في 17 فبراير من العام 2011، كانت ليبيا على موعد مع مرحلة صعبة من تاريخها، مرحلة أخرجتها من طور الأمن والاستقرار لتلقى بها في غياهب الفوضى، حين تدخلت قوات الناتو مدعومة من الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا لإسقاط نظام العقيد الراحل معمر القذافي واغتيال الاستقرار والأمن في هذا البلد العربي الغني بموارد الطاقة النفط والغاز، وأحدث هذا التدخل فراغا سياسيا وأمنيا في البلاد عانت منه ليبيا ولازالت تعاني.

وتسارعت محاولات سد الفراغ السياسي الذي أحدثه اسقاط النظام في ليبيا وتعاقبت على البلد النفطي عدة حكومات كان مآلها الفشل والعجز. فعقب   رحيل الزعيم الليبي معمر القذافي، شكل المجلس الوطني الانتقالي، في تشرين الأول / أكتوبر 2011 لتولى إدارة شؤون البلاد، ولكنه لم يتمكن من بسط سيطرته على الميليشيات المسلحة المتعددة التي نشطت في ظل الفوضى التي عصفت بالبلاد وباتت تحكم سيطرتها على عدة مناطق.

تم تشكيل حكومة محمود جبريل في 23 مارس 2011 الذي استقال من منصبه بعد ازدياد الانتقادات ضده.وأعقبها تكليف علي الترهوني بتشكيل حكومة في 23 أكتوبر 2011 واستمرت حتى 24 نوفمبر 2011.وتبعها اختيار عبدالرحيم الكيب لتشكيل حكومة انتقالية في 24 نوفمبر 2011 واستمرت حتى 8 أغسطس 2012، وكون الكيب برلمان انتقالي وهو المؤتمر الوطني العام، ضم 200 عضو، وفقا لخريطة الطريق الموضوعة من قبل المجلس الانتقالي.

وفي آب/ أغسطس 2012، سلم المجلس السلطة للمؤتمر الوطني العام الذي قام بتكليف مصطفى أبو شاقور، ولكنه فشل في تشكيل حكومة مؤقتة، وانتخب المؤتمر علي زيدان الذي تمكن من تشكيل حكومة وفاق وطني، ضمت 27 وزارة واستمرت حتى 11 مارس 2011.


وفي الأثناء تمكّن تيار الاسلام السياسي من جميع مفاصل البلاد، وانتشرت الميلشيات المحسوبة على الإسلاميين في مختلف مدن البلاد تحت مسميات الدروع بغطاء رسمي من المؤتمر الوطني العام الذي تمكّن التيار الإسلامي من السيطرة عليه بفعل قانون العزل السياسي الذي أقرّ تحت قوّة السلاح وحصار الميليشيات لمقر المؤتمر.

وشكلت جماعة الإخوان في 5 مارس 2012،  حزبًا سياسيًا باسم "العدالة والبناء"،  وذلك بعد ستة عقود كانوا يعملون خلالها في سرية تامة،   أثناء نظام الزعيم الراحل معمر القذافي،   وقد تم إنشاؤه في ظل غياب القوانين بطرح عملية رسمية لإنشاء الأحزاب السياسية،  وقد مثّلت الجماعة في أكثر من 18 مدينة في جميع أنحاء البلاد. واختاروا محمد صوان رئيسًا للحزب،   وهو مواطن من مدينة مصراته، ونجحت جماعة الإخوان بليبيا،  في التمكين من المؤسسات السيادية في الدولة،  بداية من الحكومة،  ومرورًا بمصرف ليبيا المركزي،  وباقي مراكز المال الأخرى.

وفى محاولة من الإخوان لإفشال حكومة على زيدان، التي شُكلت عقب حل المجلس الانتقالي الليبي، أعلن حزب العدالة والبناء الإسلامي،  الذراع السياسية للجماعة بليبيا، سحب وزرائه من الحكومة الليبية، وحاول الإخوان لأكثر من مرة أن يدفعوا حكومة زيدان إلى الاستقالة سواء من بوابة المؤتمر الوطني، أو من خلال الضغوط الميدانية وتحريك أذرعهم العسكرية وميليشياتهم.


وسرعان ما أطاح إخوان ليبيا برئيس الوزراء، بعد خطفه والتنكيل به وكان القرار من المؤتمر الوطني العام الواجهة الحقيقية لجماعة الإخوان وهو سحب الثقة من رئيس الوزراء الليبي السابق علي زيدان،  حيث تمكن من الفرار إلى ألمانيا قبل أن يصدر قرار من النيابة العامة بالقبض عليه. وفي أول تصريحات له بعد هروبه،  اتهم علي زيدان جماعة الإخوان في ليبيا بأنها وراء قرار سحب الثقة من حكومته وعرقلة عمله.

المشهد في ليبيا سرعان ما اختلف عما كان عليه في 2012، فعلى الصعيد السياسي خسر الإسلاميون انتخابات العام 2014 بالضربة القاضية، رغم الإمكانات المرصودة لهم إعلاميا وماليا وأمنيا،  ما دفع بهم إلى الانقلاب على النتيجة من خلال الحرب الأهلية المعلنة من قبل مليشيات "فجر ليبيا"،  والتي أدت إلى ترحيل البرلمان إلى مدينة طبرق في شرق البلاد.

وسيطرت ميليشيات فجر ليبيا على العاصمة الليبية في أغسطس 2014، وانضمت إليها العديد من الميليشيات الأخرى مثل ميليشيات طرابلس، وتشكيلات من مقاتلين قبليين مثل الأمازيغ، وميليشيات مدعومة من تنظيمات الإخوان. وأتاحت هذه القوة لميليشيات مصراتة فرصة السيطرة على عدد من المدن فى الغرب وحتى الحدود التونسية، بما فى ذلك مناطق القبائل الأمازيغية. كما سيطرت قوات فجر ليبيا والميليشيات المتحالفة معها على نفوذ فى بعض مناطق الجنوب فى فزان.

شكّل المؤتمر الوطني العام الليبي حكومة "الانقاذ" في أغسطس/آب 2014 ومقرها في طرابلس، ولم تنل الاعتراف الدولي،وترأسها عمر الحاسي، من سبتمبر 2014 واستقال في أبريل 2015، ثم ترأسها خليفة الغويل،الذي كان النائب الثاني في حكومة الإنقاذ. وسيطرت هذه الحكومة على مناطق واسعة من غربي وجنوبي ليبيا خلال 2015. فيما انبثقت الحكومة المؤقتة عن برلمان طبرق في سبتمبر/أيلول 2014، واتخذت مدينة البيضاء شرقي ليبيا مقرا لها، ويترأسها عبد الله الثني.

دخلت البلد في أعقاب ذلك في انقسامات وصراعات تخللتها محاولات لتشكيل حكومة وحدة في ليبيا. وبعد عام من المباحثات للتوصل إلى حل لوقف النزاع الدائر بين حكومتي طرابلس وطبرق، تشكلت حكومة الوفاق الوطني بموجب اتفاق سلام وقعه برلمانيون ليبيون في ديسمبر/كانون الأول 2015 برعاية الأمم المتحدة، واختار تشكيلتها المجلس الرئاسي الليبي، وهو مجلس منبثق عن الاتفاق ذاته ويضم تسعة أعضاء يمثلون مناطق ليبية مختلفة. وسلمت بعثة الأمم المتحدة أطراف النزاع الليبي في 22 أيلول/سبتمبر نسخة الاتفاق السياسي النهائية بما فيها الملاحق، موضحة أنه "الخيار الوحيد" أمام الليبيين كي لا تسقط البلاد في فراغ سياسي ومصير مجهول.

وفي 19 يناير 2016، قدم رئيس حكومة الوفاق فائز السراج تشكيلته الأولى وتضم 32 وزارة. لكن مجلس النواب الليبي بطبرق(شرق)، رفض يوم 25 يناير/كانون ثان ، التشكيلة التي تقدم بها السراج، مطالبًا إياه بتقديم تشكيلة جديدة مصغرة خلال عشرة أيام من تاريخ الرفض. وأبدى 97 نائبا في مجلس النواب الليبي في طبرق رفضهم لحكومة الوفاق مقررين إلغاء المادة الثامنة من الاتفاق السياسي. وتقضي المادة الثامنة من الاتفاق بنقل كافة صلاحيات المناصب العسكرية والمدنية والأمنية المنصوص عليها في القوانين الليبية إلى مجلس الوزراء فور توقيع الاتفاق.

وسرعان ما أعلن المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني الليبية، عن التوصل إلى تشكيلة حكومة وفاق، مكونة من 18 وزيراً. وفي مؤتمر صحفي، عُقد في وقت متأخر من مساء الأحد 14 فبراير 2016، بمدينة الصخيرات المغربية، قال فتحي المجبري، الناطق الرسمي باسم المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني، إنه تم التوصل إلى تشكيل حكومة وفاق ليبية، مكونة من 18 وزيراً، بعد مشاورات للمجلس الرئاسي.

وفي مؤتمر صحفي بالصخيرات، قال السراج عند إعلان التشكيلة الوزارية الجديدة، إنه روعي في تشكيلها الكفاءة والخبرة والتوزيع الجغرافي والطيف السياسي ومكونات المجتمع ومشاركة المرأة، داعيا مجلس النواب إلى استشعاره خطورة المرحلة ومنح الثقة للحكومة الجديدة كي تباشر عملها.

وبعد حالة من الجدل غير المسبوق ما بين منح الثقة لحكومة الوفاق الليبية برئاسة فايز السراج من عدمه، قرر الأخير تجاهل الأطراف المتنازعة على السلطة، وبدأ مباشرة عمله من العاصمة طرابلس رغم تحذيرات خليفة الغويل من الدخول لطرابلس دون منحها الثقة من قبل البرلمان الليبي المعترف به دوليًّا وكذلك المؤتمر الموازي في طرابلس. واعتمد السراج على دعم المجتمع الدولي حيث وصلت حكومته في 30 آذار/مارس عن طريق البحر، واستقرت في القاعدة البحرية في المدينة.

وبعد شهرين من دخولها العاصمة، أعلنت حكومة الوفاق، عن تشكيل قوة من الجيش والشرطة باسم "جهاز الحرس الرئاسي"، لتدخل عقب ذلك في مواجهات عنيفة مع حكومة الإنقاذ التي أعلنت بدورها عن تأسيس قوة مسلحة تحمل اسم "الحرس الوطني". وتواصلت الإشتباكات إلى أن تمكنت حكومة الوفاق، في مارس 2017، من طرد المليشيات المناوئة لها، لكنها رغم ذلك لم تستطع بسط سيطرتها.


رغم التأييد الدولي الواسع الذي رافق وصولها الى العاصمة الليبية العام 2016، ورغم بعض المكاسب التي حققتها وأهمها نجاحها في تحرير سرت من تنظيم "داعش"، إلا أن حكومة السراج لم تستطع حل أزمات البلاد وإنهاء حالة الانقسام الموجودة إضافة إلى فشلها في احتواء المليشيات المسلحة المنتشرة خاصة في العاصمة وفي بسط سلطتها على كل البلاد.

فمنذ وصولها إلى طرابلس، لم تنجح حكومة الوفاق في وقف الإشتباكات المتكررة التي حصدت أرواح الكثيرين، ناهيك عن الخسائر المادية الكبيرة. وخضعت حكومة السراج لسلطة المليشيات التي وصفها بحث لمركز "سمال آرمز سيرفي" للدراسات، "بكارتل طرابلس". وحسب المركز، فإن "كارتل طرابلس" أصبحت شبكة إجرامية تضم ميليشيات أهمها ما يعرف باسم "قوة الردع الخاصة" بقيادة عبد الرؤوف كارة، و"كتيبة ثوار طرابلس" بقيادة هيثم التاجوري، و"كتيبة أبوسليم" التي يتزعمها "اغنيوة"، بالإضافة إلى "كتيبة النواصي" بزعامة على قدور.

وقالت مؤسسة "سمال آرمز سيرفي" إن هذه المليشيات استطاعت "خرق بيروقراطية الدولة ومؤسساتها"، مضيفة أن "حكومة السراج شرعنت هذه المليشيات ودفعت لها الرواتب من أجل شراء الولاءات". وكشفت الدراسة عن وجود مسؤولين في الحكومات المتعاقبة بعد أحداث 2011 دفعوا رواتب لهذه المليشيات، وعلى رأسهم وزير الدفاع الاسبق أسامة الجويلي، وعضو الجماعة الاسلامية الليبية المقاتلة الصديق الغيثي، ووزير الداخلية الاسبق فوزي عبد العال، وعضو جماعة الإخوان عمر الخضراوي.

ولم تكتفي حكومة الوفاق بالخضوع للمليشيات بل عملت على فتح الباب أمام التدخلات الخارجية وعلى رأسها التدخل التركي الذي دفع خلال الأشهر الماضية بآلاف المرتزقة والارهابيين الموالين لأنقرة الى الأراضي الليبية لدعم حكومة السراج في حربها ضد الجيش الوطني الليبي الذي تقدم في الرابع من أبريل/نيسان 2020 نحو العاصمة لتحريرها من سطوة المليشيات.

وأبرمت حكومة السراج مع تركيا في نوفمبر/تشرين الثاني، مذكرة تعاون تسمح لانقرة بدعم الميليشيات والمجموعات المسلحة المرتبطة بالوفاق كما تسمح لتركيا بالتنقيب على النفط والغاز شرق المتوسط وقرب السواحل الليبية.واعتبر مراقبون الاتفاقية هدية من حكومة السراج لنظام اردوغان  الذي يعاني ازمة اقتصادية خانقة مقابل تقديم دعم عسكري متواصل بالأسلحة والمرتزقة.

ومع تواصل عجز حكومة الوفاق عن بسط سيطرتها الأمنية ومعالجة الأزمات الاقتصادية، باتت في مرمى الغضب الشعبي الذي تمثل في خروج مظاهرات متكررة احتجاجًا على تردي الأوضاع الأمنية والمعيشية،وتصاعد الفساد وتغول الميليشيات وانتشار المرتزقة والارهابيين.ورفع المحتجون شعارات تطالب بإسقاط رئيس المجلس الرئاسي فائز السراج.

من جهة أخرى، تزايد تصدع حكومة الوفاق في ظل الصراع الكبير داخلها والذي كانت آخر فصوله بين رئيس المجلس الرئاسي فائز السراج ووزير داخليته فتحي باشاغا. وتعتبر هذه التصدعات قديمة حيث تعددت الاستقالات في صفوف حكومة السراج على غرار استقالة عضو المجلس الرئاسي الليبي فتحي المجبري والتي سبقتها استقالات كل من علي القطراني (شرق) ثم تبعه النائب علي الأسود من الزنتان (غرب) والنائب موسى الكوني (جنوب)

وفي ظل استمرار حالة الانقسامات والصراعات التي تغذيها التدخلات الخارجية تتواصل المساعي الدولية لانهاء الصراع في ليبيا وآخرها المشاورات الليبية الليبية الجارية منذ الأحد في مدينة بوزنيقة الساحلية المغربية، التي تبعد عن العاصمة الرباط بنحو 40 كيلومترا،بين المجلس الأعلى للدولة في ليبيا وبرلمان طبرق لمناقشة قضايا ليبية عالقة على رأسها المناصب السيادية ووقف إطلاق النار.

وتصطدم هذه المشاورات بواقع التناقضات في المواقف والرؤى بين الفرقاء، ويرى مراقبون أن الأطراف الإقليمية والدولية ترتكب أخطاء الماضى بعدم وضع رؤية واضحة ومحددة لحل الأزمة الليبية التي تراوح مكانها منذ سنوات، مؤكدين أنّ مشكلة البلاد تتمثّل في القضية الأمنية بسبب انتشار السلاح والميليشيات.ويخشى كثيرون أن تلقى هذه المشاورات نفس مصير الجهود الماضية التي باءت بالفشل نظرا لاختلاف وجهات النظر وصراع المصالح بين الدول، ويشير هؤلاء الى أن التسوية الحقيقية يجب أن تكون ليبية صرفة فالليبيون وحدهم أدرى ببلادهم ومصلحتها.