تشهد الفضائيات العربية في هذا الشهر المبارك، تنافساً محموماً وصراعاً قوياً في الاستحواذ على ساعات العرض، أما أبطال هذه المنافسة ودون منازع فهي المسلسلات التركية المدبلجة التي كثرت وتنوعت وتجذرت وتجزأت، فبات للمسلسل الواحد بدلاً من الجزء أجزاء... فمع صعود العثمانية الإخونجية الجديدة على يد أردوغان، عمدت تركيا إلى استخدام (إبداع الفنون الدرامية) للترويج لتركيا ونشر قيم وتقاليد المجتمع التركي المتناقض "العلماني" من جهة و "الإخواني" من جهة أخرى! فالدراما التركية ومن خلال ما قدمته حققت رافداً مهماً في القوة الناعمة التركية، عن طريق القضايا الاجتماعية التي طرحتها المسلسلات التركية بعد ما سمي بـــ"الربيع العربي" ثم اتجهت نحو استراتيجية القوة الذكية، وهي عملية دمجٍ دقيقة بين القوة الناعمة، والقوة الصلبة.

لقد استخدمت تركيا موارد الدولة من ثقافة، وطبيعة وإرث تاريخي، وحولتها إلى قوة ناعمة كي تجعل من نفوذها السياسي منجزا واقعيا، وفي هذا السياق، قال وزير الثقافة التركي السابق عمر جيليك، في تصريحات صحفية "إن أرباح تركيا من الدراما التلفزيونية تلعب دوراً رئيسياً في التمكن من "القوة الناعمة" داخل المنطقة". أما الوزير التركي لشؤون الاتحاد الأوروبي السابق إغجمن باغيش، فقد صرح قائلا: إن تركيا تستخدم الدراما كحجر أساس في قوتها الناعمة (وهو مفهوم صاغه جوزيف ناي، الأستاذ في جامعة هارفارد الأمريكية لوصف القدرة على الجذب والضم دون الإكراه أو استخدام القوة كوسيلة للإقناع". لهذا حرصت تركيا على استخدام القوة الناعمة، في سبيل التفكير عبر ماضيها الامبراطوري، وحاضرها الإقليمي، وتسعى للعب نفس الدور عبر الترويج لنموذج الإسلام الديمقراطي، بحشوة القومية التركية ومجد "الخلافة العثمانية"، من منطلق التعامل مع الشرق باعتباره الإرث الضائع لتركيا الجديدة... فقد نجحت في تصدير أكثر من 15 عملا دراميا لمنطقة الشرق الأوسط وأمريكا اللاتينية أشهرها (إكليل الورد) و(سنوات الضياع) و(حريم السلطان) و(قيامة أرطغرل) حصدت من خلالها أكثر من 400 مليون مشاهد، وأكثر من 600 مليون دولار.

وثمة حقيقة ثابتة، أنّ الدراما التركية أخذت حيزاً كبيراً في بث القنوات الفضائية العربية، وبالتالي دخلت إلى المجتمعات العربية وحققت أعلى معدلات المشاهدة، واعتمدت في هذا الجذب ـ أي الدراما التركية ـ على مجموعة من العوامل منها إبهار المشاهد من خلال الموضة التركية، حيث أنعشت الدراما التركية سوق الملابس الجاهزة والإكسسوارات والحلي التركية، واخترقت الأسواق العربية بشكل ملفت بالتزامن مع الغزو الدرامي، ولم يقف التأثر العربي بالدراما التركية في تقليد الموضة فحسب، بل امتد الأمر إلى الاهتمام بشراء الأثاث وديكورات المنازل حسبما يتم تداولها في الأعمال الفنية، ما أثر بشكل كبير على أسواق المفروشات وأصبح شكل الأثاث مطلوب بالنسبة للمستهلك العربي، ما انعكس على صناعة الأثاث ولاسيما في مصر وسورية...، كذلك استخدمت الطبيعة وتنوع المشاهد في تركيا واعتمدت على طبيعة خلابة تجمع بين الغابات والأنهار والشواطئ بالإضافة إلى الأماكن التاريخية، وبالتالي فقد ساهمت الدراما التركية في زيادة أعداد السياح الوافدين من الدول العربية إلى أضعاف ما كانت عليه، وساهمت في إحياء تاريخ الدولة العثمانية لدى شرائح واسعة، إضافة إلى أن البعض أشار إلى موضوع الحبكة الدرامية في تلك المسلسلات، والإخراج المميز فضلاً عن أن الممثلين يتمتعون بالوسامة من كلا الجنسين، كل هذا التنوع جعل للدراما التركية مكاناً كبيراً في قلوب المشاهدين العرب.

وللأسف المأسوف على شبابه، انساقت الفضائيات العربية وراء هذه الدراما، وأصبحت قنواتنا تعج بمسلسلات الدراما التركية التي تقدم المشاهد الفاضحة والخادشة للحياء، وممارسات غير أخلاقية ولا مقبولة ولا تتناسب مع قيمنا ولا تنسجم مع مفاهيمنا. فلا عاداتهم تشبه عاداتنا، ولا تقاليدهم تشبه تقاليدنا، مسلسلات دخيلة علينا جملة وتفصيلاً... مسلسلات تركية لتدس لنا السم بالعسل، وتناقش القضايا المهمة بأساليب مراهقة متهتكة، سلبت عقول الشباب من الجنسين، وانحدرت بقيمهم نحو الهاوية بما تعرضه وتطرحه من مشاهد غرامية مبتذلة، كعلاقة الفتاة المراهقة مع سائق العائلة، أو تلك الفتاة الأخرى التي تضاجع أصحابها في الجامعة، وتمارس معهم الزنى بالتناوب بعلم أهلها تمهيداً لاختيار شريك حياتها المثالي! والاقتران به بعد اجتيازه اختبارات المعاشرة السريرية بمباركة ورعاية أقطاب العائلة الموقرة!

وبالرغم من الانتشار الكبير للدراما التركية، لكن هناك أصوات رافضة لهذه الدراما سواء في المنطقة العربية أم مناطق مختلفة في العالم، ولا نبالغ حين نقول إن المسلسلات المدبلجة أحدثت ارتجاجاً ما في مفهوم العلاقات الأسرية، وفي هذا السياق قالت وزيرة الدولة التركية لشؤون الأسرة والطفل السابق، سلمى عليا كفاف، أن "هذه المسلسلات تقدم صورة غير مشرفة عن الثقافة التركية، فالكثير منها يبيح العلاقات الحميمية خارج إطار مؤسسة الزواج". أما الباحث التركي، في مجال العلوم السياسية والعلاقات الدولية، جلال سلمي، قال في مقال له "إن الإعلام أحد أهم أسلحة القوة الناعمة، إذ أنه مؤثر إلى درجة جعلته يصفه بـ"دين الناس". وأوضح الباحث أن تركيا عملت على استخدام هذا السلاح بشكل احترافي، إذ أن هذه  المسلسلات لها تأثير قوي في جذب جميع المشاهدين لزيارة تركيا للسياحة واستهلاك البضائع التركية لأن منتجيها أناس جاذبون بالنسبة لهم. واعتبر سلمي أن تلك الأسلحة الناعمة لها تأثير قوي على مشاعر مواطني الدول الأخرى، ما جعل تركيا أقل انغلاقا من السابق. وعزا الباحث كون تركيا القوة الاقتصادية الـ19 في العالم بعدما كانت في المرتبة الـ30، إلى المردود الذي تحققه من السياحة والتجارة عن طريق الدراما.

لا يمكن أن ننكر، أنّ الدراما التركية شكلت أداة تم من خلالها تحقيق غرس ثقافي بالنسبة للجمهور العربي، ولم تكن مجرد دراما تعرض من أجل الترفيه أو المردود المادي فقط، بل كان هناك أهداف فكرية وسياسية واجتماعية وثقافية وغيرها، حيث تم عرض بعض المسلسلات التي نشرت مفاهيم لم تكن مطروحة سابقا ضمن الدراما العربية ولا تتناسب مع المجتمعات العربية وبالأخص علاقات المحارم من جهة، والعنف اللامحدود من جهة أخرى، كذلك الأمر بالنسبة إلى نشر توجهات سياسية معينة، بالإضافة إلى المسلسلات التاريخية التي تحدثت عن التاريخ القديم للدولة العثمانية، وفق وجهة النظر التركية فقط، وإظهار القادة الأتراك على أنهم قادة من الطراز الرفيع.
وما يدعو للغثيان، أنّ قنوات فضائياتنا العربية تنقل إلينا عبر الدراما التركية، قيماً كثيرة خارجة عن المألوف لدينا من عادات وتقاليد، ومن الأولى أن نتحدث عن أهمها كقيمة الحب الخاطئ، فالإعلام مؤثر جداً في متابعيه، ويرسخ القيمة التي توجَّه إلى المشاهد مهما كانت غريبة عنه، وكل ذلك مع مرور الوقت طبعاً، فالحب في مجتمعنا العربي يؤدي إلى نتيجة معروفة هي الزواج غالباً، أما الحب لديهم فقد يؤدي مثلاً إلى الحمل والولادة ثم حالة من الندم تكتنف الأب فيعود لعائلته التي شكلها بداية وهكذا... وهذا النوع من العادات غير موجودة لدينا بهذا الشكل السافر والفاضح أبداً. وهنا لا بد لنا من التأكيد على فكرة التكريس المؤذية ''تكريس الفكرة الخطأ'' وخصوصاً في موضوع الحمل غير الشرعي الذي تتعرض له الفتاة من قبل الصديق أو المعجب أو البطل... والتي تؤثر على محبي الدراما التركية بصورة سلبية بخاصة الجيل الصاعد والأطفال، فردّة فعل الأهل غالباً غير منطقية إذا ما قارنّا الموضوع نفسه في سياق عاداتنا وتقاليدنا العربية، فهم يقدمون مجموعة من الحلول للمتلقي من دون أن يدرك ذلك، وستكون مؤثرة في لا شعوره لتولد حالة سلبية ضمن المستقبل القريب.
وبكل أمانة وتجرد أعترف، أنه لا يوجد في العالم حرص على بثّ (القيم) المنحطة والمنحلة يقارب حرص مجموعة من القنوات العربية، على تبنّي قيم المسلسلات التركية الدنيئة والمريبة، وبثها على مدار اليوم، ويتكرر بث المادّة الواحدة مرات عديدة خلال الشهر الواحد، أو الأسبوع الواحد، ولا يرجع سبب التكرار إلى عجز مالي يمنع هذه القنوات من شراء المسلسلات الجديدة، بل يرجع أساساً إلى محاولات ترسيخ تلك القيم، والإلحاح على تجذيرها في الأذهان، بوصف التجذير وظيفة من أبرز وظائف التكرار. قنواتنا الفضائية العربية، تنتقي بعناية فائقة المسلسلات التركية التي تعرضها، وتتعرض للطبقة المخملية الثرية جداً، فكل المشاهد تعرض أجواء الرفاهية، بينما تتناسى أنّ المجتمع التركي يضمّ طبقات متنوعة ما بين المتوسطة والفقيرة والمخملية. فالنخبة التي يصورها المسلسل بهذه الطريقة تؤدي إلى التأثير على الناس البسطاء، وهنا تكمن الخطورة أكثر لأن الإنسان عندما لا يتمكن من تحقيق متطلباته سيلجأ إلى إجراء سلبي فتسوّل له نفسه إلى ارتكاب فعل السرقة أو القتل مثلاً، ويبدو أن التكرار الذي نلاحظه على مدار 150 حلقة أو أكثر مع الحفاظ على عدم ملل المشاهد سيفضي إلى الخطر الذي أشير إليه، وبمرور 5 أو 6 أشهر على متابعة المسلسل الواحد منها سيعتقد أنه يعيش حالة صحية وسليمة متوهماً ذلك.

خلاصة الكلام: إننا بأمس الحاجة للتصدي لهذا الغزو الفكري التخريبي الكاسح الذي تتعمد بعض القنوات العربية تقديمه وتصديره إلى بلداننا، وصار لزاماً علينا الدعوة لتطبيق الإجراءات الاحترازية الصارمة، وأن نكرس جهدنا نحو الارتقاء بمستويات الوعي والإدراك عند أفراد الأسرة، وتحذيرهم من مخاطر هذه المسلسلات المبتذلة والسخيفة، للوقوف بوجه هذا المد الفضائي المفسد، وبخاصة أن الشريحة المثقفة قصرت في فضح هذه الغزوة التركية، في وقت تقوم فيه العديد من القنوات العربية الانتهازية بتقديم دعاية مجانية لنشر النفوذ التركي السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي على الوطن العربي.

كاتب صحافي من المغرب.