كما في كل عام، يلتقي قادة ورؤساء حكومات العالم في نيويورك، على مدى أسبوع كامل، للمشاركة في أشغال الجمعية العامة للأمم المتحدة، غير أن هذا اللقاء قد فقد مظهره البناء، بعد أن تحول تدريجياً إلى استعراض تلفزيوني، لا تفوقه جماهيرية إلا دورة الألعاب الأولمبية، أو مباراة كأس العالم لكرة القدم. فقد تحولت هيئة الأمم المتحدة إلى أداة طيعة بيد الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية لتنفيذ سياساتها وأجنداتها الاستراتيجية واستنفار أجهزتها كالجمعية العامة ومجلس الأمن لإصدار القرارات التي تحقق لها مصالحها، ومن المعلوم أن الولايات المتحدة وحلفاءها الغربيين يرفضون النظر بجدوى هذا الاجتماع السنوي والدعوات الدولية المتزايدة للتخلص من طابعه الاستعراضي وليكون ذا جدوى وتصدر عنه قرارات تسهم في إنهاء حقب الهيمنة الغربية وحل القضايا والخلافات الدولية التي تتراكم مع مرور كل عام.

ففي أجواء دولية مشحونة، ينعقد الاجتماع السنوي للمرة الأولى حضوريا بعد سنتين من الغياب والاجتماع الافتراضي بسبب أزمة وباء كورونا. والسؤال الذي يطرح نفسه دائماً ما جدوى انعقاد هذه الدورة وغيرها من الدورات إذا كان العالم سيظل يدور في حلقة مفرغة من التكاذب والنفاق الأمريكي والغربي، وماذا باستطاعة الأمانة العامة للأمم المتحدة ممثلة بشخص أنطونيو غوتيريش أن تنجز من جدول الأعمال المقترح في ظل هذا الانقسام الدولي الحاصل، وأجزم أن أدوات الاستفهام الخمس، كيف، ومتى، وأين، ومن، ولماذا، تتربع على منصة مقر الأمم المتحدة في نيويورك، وفي أروقتها، وعلى مناضد الاستراحات، بل وازدادت حضورا بعد كلمة أمينها العام أنطونيو، الذي حذر خلال افتتاحه الدورة الـ77 للجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، من خطورة الانقسامات والعنف وأزمة غلاء المعيشة، مما ينذر بموجة من ''السخط العالمي''، معلنا أن العالم في ''ورطة كبيرة''. واعتبر غوتيريش أنَّ المجتمع الدولي ليس مستعدا أو راغبا في مواجهة التحديات الدراماتيكية الكبرى في العصر الحاضر، وأن الانقسامات الجيوسياسية تقوض عمل مجلس الأمن والقانون الدولي.

وبكل هدوء نتساءل: ما عسى العالم كله ينتظر من مؤسسات دولية تدّعي أنها المرجع الوحيد والأعلى والأسلم للعالم بأسره، فيما هي عاجزة وباتت تفعل على نطاق العالم، تماماً عكس ما قامت من أجله، من حيث توفير الأمن والغذاء والعدالة والسلام لكل إنسان على وجه الأرض؟ وبشيء من اللغة الإحصائية إليكم الهوامش الآتية: الحرب في أوكرانيا، ارتفاع أسعار الغذاء، النَّقص الحادِّ في السِّلع الأساسية، انعدام الأمن الغذائي، أزمة الطاقة المتفاقمة، إفلاس الطبيعة، استمرار التدهور البيئي وتوابعه المناخية، المجاعات، الخصومات التجارية، الترامي بالعقوبات على حساب حقوق الشعوب، تذبذب فرص التنمية المستدامة، النقص في احترام الالتزامات الناشئة عن الصكوك والاتفاقيات والمعاهدات الدولية، المشكلة العنصرية بشبكتها المزمنة، قضايا النازحين والمهاجرين واللاجئين حول العالم الذين يقدر عددهم الآن بأكثر من ستين مليون، الفساد المستشري في أغلب أنشطتها الإغاثية، التدخل السافر بشؤون دول ومس سيادتها، حضورها الواهن من خلال مبعوثين لها لإطفاء خصومات وحروب دموية شائكة. وبتقريب التشخيص أكثر، لنا أن نسأل عن عدد مبعوثيها إلى سوريا، وعددهم إلى اليمن، وإلى ليبيا، و… مع ملاحظة أن حصة المنطقة العربية من هؤلاء المبعوثين هي الأكبر منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وعلى رأس القائمة يأسها من وضع حد للصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي بالرغم من 300 قرار دولي لصالح حقوق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير.

الثابت لدينا، أنّ بعد 77 عاماً، لا تزال منظمة الأمم المتحدة ومؤسساتها، عاجزة عن حل أي من القضايا والأزمات والحروب نتيجة التبعية والتدخلات الأمريكية المباشرة في تشكيل وصياغة وطرح القرارات الدولية. لقد تحولت هيئة الأمم المتحدة إلى مطية للدول الغربية التي يستقوي بها بحق النقض الفيتو، مضافاً إليه موقف الولايات المتحدة التي حولتها إلى مزرعة تحاول أن تديرها كما لو أنها فناؤها الخلفي، ولم تكن إلا من أجل أن تضفي على القرارات الأمريكية العدوانية صفة الشرعية الدولية، وبعد ذلك لا يهم ما تقوم به. ومن يتابع ويرصد القرارات التي صدرت عن الأمم المتحدة بجميع فروعها، من مجلس الأمن إلى غيره يجد أن الإصبع الأميركي كانت وراء القسم الكبير منها، وإن ما لا يخدم المصلحة الأميركية، والدول الغربية وإسرائيل، يبقى حبراً على ورق، بل مجرد قرارات للاستهلاك المحلي وليس العالمي.

لم تكن الأمم المتحدة على امتداد سنيها كياناً يصلح لفض الصراعات أو لإيصال الحقوق لأصحابها، كانت فقط منبراً تشرح من عليه المظالم ومتنفساً يعمد من خلاله ''المظلومون'' إلى المطالبة برد الظلم عنهم، فقرارات الجمعية العامة، التي وصل عديد أعضائها بعيد تفكك الاتحاد السوفييتي العام 1991 إلى 193 دولة، غير ملزمة وهي لا تعدو أن تكون أكثر من ''صكوك ملكية'' ستجد طريقها إلى أرشيف بات متخماً بنظائرها بانتظار أن تتغير المعطيات، أو التوازنات، التي تجعل من نفاذها أمراً ممكناً، بل حتى ولو قدر لتلك القرارات أن تصدر عن وليدها المصغر الذي يطلق عليه اسم مجلس الأمن، والذي جاء في تكوينه تعبيراً عن سطوة المنتصرين في الحرب العالمية الثانية التي سبقت خروجه إلى الوجود، فإن ذلك لا يعني بالضرورة أن تصبح تلك القرارات نافذة، فالأمر، أي وضع القرارات موضع التنفيذ من عدمه، يبقى رهين التوافقات وتلاقي المصالح، أو رهين التوازنات القائمة. للأسف اليوم نشاطات الأمم المتحدة تترنح بين الصعوبة والفشل، وتتأسس لهاتين الحالتين امتدادات واضحة في حركتها الدولية، والحال أن مَن قال ذلك، ليسوا باحثين متابعين لشؤونها، بل صدر الاعتراف عن رأس الهرم الوظيفي فيها، أعني أمينها العام أنطونيو جوتيريش، الذي اعترف أنّ ''مشكلة الأمم المتحدة تكمن في أن الدول التي تؤمن بدور المنظمة، وحريصة على تمكينها من مواجهة المعضلات التي يعاني منها العالم لا تملك أنيابا...''

اليوم يمكن القول إن الأمم المتحدة تجتاز مرحلة انتقالية وكما يؤكد الخبراء فإن تحولات فترة الانتقال تجري بصورة متسارعة وتغطي مختلف نواحي العلاقات بين الدول والشعوب، وبين الشمال والجنوب وبين السلام والاحتكام للقوة... لذا فإن إجماعاً عالمياً يكاد يتوافر حول الحاجة الملحة إلى إصلاح هذه المنظمة، ومن حسن حظ الأسرة الدولية أن دعوات إصلاح الأمم المتحدة برزت بقوة الآن، وكثر الحديث عن ضرورة إصلاحها وأن تعود إلى ممارسة دورها الذي تم على أساسه إنشاؤها، وهو دور نبيل وحقيقي إذا ما تم العمل على تفعيله، ولكن هل للدول الغربية مصلحة بذلك؟ بالتأكيد: لا، ولكن هل يجب على العالم أن يظل رهين التبعية الغربية والمواقف التي تزعزع السلم والأمن العالميين؟

اليوم تزداد الدعوات حول الحاجة إلى تطوير هذه المنظمة الدولية في وقت تسعى فيه الولايات المتحدة الأمريكية إلى إضعاف دورها، سواء في مجال تسوية الصراعات أو في مجال التعاون الاقتصادي والعلاقات بين الدول غنيها وفقيرها ومعالجة مشكلات البشرية من فقر وجوع... حيث يظهر عجز الأمم المتحدة في أداء منظماتها المختلفة وخصوصاً في التعامل مع قضايا الأمن والسلم الدوليين بسبب محاولات واشنطن التحكم في أداء الأمم المتحدة. إن نجاح الأمم المتحدة مرهون بأفعال أعضائها التي تحكم على مدى الالتزام بالروح الحقيقية لميثاق المنظمة ولشعارها: "نحن شعوب الأمم المتحدة" وإلا فانه سيبقى العالم أسير احتفاليات إحياء الذكريات، بينما تطبق بعض الحكومات شعارها الخاص ألا وهو "نحن الحكومات المانحة التي تملك النفوذ الاقتصادي والسياسي والقوة العسكرية" حينها لن يستطيع العالم أن يقف في مواجهة مجرى الأحداث وتداعياتها على دوله وشعوبه، والتي ستؤدي بمنظمة الأمم المتحدة إلى ذات مصير عصبة الأمم التي انتهت إلى حرب عالمية ثانية.

الآن يجب التذكير في هذه الظروف بالدعوات الملحة والمتكررة إلى تطوير الأمم المتحدة، وهي تدخل مرحلة جديدة جراء الراهن وما يكتنفه من واقع غامض يتطلب التكاتف الإنساني، فهناك حاجة إلى إعادة التفكير في عمل هذه المنظمة والأدوار التي تقوم بها كذلك كيف بالإمكان أن تنهض بالواجبات في مرحلة جديدة من التاريخ البشري. وإذا كان لمنظمة الأمم المتحدة أن تستعيد هيبتها ودورها في توطين أسس الاستقرار والسلام في العالم، وأن تسترد حيادها وتحتكم لنزاهتها وتنفذ قراراتها وتعمم نموذجها في العدالة والإنصاف، فإن على القادة والزعماء الملتئمين تحت لوائها اليوم أن ينتصروا لها كهيئة دولية جامعة لا كملعب لتبادل الكرات وممارسة التحيز وغسيل المواقف والأهداف السياسية القذرة، وأن يجعلوها أكثر قدرة على المواءمة مع ما يشهده العالم من متغيرات تبشر باقتراب إقصاء مغتصبيها وآسريها والخارجين عن ميثاقها؟

على هذا الأساس أطالب كل المعنيين بالسلم والأمن الدوليين ضرورة إعادة النظر في ميثاق الأمم المتحدة ومدى مطابقته للواقع، ثم ضرورة البحث عن طرق وأساليب جديدة لتحقيق الأمن والسلم الدوليين تساهم في حل جملة التناقضات التي تحيط بالواقع العالمي قديمها وما ترتب عليها من حديث وما هو مستجد منها أيضاً أو يمكن أن يستجد، انطلاقاً من مصالح الإنسان، وتحقيقاً لعودة كل ما فقده من شروط إنسانيته المضاعة تاريخياً. إن ما أدعو إليه وأطالب به يعد أمراً مشروعاً، بيد أن المشكل الأساس يقع في كيفية إعادة صياغة جديدة لمنظمة الأمم المتحدة بحيث لا يعود مجلس الأمن هو المؤسسة الوحيدة المتحكمة بمصير حركة وتشكل مسار العالم من جهة، وأن لا يبقى هناك من يمتلك حق النقض، بإسم الديمقراطية، قادراً من خلاله أن يفشل أي قرار يتخذه مجلس الأمن ذاته عندما يشعر من يمتلك حق النقض أن القرار المتخذ لا يخدم مصالحه.‏‏