السنوات الثماني التي أعقبت الإطاحة بنظام العقيد الليبي معمّر القذافي، إن أثبتت انهيارا رسميا للدولة، فإنه كان من خلال جنوب البلاد. بقية المناطق على الرغم من الانقسام السياسي والظروف الأمنية مازالت تتشكّل فيها مظاهر الدولة، ومهما طالت الأزمة أو قصرت فإنها ستستعيد حيوتها وحياتها. لكن الجنوب بقي بعد "الثورة" جرحا غائرا في خاصرة البلاد بالنظر إلى التطورات التي حصلت وتحصل فيه منذ سنوات. والقارئ لخريطته اليوم يعرف أنه فضاء تنوع اجتماعي وثقافي معقّد وأنه ساحة لأطراف كثيرة تتنازع عليه بالنظر إلى قيمته في مستوى التهريب والتحركات الإرهابية. فالجنوب الليبي ومن خلال جل القراءات، لا يزال بعيدا عن سيطرة السلطات رغم محاولات الجيش في إطار التموقع الجديد بعد 2014 إعادة الأمن إليه.

ليس سهلا اليوم على أي سلطة في ليبيا أو خارجها وفي ظل الوضع القائم أن تحكم السيطرة على الجنوب بالنظر إلى التعقيدات الكبيرة فيه والتداخل بينما هو اجتماعي وإرهابي، الأمر الذي جعله ساحة مستمرة للدماء منذ ما بعد سنوات "الثورة". الفترة التي سبقت "فبراير 2011" كانت تلك المناطق ورغم اختلافاتها غير المخفية، محافظة على أمنها سواء بفضل نجاح النظام في احتواء تلك التركيبات أو حتى خوفا في ظل المسك القوي للسلطة في تلك الفترة بزمام الأمور.

جغرافية كبيرة يمسحها الجنوب الليبي(5 ألف كيلومر مربع)، وحدودا تمتد من الجزائر غربا إلى السودان شرقا، لا يمكن معهما اليوم الحديث عن ضبط للأمن أو التهريب أو تحجيم الأخطار الكثيرة، خاصة بدخول أطراف خارجية على خط الأزمة مستغلة الظروف الأمنية والضعف الذي تعيشه البلاد. الجنوب اليوم يعيش على تشكيلات مختلفة، كلها تبحث عن تركيز نفسها لأن تلك المنطة تضمن له أمرين هامين؛ الأول اقتصادي باعتبار الجنوب بوابة مفتوحة على أكثر من بلد وبالتالي يكون فضاء هاما للتهريب بكل أنواعه، والثاني أمني باعتباره يمنح لتلك التشكيلات التحرك بكل حرية بعيدا عن أعين السلطات الرسمية سواء من الدولة الليبية التي فقدت توازنها أو من بلدان الطوق التي عجزت عن كبح جماع بعض المسلحين وهي مرتاحة لتصدير أزمتهم وصراعها معه إلى خارج فضائها الجغرافي.

المعارضة التشادية ... أو منطق التوسّع المليشيوي

004.jpg

لم تكن المعارضة التشادية تحلم بأن تتوفر لها فرصة، مثل التي جاءتها خلال لحظة "فبراير". بالنسبة إليها انهيار الدولة في ليبيا هو حياة جديدة لها لتنظيم صفوفها من داخل الجغرافية الليبية. هي لا تريد بأي شكل من الأشكال أن تقترب سلطة قوية من المنطقة. فالأمر بالنسبة إليها مسألة حياة أو موت. إلى حدود العام 2018 تتعامل مع الجنوب الليبي بمنطق الاحتلال المليشوي ومستعدّة في ذلك للتحالف مع أي طرف يضمن لها سلامتها باستثناء من يتبنى فكرة استعادة الدولة الليبية السيطرة على زمام الأمور، ورغم العودة التدريجية للجيش الليبي لكنها مازالت موجودة على الأرض.

يعتبر جنوب سبها مركزا أساسيا للمعارضة التشادية، حيث تتمركز "جبهة الوفاق من أجل التغيير" في منطقة أم الأرانب، وتستغل ارتباطاتها الاجتماعية لفرض منطق السيطرة، وتشير بعض الأطراف إلى تعاون مستمر مع موالين لها يقدّمون لها المعلومة والتمويل، واستعملت الجبهة حتى في الصراعات الليبية الداخلية في إطار مصالح الأحلاف.

في جنوب سبها أيضا يتواجد "المجلس العسكري لإنقاذ الجمهورية"، وهو أكثر فصائل المعارضة تسليحا وأكثرها عددا وقد ذكرت قيادته العسكرية في أغسطس من العام الماضي إن عناصرها شنت هجوما من داخل الأراضي الليبية على معسكر للجيش التشادي في إقليم "تيبستي"، وهو ما أكدته السلطات التشادية التي أعلنت أن الهجوم أسفر عن عدد من القتلى والجرحى في الجانبين. يعتبر  هذا الفصيل الذي يعتمد اللغة العربية وسيلة للتواصل، أنه رافض لأي تواصل مع النظام التشادي وقد بثت عناصر في بداية يناير شريطا يظهر العشرات من سياراته في منطقة أقرب بأن تكون ليبية.

وبالإضافة إلى هذين الفصيلين من المعارضة التشادية الموجودة في جنوب ليبيا، هناك أيضا فصائل أخرى، مثل "الحركة من أجل الديمقراطية والعدالة في تشاد" التي تنتشر في جبال تيبستي الرابطة بين تشاد وليبيا، و"تجمّع القوى من أجل التغيير في تشاد" الذي تدعمه دولة قطر وقيادته تقيم منذ سنوات في الدوحة. ويعتبر مسلحو تلك الفصائل الأكثر تعدّيا على السيادة الليبية مستغلين سنوات الضعف التي عاشتها البلاد، حيث شنوا عديد الغارات واختطفوا عشرات المواطنين في عمليات ابتزاز كبيرة.

مسلحو النيجر وشعار التحالف مع الأقوى

iSXyAgpzYqd5Fffbtd4mvD.jpg

قد لا يكون للمسلحين النّيْجريين نفس النفوذ والقوة اللذين تمتلكهما المليشيات التشادية، لكن الجنوب الليبي كان أيضا فرصة لهم للبحث عن موقع في خارطة الصراعات، حيث ذكرت بعض التقارير أن فصيلا تحت مسمى "القوات الثورية المسلحة من أجل الصحراء"، يتواجد منذ العام 2011، في جنوب ليبيا، وهو في علاقة متوترة مع السلطات النيْجرية، ويعرف بأنه يغيّر مواقفه بناء على مصالحه على الأرض، خاصة في مستوى ضمان مسالك التهريب الذي تعتبر مصادر تمويله.

عصابات التهريب ... مصالح متعددة الجنسيات

libya10.jpg

من بين الأسباب التي تجعل الجنوب الليبي منطقة اضطراب دائمة هو وجوده في واجهة أكثر من بلد، الأمر الذي يسيل لعاب عصابات التهريب الكثيرة. فالمنطقة تعيش منذ سنوات طويلة على تحركات المهربين مختلفي الجنسيات، وازدهرت العمليات من تهريب البضائع قبل أحداث 2011، إلى تهريب المخدّرات والنفط والبشر بعدها. وتختلف انتماءات هذه العصابات من حيث تركيبتها الاجتماعية لكنها تجتمع على المصلحة ولها ارتباطات بمجموعات مقابلة لها في دول الطوق الجنوبي خاصة النيجر وتشاد والسودان التي تعتبر مناطقها الشمالية المجال الحيوي للمهربين.

الجنوب الليبي... الملجأ السهل لقوى الإرهاب

e10cda20-c63a-43d3-b030-bb0a154fc7d0.jpg

يبقى الجنوب الليبي بالنسبة إلى التنظيمات الإرهابية مكانا مهما في سبيل ضمان الحماية والتمويل. فهي تنظيمات تركزّ بشكل جيد في علاقة بمواقع تمركزها من حيث أخذها في الاعتبار إمكانيات التمويل، وعلى ذلك الأساس كان الجنوب فرصة لتنظيم صفوفها وربط خيوط التواصل مع متنفذين قبليين في تلك المناطق ممن تكون لهم قدرة على المساعدة  في مستوى إشراكها في شبكات التهريب باعتباره موردا ماليا هاما.

تنظيمات الإرهاب وفي إطار الإعلان عن نفسها مجددا في ليبيا اتخذت من الجنوب نقطة جديدة لتنفيذ عملياتها، وهو ما قامت به في أكثر من مرة منذ نوفمبر من العام الماضي، الأمر الذي أعاد المخاوف بجدية من خطورة عودة الخطر الإرهابي بعد أن ذهب الاعتقاد إلى أنه تم تحجيم أدواره منذ العام 2016.

من دون شك أن المجموعات المذكورة ليست الوحيدة التي تتحرك في الجنوب الليبي، لأن المكان مركز تجمع لأطراف عدة ومتداخلة، كل واحدة منها تبحث عن التموقع ونيل نصيبها الأمني والاقتصادي. وفي ظل تلك الظروف مازال الجيش الليبي يعدّ لمعركة كبرى تنهي حالة الانفلات وسيطرة المليشيات التي جعلت الجنوب ساحة لكل من هب ودب. فالجيش وعلى لسان قياداته انتظر أن تحل المشاكل الموجودة عبر الوساطات المحلية، لكن الأخبار عن استعادة التنظيمات الإرهابية انتشارها في الجنوب جعل القرارات تُتخذ في اتجاه القيام بعملية عسكرية شاملة، خاصة أنه يحظى بتأييد داخلي يمكن أن يمثل دفعا نحو تطهير منطقة يقول كثيرون أنها مفتاح الاستقرار الرئيسي في البلاد.