفاضلة أو المفاصلة بين حكم عسكري وحكم مدني، بل وصيغ حكم السودان كلها، وصار مصير السودان نفسه على المحك، وربما يكون ضغط الفترة الانتقالية، التي طالت أكثر مما ينبغي، وتراكمت خلافاتها على نحو عدمي متسلسل، ولا تبدو لها من نهاية مأمونة، من غير الإعداد لانتخابات عامة متعجلة، قد تسبق موعدها المقرر أواسط عام 2023، وتفرز رئيسا منتخبا وحكومة مدنية منتخبة، وهذا هو الاختيار المعلن للجيش وقائده البرهان، الذي تعهد باعتزال الجيش والسياسة، بعد إجراء الانتخابات وتنصيب الحكم المدني الجديد، لكن المعضلة المرئية، أن هذه "الوصفة" التي تبدو منطقية في ظاهرها، لا تبدو مقنعة ولا مقبولة من جماعات الشارع الغاضب. وفي هذا السياق فقد اقترحت قوى "الحرية والتغيير" الأحد 16/01/2022، تحديد سقف زمني لمجمل العملية السياسية وفقا لإجراءات واضحة لا تسمح بإطالتها وإفراغها من محتواها. وأوضحت أن أهداف العملية السياسية يجب أن تكون محددة في إنهاء الوضع الانقلابي في السودان وإقامة ترتيبات دستورية جديدة تستعيد مسار التحول المدني الديمقراطي، وتؤسس لسلطة مدنية كاملة تقود ما تبقى من المرحلة الانتقالية، وتجهز لإقامة انتخابات حرة ونزيهة في نهاية المرحلة. وذكرت قوى "الحرية والتغيير" أنها تتطلع إلى دور إيجابي للأمم المتحدة في دعم مطالب الشعب السوداني نحو الحرية والسلام والعدالة، وتقدر دور الفاعلين الدوليين، مشيرة إلى أن الأزمة الحالية في البلاد هي نتاج مباشر لانقلاب 25 تشرين الأول/أكتوبر الماضي، الذي قطع مسار التحول الديمقراطي وقوض الأساس الدستوري. وشددت على أن إبعاد المؤسسة العسكرية عن السياسة، والإصلاح الأمني والعسكري من أهم متطلبات التحول المدني الديمقراطي. 

إذن، السودان مقبل على أيام قاسية، ما دامت جميع القوى التي قادت الثورة تعيد تأكيد موقفها الواضح والمعلن سابقاً: "لا شراكة ولا شرعية للانقلابيين". في الوقت الحالي، التناقض الرئيسي الذي يواجه السودان هو الخلاف المطول بين السياسيين المدنيين والحكام العسكريين، فلكل مهم وجهات نظر مختلفة إلى حد كبير حول حكم الدولة، وتوزيع المصالح... والحقيقة الساطعة اليوم أنّ الجيش غير مستعد للتخلي عن السلطة، والأسابيع القادمة ستكون عصيبة، وأخطر ما فيها هو التحولات التي يمكن أن تشهدها المؤسسة العسكرية غير المستقرة، وبخاصة أنّها لا تبدو كياناً واحداً منسجماً وإنما تعيش صراع محاور ورؤى متباينة بشكل كبير، والأكيد أن نظام الأجنحة العسكرية كانت له تمدداته في الخارج بما يتجاوز حدود حالة التأثر والتأثير أو وجوب التنسيق بما تقتضيه حالة الجوار. ويقيناً أنّ المؤسسة العسكرية في السودان لم تختلف كثيرا عن طبيعتها العسكرية وممارساتها المعلومة في فرض "انقلابها" العسكري كحل للأزمات والتطورات، وتظل العلاقات بين الحكم المدني والعسكري في السودان متشابكة وتتطلب الانتباه والوعي بالأهداف والمطالب الشعبية المرجوة والمنتظرة وإيقاف أفكار"الانقلاب العسكري" وحكم العسكر، الذي لن يكون البديل الوطني الديمقراطي للمجتمع والحكم المدني وتعزيز ثقافة الديمقراطية وحقوق الإنسان وحكم القانون والمواطنة والعدالة الاجتماعية.