خلال فترة حكم إخوان تونس الماضية، غرس في أرض تونس كثير من الفوضى، وكثير من المحسوبية، وكثير من المجاملات السياسية، وكثير من التلاعب والفساد الذي مر دون حساب أو عقاب، وكثير من الطبقية والتفرقة في المناصب والمكاسب... ليثمر هذا كله حقولاً وحقولاً من الحنظل والشوك، أثمر ضياعاً لهيبة الدولة، وتجاوزاً لكل القيم والأعراف والمبادىء الأخلاقية. فتونس الخضراء تشهد منذ 25 تموز/ يوليو 2021، أزمة سياسية حادة منذ أن بدأ الرئيس التونسي قيس سعّيد بفرض إجراءات استثنائية منها: حل البرلمان ومجلس القضاء وإصدار تشريعات بمراسيم رئاسية وتبكير الانتخابات البرلمانية إلى 17 كانون الأول/ ديسمبر 2022. لقد استشعر الرئيس التونسي قيس سعّيد الخطر الداهم الذي كانت تشكله "حركة النهضة" على تونس، واتخذ خطوات جريئة للحد من استطالات تلك الحركة الأخطبوطية، فقد أدرك في لحظة فارقة بأن عليه، كرئيس مؤتمن على الدستور وعلى تونس وأهلها وممتلكاتها وتاريخها وحضارتها، أن يتخذ القرار الصحيح الذي تفرضه مسؤولياته، وينقذ تونس من شرور هذا الحركة الخبيثة. 

والأكيد أنه بعد المشهد الذي أحدثه الرئيس التونسي، لن يقبل من "حركة النهضة" الإخوانية بعد الآن الحديث عن مشاركتها في الحكم مستقبلا، بخاصة بعد انفضاح ماضيها الأسود، وما أدت إليه سرقاتها ونهبها لقدرات البلاد، وسعيها للسيطرة على مفاصل الدولة، فقد سقطت الحركة سقوطاً مدوياً على الصعيد الشعبي، وهي تسقط تنظيمياً من جراء الصراعات والانشقاقات الداخلية والاستطالات الخارجية، ولم يعد تجدي أبداً أي محاولة  لتصحيح المسار والمراجعة وإعادة تقييم تجربتها سيئة الصيت في الحكم التي كانت وبالاً على الشعب التونسي والحكومة ومؤسساتها وإداراتها ووزاراتها. ولم تستطع حركة النهضة بكل مواقفها وعقليتها السلفية إلا أن ترفض الإقرار بالمسؤولية  أمام الدولة والشعب عما آلت إليه الأوضاع العامة في تونس بالاشتراك مع العديد من الأحزاب التي تقاسمت معها السلطة طوال أحد عشر عاماً الماضية، ورفضت أن تبدي تفهمها لغضب الشارع ضد عفونة ورجعية الأفكار والسياسات التي اتبعتها.

اليوم، لعل أكثر ما يتبدى أفقاً مظلماً وموجعاً أن يكون الهدف من بعض الاحتجاجات التي تعرفها بعض المدن التونسية، هو إسقاط الدولة هيبة وسيادة أو إضعافها على الأقل كما نرى ونتابع! ولا يوجد أي تونسي يمكن أن يرضى لدولته أن تسقط أو تضعف. ولنعترف أولاً أن ثمة فارقاً بين إصلاح الدولة وإسقاطها، ولا يمكن أن نصدق أن من يسعى لإسقاط الدولة يريد إصلاحاً من أي نوع... ويبدو أن كثيراً من الممارسات هي في مضمونها تسعى جهلاً أم عمداً إلى إسقاط مؤسسات ومظاهر الدولة وهو الأمر الذي لا ينبغي لأي تونسي أن يقبله بأي صيغة... والكل يستطيع أن يميز بين إسقاط نظام وتغييره وبين إسقاط الدولة، ولسنا بحاجة لكبير جهد ونحن نقرأ الآن الأحداث من نتائجها.... أو من محاولة استقراء نتائجها القادمة... حديثي سيكون تفصيلاً لبعض النقاط الأساسية التي أرى وجوب تفصيلها عن الأزمة التونسية، فالشارع التونسي وغيره من المهتمين والمتابعين لما يجري، يطرح أسئلة كثيرة، تعكس في غالبيتها قلقاً وحرصاً وحباً لتونس وشعبها، تلك الأسئلة تتمحور حول الأزمة التي تمر بها البلاد وشعبها، وتتركز الأسئلة حول نقطتين أساسيتين تشكلان هاجساً للجميع.

إلى متى... وإلى أين تونس ذاهبة... وماذا ينتظر الشعب التونسي... وماذا عليه أن يفعل؟! 

لاشك أنها أسئلة مهمة صعبة ومعقدة ومشروعة، وهذا يعني أن الإجابة عنها أو وجهة النظر حولها، هي كذلك أيضاً لأسباب عديدة منها أننا أمام حالة مركبة بمكوناتها ومحركاتها والقوى الفاعلة ومفتوحة على احتمالات مستقبلية لا يمكن التكهن بخلاصاتها وتداعياتها، وإذا كان تشخيص الأزمة سواء ما تعلق بأسبابها وأدواتها أمراً ليس من الصعوبة بمكان، إلا أن الحديث عن اتجاهاتها والسياقات التي تمر عبرها أمر مختلف تماماَ. الأمر الآخر إن زمام الأمور وتطور الأحداث لا يملكها كلياً أي من أطرافها ناهيك عن البعدين الداخلي والخارجي المؤثرين في إحداثياتها بشكل واضح وجلي، وهنا يمكننا أن نتحدث عن لعبة تبادل الأدوار بين الداخل والخارج لتحريك ودفع الأمور باتجاه المزيد من التصعيد، وفي كلتا الحالتين يبرز الدور الوظيفي أو وسائل الإعلام لتقديم صورة أكثر دراماتيكية، وفي هذا السياق اتّهم وزير الداخلية التونسي توفيق شرف الدين الأحد 08/05/2022، خلال زيارة إلى شارع الحبيب بورقيبة وسط العاصمة التونسية، اتهم من سماهم بـ"الخونة والمرتزقة"، بالتخطيط لزعزعة استقرار تونس وضرب أمنها وإرباك مسارها من خلال صفحات يديرونها من الخارج". فإثارة الحدث التونسي وتضخيمه من قبل إعلام مأجور و صفحات مشبوهة، يجعل المشاهد لا يصبح قادراً على المحاكمة العقلية لما تقدمه الشاشة نظراً للزخم الذي تأتي الصورة والخبر في سياقه وهنا تصبح المسألة قضية كسب رأي عام في أكثر من زاوية ومكان.‏ السياق الآخر الذي يمكننا الحديث عنه في إطار مسرح الأزمة وأبعادها مسار الإصلاح الذي انطلق، حيث أعلن الرئيس التونسي قيس سعيد، الأحد 08/05/2022، عن تشكيل لجنة للإعداد لتأسيس جمهورية جديدة. وكشف قيس سعيد أنه ستتشكل هيئتان داخل اللجنة إحداهما للحوار، لكنه استدرك بأن الحوار لن يكون مع من وصفهم بمن خربوا البلاد، ثم يعرض كل ذلك على الاستفتاء في الموعد المحدد وهو 25 تموز/ يوليو القادم.

والحال يمكننا القول واستناداً لما تقدم، إننا نتحدث عن مشهدين، داخلي هو في حالة انحسار تدريجي ومسيطر عليه لم تعد القوى المؤثرة فيه وازنة شعبياً، ومشهد خارجي تعويضي تنحسر خياراته في بعدين ضغط سياسي عبر المنظمات الدولية. نعلم أن أمريكا وكل الدول الغربية تتبدل مواقفها حسب مصالحها، فهي قد تكون صديقة في مرحلة ما، وعدوة في طور آخر، وتصرفها يكون حسب مصالحها، ولها أهداف بإلغاء دور تونس الاستراتيجي، ولا نقدر أن نلومها كما نلوم مواطناً مفسداً أدخل السلاح إلى تونس، وهان عليه كل شيء، وباع وطنه مقابل المال. ولا نقدر أن نلوم الخارج أيضاً، كما نلوم مسؤولاً سرق أموال الدولة ليبني قصوره في تونس وخارجها، ويظهر كبطل من ورق على الفضائيات المأجورة، ليتحدث عن آلام الشعب التونسي ويقول: إن الشعب صار يأكل من القمامة! ولا نقدر أن نلومها أيضاً كما نلوم مسؤولاً نسي أنه من الشعب ومارس كل أشكال  القهر والظلم على الشعب، وخلق حالة احتقان كثيرة لدى الكثير، وللأسف الشديد الكثير من هؤلاء لديهم ثقافة الانتقام، وعندما وجدوا من يحرّضهم ويجندهم، مارسوا ثقافة العنف والانتقام بأبشع أشكالها. 

تونس إلى أين ذاهبة؟! هذا سؤال جداً صعب جوابه، ولكنه حتماً موقوف على ما يجب أن تقوم به الدولة التونسية، ما يجب أن يفعله المواطن. والمطلوب الأول من الدولة، ألا تنتظر من أصحاب المشروع الأخواني أن يتراجعوا ويندموا على مواقفهم ويعتذروا من الدولة والشعب، ويعترفوا بأنهم حرضوا وجندوا وخططوا و... و... فهم سيستمرون في مخططاتهم أكثر فأكثر، لهذا لن يسامح الشعب الدولة إذا لم تجد حلاً لحالة عدم الأمن والأمان، وهذا الأمر يجب أن يكون ليس سريعاً فقط، بل بغاية السرعة والتسارع، فكل يوم تزيد الأزمة وتتعمق أكثر فأكثر. وطبعاً لست بوارد أن أعلّم الدولة كيف عليها أن تتصرف، والمطلوب الثاني من الدولة والذي هو في غاية الأهمية أيضاً، هو ثورة إصلاح حقيقية، وليست مسيرة إصلاح بطيئة، يلمس مفاعيلها كل مواطن ومشاهد من الداخل والخارج. ثورة إصلاح أول أفعالها وأعمالها، هو القضاء على مظاهر الفساد العامة، لابد من محاسبة الفاسدين قبل الانتخابات وتطهير القضاء، فكما المطلوب من الشعب أن يتحمل أعباء غلاء الأسعار، وأن يقدّر ظروف الدولة، ولكن هي بالوقت نفسه عليها ألا تكافئه بإهماله وانشغال المسؤولين عن حاله وأحواله، وتبقي على مظاهر إفساد الكثير من المسؤولين أوالمتنفذين أو ممن يدعون أنهم من أصحاب الخطوط الحمراء، وثاني مفاعيل ثورة الإصلاح، هو المشاركة الحقيقية والفعلية بالسلطة التنفيذية ولكل أطياف الشعب سلطة ومعارضة وطنية ومتضررين ومهمشين، وأخص المتضررين والمهمشين من حالات الفساد، وأن يكون المعيار الأوحد لشغل أي منصب هو الكفاءة، وطبعاً المقصود بالكفاءة هي الأخلاق والعلم والمعرفة والثقافة والتضحية، والأهم محبة تونس والولاء لها.

وثالث مفاعيل الإصلاح، هي المحاسبة الفورية والسريعة جداً لكل الفاسدين والمفسدين والسارقين لأموال الشعب التونسي، والعمل على فتح كافة ملفات الفاسدين والمفسدين البائتة والجديدة، والعمل على إعادة كافة الأموال المسروقة من مال الشعب إلى الشعب التونسي، ولا يجوز للدولة التونسية أن تسامح أياً كان بمال الشعب، فهو ليس حقها ولا يحق لها أن تتنازل على ما لا تملك، وأيضاً غير مسموح للدولة أن تتسامح وتعفو عن حرق مؤسسة حكومية عامة أو معمل قطاع خاص، وأن يكتفى بأن يسجل هذا الحريق ضد مجهول، وأن السبب كان ماساً كهربائياً، ولنتخلى عن نظرية أصحاب الخطوط الحمراء الذين لا يجوز سؤالهم أو مساءلتهم، فتونس أكبر منهم، فهم زائلون وتونس باقية. ورابع مفاعيل ثورة الإصلاح، هي ثورة حقيقية في آلية عمل المؤسسات الإعلامية المرئية والمسموعة والمقروءة، فلأنها سلطة، وإن لم تكن سلطة محاسبة فهي سلطة رقابة وإعلام، وليس عليها أن تكون إعلاناً فقط، تتحدث عن إنجازات ذلك المسؤول وما قدمه للشعب ولتونس، وتنسى ما فعله المسؤول الآخر من فساد وإفساد، وتستقبل على شاشتها ما تسميهم النخبة من محللين ومثقفين ومسؤولين على اختلاف أنواعهم، وطبعاً كلهم من لون واحد، فالشعب ليس هم فقط، وإعلام الدولة لا يجوز أن يكون ملكاً لأحد، فهو لكل الشعب وعليه أن يتحاور ويحاور كل شرائح الشعب. وطبعاً من أهم مسؤوليات الإعلام هي الإعلام عن الفاسدين والمفسدين والمقصرين أياً كانوا، لهذا صار لا بد من أن تكون هناك برامج خاصة وكثيرة تعنى بفتح ملفات الفساد، وعلى مختلف أنواعها ودرجاتها وفي كافة مؤسسات الدولة، والمطلوب الكثير والكثير، ولكن الفعل قليل وقليل وقد يكون معدوماً، فالشعب التونسي صار ينتظر الحديث عن المؤامرة الداخلية وأبطالها الخونة.

إن كل ما يجري في تونس الآن في تقديري الشخصي، هو أمر طبيعي لأنه موقف يناهض موقفاً، وكيف لا تكون تونس موضع الاستهداف وهي الذي تتميز بخصائص فريدة في العصر المغاربي والعربي الراهن وبتطلعات من شأنها أن تبني في عمق أبنائها ذلك النسق من الاعتماد على الذات واستنهاض الحياة المغاربية والعربية. من هنا نقول: إن كل ما نراه من احتجاجات واستفاضة في تجميع وسائل الضغط على تونس، هو اتجاه متوقع وفعل سياسي محسوب وما في الأمر من مفاجأة، لكن مصدر الرهان هو في الاتجاه الثاني أي تحصين الذات التونسية ضد كل التيارات والجراثيم التي تستهدف الجسد الحي في الدولة التونسية، والمقاربة علمية ودقيقة، فما من جهة شخصاً كانت أم مجموعة تتطلع إلى إبادة الجراثيم كلياً، فذاك منطق مستحيل ولكن التحصين الذاتي ضد البكتريا البشرية، وضد شهوات النفس وضد إغراءات الفساد، وهذه الشجاعة في التصدي لكل الأعراض الخطيرة في وقتها وظرفها، ذلك كله هو الذي ينتج عملية التحصين، وهذا ما يجب التركيز عليه الآن حتى لا يداهم تونس عدو جديد من وراء ظهوره وعبر لحظة غيابه عن واقعه وشعبه وقضاياه. 


كاتب صحفي من المغرب.


*المقال يعبّر على وجهة نظر الكاتب