الأستاذ :عمرون علي

أستاذ الفلسفة المسيلة- الجزائر-

"لا خير في أمة عارية تكتم فقرها ولا خير في شعب جائع يظهر الشبع؛ وشرّ من كل ذلك أمّة تقتني أثوابها من مغاور الموت، ثم تخرج في نور النهار متحجبة بما تلبس من أكفان الموتى وأكسية القبور"

أبو القاسم الشابي

مدخل عام

شهد التاريخ العديد من الثورات خاصة مع النصف الثاني من القرن العشرين ثورات غيرت وبشكل جذري المفاهيم الكبرى في الفكر والسياسة والاقتصاد..... لاسيما بعد نجاح حركات التحرر السياسية واستقلال العديد من المستعمرات القديمة كما هو واضح في البلاد العربية والإسلامية. ومن أهم هذه المفاهيم التي تناولها أصحابها بالدراسة والتحليل والنقد مفهوم النهضة و مشروع بناء الدولة على اختلاف اشكالها ( الدولة القومية ، الدولة الأمة ، الدولة الليبرالية، وحتى الإسلامية) وسرعان ما تجدد هذا المطلب مع مطلع القرن الواحد والعشرين الذي شهد ما يسمى ثورات الربيع العربي بداية من تونس 2011 ووصولا الى الجزائر2019 ولبنان 2020حيث تبنت شعوب هذه الدول وغيرها خيار الاحتجاجات السلمية للمطالبة بالحرية والكرامة والحق في بناء نظام سياسي على أسس المواطنة هذا الوضع الذي اتسم بالحركية دفع بعض المفكرين الى إعادة طرح موضوع الديمقراطية و الدولة الحديثة سواء على مستوى المفهوم وطرق البناء او على مستوى الوظائف المنوطة بها في عصر العولمة ونهاية التاريخ وصراع الحضارات .

الواقع ان تعطش الانسان العربي للحرية ومطالبته بحقوقه السياسية في ظل دولة الحق والقانون مطلب انساني مغروس بالفطرة في كل نفس شريفة وهذا واضح في ميل الانسان الى مناقشة القضايا السياسية وكل ما يتعلق بالسلطة ونظام الحكم يقول فولتير في كتابه القاموس الفلسفي :" انني لم التق حتى اليوم بشخص الا وكانه قد مارس شؤون الحكم " وهو قول له مايبرره على اعتبار ان موضوع مشكلات الدولة وازماتها اثار ويثير اهتمام اغلب افراد المجتمع على اختلاف مستوياتهم الثقافية الاحرار منهم وأيضا المكبلين بقيود العبودية ، لكن المفارقة كما لاحظ عبد الله العروي في كتابه ما الدولة ؟ ان المرء طوال حياته وحتى مماته يعيش دون ان يتساءل مرة واحدة حول مضمون وجوهر الدولة رغم انه يتحدث عن مشكلاتها وهذا ما يحدث لغالبية الناس وهذا ما يتمناه أيضا أصحاب السلطة السياسية بل ويعملون على ترسيخه في الذاكرة الجماعية . والسبب في اعتقادي هو تجذر عقلية ممارسة القهر وفرض الوصاية على الشعب، اضافة الى ان سؤال ماهي الدولة؟ سؤال فلسفي يثير اهتمام النخبة دون الكثرة في الأكثر ويحيلنا على الدوام الى أفكار مجردة بعيدة عن مخيلة العامة منذ ان طرح هذا السؤال من افلاطون الى ارسطو ووصولا الى كارل ماركس وأصحاب الفلسفة السياسية المقارنة.

وهكذا يمكن القول ان إعادة طرح موضوع الدولة بوجه عام والدولة العميقة على وجه الخصوص و الانخراط في حوار جاد وعميق حول فلسفة الحكم مسألة بالغة الأهمية على المستوى الوطني والعربي فالحراك الشعبي في الجزائر دخل دائرة الانكماش ومنسوب الوعي بدأ في التراجع و الحلم الوردي الذي استيقظنا عليه ذات صباح ربيعي تحول الى كابوس قاتم .وزهور الربيع العربي التي كانت متفتحة بدأت تذبل وأنواره المضيئة البراقة بدأت تخبو أمام ظلام ورياح خريف الاستبداد العربي واصبحنا نردد اناشيد الموت في كل صباح في جو من اليتم السياسي .

صحيح ما كتبه عبد الرحيم العطري من ان بن علي ومبارك والقذافي وبوتفليقة والبشير.... رحلوا لكن أنظمتهم أو بالأحرى دولهم العميقة لم تنته بل استمرت ناتئة ومتجذرة فإن مات "الرئيس" رمزياً او واقعيا، فإن "الحرس القديم" حي لا يموت. وصحيح أيضا اننا اصبحنا نراقب ونرصد في الجزائر دون ان نتحرك نفس الوجوه ونفس الأصوات التي كانت تدق على ذات الطبلة وتعزف لحن العهدة الخامسة وتردد بغباء الكلمات التي رسمت لها ، تحتل المشهد الإعلامي من جديد وتعيد بث ذات النغمة بطريقة رديئة دون خجل او حياء ،تدور في فلك الحاكم الجديد وتسبح بحمده.

لذلك تظهر الحاجة الى قراءة تفكيكية لموضوع الدولة تستمد من التاريخ ماد ته لا لتعيش فيه او تركن اليه بل لرؤية الواقع من خلاله. .فالحاضر هو في اكثر الاحيان امتداد للماضي ولا يمكن الامساك به الا في حدود الاخذ باللحظة التاريخية التي يعيشها المجتمع ومن ثمة الحاجة الى مقاربة تجمع بين النقد والتجربة كما اكدت على ذلك حنة ارندت و الغرض ليس التأسيس لنظرة طوباوية تتجه الى المستقبل او رغبة في تهديم الماضي . ومن ثمة يكون لزاما علينا طرح التساؤلات التالية :

ما الدولة الحديثة؟ ما هي خصائصها ؟ وما شروط قيامها ؟ و بالمقابل ما المقصود بالدولة العميقة ؟وكيف تعمل ؟ وماذا عن الثورة المضادة ؟ وكيف يمكن الوقوف في وجهها ؟ وهل يمكن لزهور الربيع العربي التي ذبلت وسقطت ان تنمو وتزهر من جديد؟

من الدولة الحديثة إلى الدولة العميقة

سؤال ما الدولة؟ سؤال اشكالي بامتياز لاعتبارات عديدة فهو تساؤل مربك معقد ومحير في بعده الفلسفي معقد بالنظر الى حمولته المعرفية ومحير بالنظر الى تضارب وتعاكس النظريات و الآراء في حقلي العلوم السياسية والعلوم الاجتماعية . ولذلك مفهوم الدولة تتميز على الدوام بالغموض والتعقيد والتنوع، وذلك بتنوع وتعدد الزوايا التي يمكن الارتكاز عليها والانطلاق منها في تفكيك ماهية الدولة في صورتها القانونية وسياسية او إعادة قراءتها بوصفها فكرة فلسفية مجردة . وبعيدا عن هذه التعقيدات يمكن ان نتفق مع المفكر عبد الله العروي في ان الدولة ظاهرة من ظواهر الاجتماع الإنساني تولدت حسب قانون طبيعي وينطبق هذا على الدولة المدينة في الفلسفة اليونانية كما وصفها وحددها افلاطون ومن بعده ارسطو الذي اعتقد ان كل انسان مفطور على الكمال والكمال لا يحصل الا بالدولة حيث يمكن بلوغ السعادة يعلق " روزنتال على هذا المفهوم قائلا :" أن لفظ المدينة تعني الوحدة السياسية الصغيرة ،التي يمكن للإنسان أن يبلغ فيها سعادته وتقابل كلمة بولس عند اليونان" كما ينطبق وصف العروي على الدولة الحديثة بمفهوم الفكر السياسي المقارن سواء كنا نتحدث عن الدولة القومية او الدولة الامة.. او نتحدث عن الحكومات الصالحة والفاسدة.

ومن الناحية الإيتمولوجية جذور كلمة الدولة للغة اللاتينية تعود لكلمة Position التي تعني الوقوف، وهو مصطلح متداول في اللغات الأوروبية في مطلع القرن الخامس عشر، وفي القرن الثامن عشر تطور مصطلح الدولة واستخدم تعبير Publicae اللاتيني والذي يعني الشؤون العامة.

وفي حقل علم الاجتماع السياسي نجد للدولة عدة تعريفات تعريف المفكر الألماني ماكس فيبر - Max Weber حيث وصفها بأنها منظمة سياسية إلزامية مع حكومة مركزية تحافظ على الاستخدام الشرعي للقوة في إطار معين الأراضي.

وفي موسوعة لاروس - Larousse الفرنسية الدولة هي: "مجموعة من الأفراد الذين يعيشون على أرض محددة ويخضعون لسلطة معينة".

في حين رأى العديد من فقهاء القانون الدستوري أن الدولة: "كياناً إقليمياً يمتلك السيادة داخل الحدود وخارجها، ويحتكر قوى وأدوات الإكراه"

وتاريخيا ظهور الدولة الحديثة ارتبط بمعاهدة صلح ويستفاليا المنعقدة في عام 1648 وهي من أهم الاتفاقيات الدولية في التاريخ الحديث، إذ أدت هذه المعاهدة إلى إيقاف الحروب الدينية في أوروبا التي امتدت لمدة ثلاثين عاماً، وترجع محورية هذه الاتفاقية في التاريخ الحديث إلى نجاحها في إرساء المبادئ الحاكمة لبنية الدول القومية والقواعد المنظمة للعلاقات الدولية ومن ثمة ظهور الدولة الحديثة: حيث تم التأكيد على مبدأ سيادة الدول الداخلية والخارجية: إذ تنفرد الدولة بممارسة سلطاتها داخل حدودها، وذلك من خلال إصدار قراراتها المستقلة، وعدم الخضوع لقوى خارجية من شأنها التأثير على إرادتها، ومبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول: وهو مبدأ يكفل لكل دولة اختيار أنماط أنظمتها السياسية والاقتصادية، وأوضاعها الاجتماعية والثقافية الخاصة بها من دون الخضوع لتأثير أطراف خارجية، وعلى باقي الدول احترام هذه الخيارات، وعدم السعي إلى تغييرها أو التقليل من شأنها. ومبدأ الدولة القومية: وهو المبدأ الذي أسس لعلاقة الفرد بالدولة، وحدد ولاء الفرد لجنسيته وقوميته لا للكنيسة التابع لها، حيث فصلت المعاهدة بين اعتقاد الفرد الديني وبين ولائه القومي، وفصلت بين الدين والسياسة.

ويلخص وائل حلاق صاحب كتاب ( الدولة المستحيلة .الاسلام والحداثة المأزق الأخلاقي ) خصائص الدولة الحديثة في نقاط محددة

- أن الدولة الحديثة هي نتاج أوروبي خالص في ظرف تاريخي محدد (معاهدة ويستفاليا 1648)، فهي وليدة عصر التنوير.

- السيادة في نموذج الدولة الحديثة تعود للأمة التي هي صاحبة القرار في تقرير مصيرها، ولها وجهان سيادة خارجية وسيادة داخلية، أما الخارجية فمتعلقة باعتراف دولة بأخرى والذي يترتب عليه إقامة العلاقات الرسمية فيما بينهما وما إلى ذلك وهو ما يجعل الدولة دولة أما الداخلية هي سيادة القانون وقوة الدولة في تطبيق وفرض وصنع القانون.

- احتكار الدولة للتشريع وما يتعلق به من ممارسة العنف المشروع. فبناء على ما تقدم فالدولة التي لها الحق الحصري في تشريع القوانين ولها _حسب ما ترى ذلك مناسبا وضروريا_التدخل باستخدام العنف لإنفاذ القانون.

- جهاز الدولة البيروقراطي، وهو النظام الإداري الذي هو جزء أساسي من النظام القانوني وهو يدّعي العقلانية والمساواة المتمثلة في شعار المرأة المعصوبة العينين.

- تدخل الدولة الثقافي الهيمني في النظام الاجتماعي بما في ذلك إنتاجها الذات الوطنية. ولا يمكن الفصل بين الثقافة والدولة في أي نموذج.

والواقع ان غرضنا من سرد هذه التعريفات ليس البحث في الدولة الحديثة او الدولة الحداثية و تحديد مدى نجاح او فشل هذا النموذج في البلاد العربية ومدى تقاطعه او ابتعاده عن النموذج المطروح في الفكر السياسي الإسلامي .وانما هي مقدمة ضرورية للحديث عن موضوع مقالنا المتمثل في الدولة العميقة .

ماذا عن مفهوم الدولة العميقة؟

يشير مصطلح "الدولة العميقة" الى ذلك الكل المركب من (شخصيات إدارية وسياسية وإعلامية و عسكرية ومثقفين ورجال دين ..)تجمعهم مصالح اقتصادية ومشاريع تجارية ومالية، وعلاقات اجتماعية وعائلية..، وطقوس احتفالية وانتماءات طائفية او مذهبية وما سواها.. وتوحدهم جميعا "رابطة" واحدة منطلقها ومؤداها: الإبقاء على مصالحهم وامتيازاتهم الخاصة، واستثناؤهم من أية محاسبة أو مساءلة، ثم عدم تعرضهم لأية متابعة قضائية إن اهتز النظام القائم، والتي تعمل على تعزيز مصالحها الخاصة دون الاكتراث لسياسة الدولة.

ونشير هنا الى ان مصطلح الدولة العميقة قريب من مصطلحات أخرى مثل الدولة الموازية والدولة داخل الدولة وهي في نظر James Corbett تشير جميعها إلى نفس الظاهرة المتمثلة في وجود مجموعة غير منتخبة، غير خاضعة للمساءلة، وغير معروفة إلى حد كبير وراء الحكومة المرئية -أى الحكومة الشرعية- تسعى إلى تحقيق أهدافها الخاصة .

و يجمع الباحثون في العلوم السياسية والاجتماعية على أن مفهوم الدولة العميقة Deep State حديث للغاية، وتحديداً في العالم العربي، فلم يستعمل بتواتر أكبر إلا مع "انتكاسة" الربيع العربي، وعودة "النظام" القديم إلى دفة الحكم مجدداً، وفق نسخة مزيدة ومنقحة.

وبالمحصلة "الدولة العميقة" هي "دولة" غير مرئية وسرية وكيان غير قانوني تفرض وصايتها على المجتمع والدولة دفاعا عن مصالحها تتكون من (كبار الموظفين الحكوميين السابقين المدنيين والعسكريين، فهؤلاء يتفقون على التناوب على السلطة، وعلى تقاسم الثروة والامتيازات، وأحيانا يتنافسون فيما بينهم. والنخب الرأسمالية، أي رجال الأعمال الذين يحاولون استخلاص رأس المال، واحتكار الاستثمارات، استمرار امتيازاتهم المالية. عناصر من الأوساط الأكاديمية والمثقفين والتكنوقراط، لاسيما أولئك الذين يعرفون كيفية السيطرة على الدولة من خلال عملية صياغة الدستور ووضع القوانين والتشريعات الأخرى التي لديها أجندة خفية)

ويلخص لنا الدكتور كامل فتحي كامل الدولة العميقة على النحو التالي :

· شبكة من العملاء (الإخطبوط)

· تنشر في كافة مفاصل الدولة (السرطان)

· تشكل سلطة موازية لسلطة الدولة (دولة داخل الدولة)

· يرتبط أعضائها بشبكه من المصالح الاقتصادية وعقيدة سياسية واحدة (التنين)

· لا تمتلك مرجعية أخلاقية (الأرجنكون)

· جزء منها خفي وجزء ظاهر (جبل الثلج)

· تدعي حماية النظام العلماني ( دولة على حافة الهاوية)

كيف تعمل الدولة العميقة؟

الدولة العميقة تظهر بقوة في مراحل التحول الديمقراطي، خاصة في البلدان التي عانت من فترات طويلة من الحكم الاستبدادي مثل بعض دول أمريكا اللاتينية وأفريقيا في الكثير من البلدان و تستخدم أدوات متعددة من بينها:

01- تدخل المؤسسة العسكرية في الاقتصاد والجهاز الإداري والتنفيذي للدولة وذلك عبر امتلاكها للشركات الاستثمارية والتي تتمكن من خلالها من التأثير على السوق، وكذا إشرافها على المشروعات الاقتصادية وهو ما يمكنها من ان تصبح لاعبا أساسيا في الحياة الاقتصادية،

02- سيطرتها على الجهاز الإداري ومعظم المؤسسات الحيوية من خلال تعيين رجال القوات المسلحة المتقاعدين في المناصب العليا. وفي بعض الدول لا تحتاج القوات المسلحة إلى تعيينهم في الجهاز الإداري، فنفوذهم يمكنهم من اختراق الجهاز الإداري وتحقيق أهدافهم دون اللجوء للتعيين، وبذلك تتمكن المؤسسة العسكرية من حماية مصالح الدولة العميقة.

03- البيروقراطية باعتبارها أداة أخرى تستخدمها "الدولة العميقة" وذلك من خلال التمسك بأنماط وقواعد الإدارة وعدم تغييرها، فالبيروقراطيون في هذه الحالة يمثلون قوة منظمة تقود المقاومة السلبية لأي برامج أو سياسات تضعها القيادة السياسية، مخالفة لمصالحهم. فمثلا بالإضافة إلى التحكم في الاقتصاد خاصة من قبل رجال الأعمال والشركات الخاصة تلجأ الدولة العميقة إلى امتلاك أدوات الاقتصاد والتحكم في الأسواق من خلال التحكم في العرض والطلب وذلك من أجل الحفاظ على شبكات المصالح الاقتصادية التي تستفيد بشكل أو بآخر ببقاء النظام العام على ما هو

04- استغلال المؤسسات الدينية التي تسيطر عليها الدولة لتبرير تلك الاجراءات من الناحية الدينية حتى يتم إضاء طابع “شرعي – ديني” على ممارسات الدولة الأمر الذي يدفع المواطنين بالتزام الصمت.

05- استخدام العنف خارج إطار القانون تحت مايسمى حالة الاستثناء، والتي يتم فيها اتخاذ العديد من الاجراءات الأمنية بدعوى الحفاظ على الأمن القومي من الخطر الخارجي إضافة الى قمع المعارضين واغتيالهم أحياناً، كما يُعد المال الأداة الأكثر فعالية في يد الدولة العميقة والتي تتمكن من خلاله من تحقيق أهدافها والحفاظ على مصالحها.

06- الجماعة القريبة من مركز صناعة القرار في الدولة المرئية، هي التي تحدد شروط اللعبة داخل الدولة العميقة. بمعنى أنها تستطيع التخلص من تعارض المصالح واستعادة التوازن داخل الدولة العميقة، وذلك بالتخلص من بعض الأفراد الذين يسببون التوتر وعدم الاتزان، ويتم التضحية بهم لكي يستمر الكيان العميق، وهناك العديد من الشواهد التي تثبت هذا الاستدراك على مستوى الدول العربية.

07- وفي رأي بعض المؤرخين "إن الدولة العميقة مثلها مثل حكومة الظل، يعمل القائمون عليها على نشر الدعاية لإثارة الخوف العام أو زعزعة استقرار حكومات مدنية لا تروق لها.

بنية الثورة المضادة وضرورة البحث عن الكنز

المفقود

يقول محمد القدوسي في مقال له عن ( بنية الثورة المضادة ):" إذا كانت الثورة هي “تغيير جذري حالٌ وشامل ينتظم بنية المجتمع” فإن حصر معنى الثورة المضادة، في المقابل، في ثبات هذه البنية وعدم تغييرها يظل تعريفا قاصرا، فالثورة المضادة ليست مجرد تسكين الزلزال الثوري، لكنها “منع الاستجابة لعوامل الثورة على الرغم من وجودها" ومنع الاستجابة للثورة استراتيجية تتبعها الدولة العميقة لوأد أي حركة تحررية وقد اشرنا سابقا الى طريقة عمل الدولة العميقة ونضيف هنا الاشتغال على محور التخويف والتخوين وذلك بعودة الدولة البوليسية الى ممارستها القديمة والتلويح بورقة التدخل الأجنبي والعمل تفكيك المشهد السياسي وافراغه من أي فاعلية وهذا ما تنبه اليه من قبل ناصر جابي في كتابه "الجزائر، الدولة والنخب":" ليست للأحزاب القدرة على تسيير الحركات الشعبية التي تترك على عفويتها وسذاجتها في خلق حالة استعداء محلي ووطني بالتًركيز على المغالبة ووتحت تأثير منطق الجذرية radicalisme والسلفية، دليل واضح على فشل الحراك السياسي في الجزائر" ونتيجة لهذا الفراغ يتم الدعوة الى تشكيل أحزاب وجمعيات سياسية جديدة والدفع المواطن الى الاختيار بين السيئ والأسوإ (بين الاستعمار الأجنبيّ أو القبول بالاستبداد الممارس عليه ، وبين نظام رأسمالي متوحش والإسلاموية الإرهابيّة، وبين الاستقرار في دولة مريضة والقفز في اتّجاه المجهول...ويضيف سمير حمدي في مقال له بعنوان صناعة الثورة المضادة : تونس ومصر مثالا قائلا :" مثلما شكل الإعلام البديل ( انترنت ، فيسبوك ‘ تويتر .. فضائيات حرة ) منبرا مهما وعاملا أساسيا في إنجاح الحراك الشعبي في بداياته وتعرية أنظمة الاستبداد وضرب مصداقية الإعلام الرسمي فقد كان للإعلام المضاد دوره المركزي في التحريض على الثورة المضادة وهو أمر تجلى في التسويق للغة الإحباط حيث سرعان ما تتراكم المشاكل على الثورات الناشئة وتتراجع الآمال الطوباوية التي بناها قطاع واسع من الناس في أذهانهم عن حالة الرخاء القادمة وبما أن وقائع الثورات تكشف انه " مثلما يجلب الفقر الثورة فإن الثورة تجلب الفقر " كما يقول روسو"

وبالعودة الى كتاب بين الماضي والمستقبل ستة بحوث في الفكر السياسي للفيلسوفة حنة ارنت نفهم ان انتكاسة كل ثورة سببها غياب العقل النقدي وعدم التأسيس للحرية بمفهومها السياسي في مقدمة هذا الكتاب نقرأ هذه العبارة :"إنّ تاريخ الثورات –منذ صيف 1776 بفيلادلفيا وصيف 1789 بباريس وخريف 1956 ببودابيست- أي ما يُمثل التاريخ الأكثر حميمية للعصر الحديث، يُمكن أن يحكى على شكل حكاية أسطورة كنز لا يعيش طويلاً، يظهر فجأة ودون توقع، ثم يختفي من جديد في ظروف غامضة، كما لو كان مُرجانة من سراب" والسبب في ذلك ان هذا الكنز ليس له اسما وضياع الكنز ليس بسبب قسوة الواقع او لاسباب تاريخية وانما يتعلق بفقدان الذاكرة لقد بدأت المأساة عندما غاب العقل الذي يرث يفكر يتذكر يتساءل وبانعدام هذا الاكتمال الفكري ضاع الكنز و في مؤلفها حول ما الثورة؟ قامت بمقارنة بين الثورة الفرنسية والأمريكية ووصلت الى نتيجة مفادها ان الثورة الفرنسية كانت تبحث عن حل للمسالة الاجتماعية فهي مجرد تحرير اقتصادي بينما الثورة الامريكية كانت تبحث عن حل للمسالة السياسية او مايسمى السعادة العامة او مايطلق عليه مصطلح الفضيلة والمجد والحرية العامة لقد اقفر ميدان السياسة بين عشية وضحاها الا من بهلونيات الانذال او الاغبياء فانساق هؤلاء الى ميدان السياسة وكان قوة الفراغ قد امتصتهم .

ولمواجهة الثورة المضادة لابد من العمل على :

01-غرس قيم المواطنة وذلك من خلال تكريس الحقوق العامة والحريات الفردية أهمها الحقوق المدنية والسياسية وحريةالرأي والتعبير، وعلى المساواة والعدالة وتكافؤ الفرص والشفافية، وترمي المواطنة إلى عدم اختزال الوطن في حزب أو قبيلة أو طائفة وأنه لا وجود لأقلية في المجتمع، بل مواطنون متساوون ومساهمون في صنع القرار الوطني.

02- رفع مستوى الثقافة السياسية بين أفراد المجتمع ، وذلك في سياق عملية بناء الفرد الإنسان الذي يعتبر محور العملية البنائية للدولة النموذج. ويتم ذلك بواسطة، بناء قدرات المواطنين لمواجهة المشكلات الداخلية والخارجية بكل اقتدار وبشكل علمي وواقعي. ولا يتم ذلك إلاّ بالوصول بالفكر العام للأفراد إلى درجة القدرة على التمييز بين الواجبات والحقوق أولاً، ثم إدراك تفاصيلها، أي معرفة حدود الواجب وكيف يجب أن يُؤدَّى ومعرفة حدود الحق وكيف يجب أن يحُصَّل ، وذلك في سياق جعل الفرد الإنسان محور هندسة الحكم في الدولة ، وتمكين حقوقي للنوع الاجتماعي.

03- إن كل الثورات الناجحة -برأي بيتر مكفي- تتميز بتحالفات عريضة في بداياتها، بينما تلتحم شرائح اجتماعية تعاني من مظالم عميقة الجذور مع المعارضة ضد النظام القائم. وتفشل الاحتجاجات الجماهيرية أيضا عندما تعجز عن توحيد صفوفها تجاه أهدافها الجوهرية.

04- التأسيس للحرية في العام 1794 أطاحت المقصلة برأس ماكسيمليان روبسبير، لقد كان يملك القدرة على مخاطبة الجماهير وقد قيل لولا لسانه لما قامت الثورة الفرنسية، وقد كان رجلا شريفا غير قابل للرشوة أو الإغواء من النساء .روبيسبيير قبل إعدامه كان يقول ": سوف نهلك، لانه في تاريخ البشرية لم نجد الفتًرة التي نُؤسس فيها للحرية" والخطر الأكبر الذي تنبأ به دو توكفيل، ومنذ وقت مبكر، على الديمقراطية يأتي من الديمقراطية نفسها، فالإنسان الديمقراطي يصبح بسهولة ضحية الفردية، أي الوقوع في التراخي الذي يحول المواطن إلى منعزل، يعيش فقط لنفسه، فالديمقراطية تخلق شخصا مستقلا، لكن مع الوقت يهجر النشاط السياسي تاركا إياه للدولة كاملة، وهذا ما عبر عنه دو توكفيل بالشر السياسي، الذي كان من أكبر مخاوفه، حيث يمكن بسهولة وباسم المساواة أن تضيع الحرية، إنه نوع من الاستبداد الناعم والجذاب.

كيف يمكن مواجهة الدولة العميقة

( تركيا نموذجا )؟

لا يمكن لأي ثورة ان تحقق أهدافها دون التغلب على الدولة العميقة ولا يمكن الحديث عن أي إصلاحات دون تفكيك الثورة المضادة والانتصار عليها حتى في الأنظمة التي تدعي انها ديمقراطية فالرئيس ترامب مثلا صرح بأن الدولة العميقة تعارضه في أعقاب الانتخابات الرئاسية الصاخبة لعام 2016 ، وأشار إلى أن بعض مسؤولي السلطة التنفيذية وضباط المخابرات الذين لم يكشف عن أسمائهم كانوا يعملون سراً كدولة عميقة لعرقلة سياساته وأجندته التشريعية عن طريق تسريب معلومات تعتبر منتقدة له وأن أوباما أمر بالتنصت على هاتفه خلال الحملة الانتخابية لعام 2016.والرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، خلال الاجتماع الثاني الموسع مع محافظي الولايات الـ58 للجمهورية اتهم الدولة العميقة بقيادة "ثورة مضادة" وبدلا من سرد نماذج يتحدث أصحابها عن تغلغل الدولة العميقة في مفاصل الحكم وبقطع النظر عن التفسيرات والتأويلات التي يمكن ان نقدمها لمثل هذه الخطابات يمكن الاستئناس بالتجربة التركية في بناء الدولة الحديثة وكيفية التعامل مع الدولة العميقة وفضحها أمام الرأي العام التركي والعالمي وهي دراسة قام بها الدكتور كامل فتحي كامل وأشار فيها الى جملة من الخطوات ذكر منها ما يلي:

– التحصن بالدعم الشعبي:

يعتبر أن الخطوة الأولى لمواجهة الدولة العميقة هو وجود مساندة شعبية كبيرة لحكومة منتخبة، تثق الأغلبية في تستطيع تحقيق انجازات ملموسة على الأرض في حالة التمكين لها.

– تعديل مسار الاقتصاد:

كان للإنجازات الاقتصادية دور كبير في مساعدة أروجان على مواجهة الدولة العميقة فاستطاع في الفترة الاولى لرئاسته الحكومة (2002-2007م) تقوية الاقتصاد التركى, ورفع مستوى رفاهية الشعب التركى، وزيادة الدخل القومى التركى، فقد وصلت حكومة العدالة والتنمية إلى الحكم والبلاد تعاني من أزمة اقتصادية حادة، فقامت الحكومة بتغيير مجموعة من الافتراضات والمبادئ الأساسية التي اعتمد عليها صندوق النقد الدولي في وصْفته لعلاج الاقتصاد التركي، ووضعت نصب عينيها هدفًا يتمثل في أنْ تتجاوز معدّلات الاستثمار نسبة 30% من الناتج القومي الإجمالي، وحدّدت العديد من الإجراءات التي يتعين اتّخاذها لتحقيق هذا الهدف، منها)

1. زيادة التقشف وخفض النفقات.

2. جذب رؤوس الأموال الخارجية بشكل مباشر.

3. تأمين الطاقة وضمانها بأسعار اقتصادية على المستوى البعيد.

4. إصلاح التعليم المهني وحل مشكلة نقص الأيدي الماهرة، وتحسين بيئة العمل.

5. إصلاح الجهاز الإداري للدولة وضمان الشفافية والمراقبة والمحاسبة.

ونجحت حكومة العدالة والتنمية في تخفيض نسبة التضخم من 37% إلى 9% تقريبا وكذلك تخفيض نسبة الفائدة الحقيقية من 65% إلى 15% تقريبا، وارتفعت قيمة الليرة التركية, حيث راهنت حكومة حزب العدالة والتنمية على ذلك من خلال حذف ستة أصفار من الليرة التركية وادعت جميع الأحزاب الأخرى وجميع الصحف المساندة لها أن حزب العدالة لن ينجح في ذلك، ولكنه نجح وأصبحت الليرة التركية قريبة من الدولار الأمريكى ، كما كان متوسط دخل الفرد التركى عند مجىء الحزب إلى السلطة 2500 دولار تقريبا، وارتفع نتيجة التحسن الاقتصادى إلى 5500 دولار تقريبا، وزادت الصادرات التركية من 36 مليار دولار عند تسلمه الحكم إلى 95 مليارا، كما تم تخفيض ديون تركيا لدى صندوق النقد الدولى من 23 مليار دولار، إلى 9 مليارات فقط .

– محاربة الفساد:

شهدت الفترة التي سبقت وصول حزب العدالة والتنمية للسلطة أعمال فساد كبيرة في تركيا حيث قام العديد من السياسيين ورجال الأعمال بنهب البنوك الرسمية الحكومية, وفي بعض التقديرات يصل ما تم نهبه ما يزيد على 46 مليار دولار, تم تهريب معظمها للخارج, فجاء أردوغان ووضع يد الدولة على أملاك هؤلاء, وعلى بيوتهم ومصانعهم ويخوتهم وسياراتهم الفارهة وقدمهم للمحاكمة.

– التدرج وتجنب أسلوب الصدمات العنيفة:

استفاد حزب العدالة التركي من أخطاء الأحزاب الإسلامية التي سبقته، فتجنب الاصطدام بخصومه من العسكر والقوميين والعلمانيين والقضاء، فلم يتعرض في بداية عهده لقضايا خلافية شائكة كالهوية أو الحجاب أو العلمانية أو دور الجيش في السياسة، وإنما بدأ الحزب بتحقيق إنجازات تنموية أوجدت بدورها له شعبية جارفة ساندته في صراعه لاحقا مع أولئك الخصوم.

– الإصلاحات الدستورية والقضائية:

عملت حكومة العدالة والتنمية على إدخال مجموعة كبيرة من الإصلاحات الدستورية لتدعيم الديمقراطية والتخلص من المود التي أدخلها الجيش في دستور 1983 بعد الإنقلاب العسكري، والتي كانت تسبب عقبة في سبيلها وتركز التعديلات الدستورية على مسألتين أساسيتين، الأولى: إعادة هيكلة مؤسسات القضاء (زيادة عدد أعضاء المحكمة الدستورية من 11 إلى 17, وعدد أعضاء المجلس الأعلى للقضاء والمدعين العامين من 7 إلى 22), فضلا عن تغير آليات انتخاب كبار القضاة والمدعين العامين وطريقة تعينهم .

– تحجيم هيمنة العسكر

قام حزب العدالة والتنمية بإجراء تعديلات جوهرية في بنية المؤسسة العسكرية، ويمكن الإشارة في هذا السياق لما يلي:

– بالنسبة لمجلس الأمن القومي فقد تم تحويله إلى جهاز استشاري وذلك بتعديل المادّة (4) من القانون الخاص به لتقتصر مهامه على رسم سياسة الأمن الوطني وتطبيقها، وإخبار مجلس الوزراء بآرائه، ثم ينتظر ما يسند إليه من مهامّ ليقوم بتنفيذها ومتابعتها، كما عدلت المادة (5) ليصبح اجتماع المجلس مرة كل شهرين بدلاً من كل شهر، كما سلبت أمانته العامة دورها الرقابي ومبادرتها في إعداد قرارات مجلس الأمن القومي ووضع الخطط والمشروعات للوزارات والهيئات والمؤسّسات وذلك بتعديل المادة (13) لتصبح مهمة أمانته قاصرة على تنفيذ ما يكلفها به المجلس من مهام، كما تم إلغاء الفقرة الخاصّة بوجوب تعيين الأمين العام لمجلس الأمن القومي من أعضاء القوات المسلحة برتبة فريق من المادة (15) لتنص على إمكانية تولِّي شخصية مدنيّة منصب الأمين العام للمجلس، وبالفعل عين محمد البوجان في 17-8-2004، ليكون بذلك أول شخصية مدنية تتولى منصب الأمين العام لمجلس الأمن القومي. (

– أصبحت المؤسّسة العسكرية وكوادرها خاضعين لإشراف الجهاز المركزي للمحاسبات ومراقبته بعد تعديل المادة (30) من قانون الجهاز المحاسبي التي كانت تعفي الكوادر العسكريّة من الخضوع للرّقابة الماليّة.

– جعل المجلس الأعلى للتعليم واتحاد الإذاعة والتليفزيون مؤسستين مدنيتين دون وجود أيّ رقيب عسكري وذلك بإلغاء عضوية الجنرال العسكري داخل كل من مجلس إدارة المجلس الأعلى للتعليم، واتحاد الإذاعة والتلفزيون (المادة 131).

– السماح برفع الدعاوى القضائية لاستجواب الجنرالات القدامى ومقاضاتهم بشأن قضايا الفساد، وإلزام العسكريّين بالإدْلاء بالتّصريحات الإعلاميّة في المجالات التي تتناول الشّأن العسكري والأمني فقط، وتحت إشراف السلطة المدنية.

– قيام لجان من المجلس الوطني التركي الكبير ووزارة المالية بمراجعة نفقات المؤسّسة العسكرية، وهو ما لم يكن مسموحاً به من قبل، مع بقاء فقرات سرّية تعتبر من أسرار الدولة، وكذلك اختصاص المحاكم المدنية بمحاكمة العسكريين، بمن فيهم رئيس الأركان وقادة صنوف القوات المسلّحة.