لا تزال الحقول، التي كان ينبغي أن تخترق البراعم الخضراء تربتها الرطبة عبر رقعة شاسعة من جنوب السودان، غير محروثة ومكسوة بالأعشاب؛ كما فُقدت أو سُرقت قطعان الماشية التي كانت المجتمعات المحلية ستقتات عليها خلال موسم الجفاف؛ ونُهبت مخازن الأغذية أو أحرقت. 

اعتاد شعب جنوب السودان، وهي الدولة الأحدث في العالم وواحدة من أفقر البلدان، على المشقة، ولكن ستة أشهر من الحرب أجبرت الكثيرين منهم على النزوح ودمرت سبل عيشهم الهزيلة حتى أصبح حوالي 4 ملايين مواطن بحاجة إلى المساعدة الإنسانية. 

يسعى عمال الإغاثة جاهدين لتفادي العقبات الشاقة الواردة في تقرير عن المجاعة: من فشل قادة جنوب السودان المتناحرين في وقف الصراع، إلى التدابير اللوجستية شبه المستحيلة، وضعف الاهتمام الدولي ونقص الموارد. 

وفي حديث مع شبكة الأنباء الإنسانية (إيرين)، قال توبي لانزر، مسؤول الشؤون الانسانية بالأمم المتحدة في جنوب السودان أن "أكبر عقبة هي غياب السلام. لا يزال لديك الكثير من النازحين، واستمرار خطر اندلاع العنف، على الأقل، في أي مرحلة". 

وفقاً لإحصاءات الأمم المتحدة، فر نحو 1.5 مليون شخص من ديارهم منذ ديسمبر الماضي عندما اندلع القتال بين مؤيدي الرئيس سلفا كير والموالين لنائبه السابق رياك مشار. وقد لقي آلاف الناس مصرعهم خلال أعمال العنف، بما في ذلك العديد من المدنيين الذين تم استهدافهم بوحشية بسبب انتمائهم العرقي. 

ودفع فشل الضغوط الدولية في وقف القتال قبل موسم الزراعة إلى إطلاق تحذيرات مرتفعة على نحو متزايد من أن المجاعة قد تؤدي إلى وفاة عدد أكبر بكثير، ما لم يحصل المدنيون المحاصرون على مساعدات عاجلة ومستمرة. 

وتنبأت دراسة أجريت في شهر مايو من قبل وكالات حكومية وخبراء في الأمن الغذائي بأن 3.9 مليون شخص، أو ثلث سكان جنوب السودان، ربما يواجهون "أزمة" أو مستويات "طارئة" من انعدام الأمن الغذائي بحلول نهاية أغسطس، ارتفاعاً من 1.6 مليون شخص في العام السابق. وتمثل حالة الأزمة والطوارئ المستويين 3 و4 على مقياس التصنيف المتكامل لمراحل الأمن الغذائي (IPC) المستخدم على نطاق واسع. 

وتجدر الإشارة إلى أن المستوى 5 هو "المجاعة"، التي يعرفها التصنيف المتكامل لمراحل الأمن الغذائي بأنها "الصعوبة المطلقة في حصول شعب بأكمله أو مجموعة فرعية من السكان على المواد الغذائية، التي من المحتمل أن تتسبب في الموت على المدى القصير". ويتطلب إعلان المجاعة أن تتحقق العديد من الشروط، لاسيما معدل وفيات خام يبلغ 2 لكل 10,000 شخص يومياً، ومعدل سوء تغذية حاد عام أعلى من 30 بالمائة. 

وعادة ما تلجأ الأسر في المجتمعات الريفية إلى تخزين المواد الغذائية لكي تكفيهم حتى موسم الحصاد القادم، ولكن النازحين بشكل عام تركوا مخزوناتهم، واضطرت المجتمعات المضيفة لتقاسم مخزوناتها مع الأقارب والغرباء. كما فقدت الأسر مواشيها جراء السرقة، إما على أيدي الجماعات المتنافسة أو المقاتلين الذين يعانون من قلة الطعام على كلا الجانبين. 

بالإضافة إلى ذلك، غاب التجار الذين يجلبون المواد الغذائية من الدول المجاورة، مثل أوغندا والسودان، ويستبدلونها بالسلع المحلية لعدة أشهر بسبب القتال. وقال لانزر أنه يكاد يكون من المستحيل العثور على الملح في بعض المناطق، على سبيل المثال. 

من جانبها، أفادت منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف) في شهر أبريل الماضي أن عدد الأطفال دون سن الخامسة الذين يعانون من سوء التغذية الحاد في جميع أنحاء جنوب السودان قد وصل إلى 223,000، أو ضعف عددهم الإجمالي قبل الأزمة. وحذرت من أن 50,000 طفل منهم قد يموتون هذا العام، ما لم يحصلوا على مساعدة، مثل التغذية العلاجية. 

وحددت وكالات الإغاثة المقاطعات الجنوبية في ولاية الوحدة وأجزاء من ولاية جونقلي المجاورة على أنها المناطق الأكثر تضرراً في هذا البلد الذي تعادل في مساحته مساحة فرنسا. 

في مقاطعة بانييجار بولاية الوحدة، لجأت آلاف الأسر من المنطقة المحيطة إلى جزر في الأهوار الشاسعة غرب نهر النيل الأبيض. ويقول مسؤولو الإغاثة أن العديد منهم يعيشون على زنابق الماء وأوراق الأشجار، وهي نباتات يقتات عليها السكان تقليدياً في أوقات الشدة. وقد وفرت عمليات الإنزال الجوي التي قام بها برنامج الأغذية العالمي بعض مواد الإغاثة، ولكن عمال الاغاثة يقولون أن مستويات سوء التغذية مرتفعة هناك. 

وذكرت المنظمة الخيرية الطبية ميدير (Medair) أن ما يقرب من نصف الـ4,500 طفل الذين فحصتهم في بانييجار منذ شهر أبريل يعانون من سوء التغذية. ووجدت أن الأسر تركز بشكل متزايد على منح حصصها الهزيلة لأقوى الأبناء. 

وفي هذا الصدد، قالت ويندي فان اميرونغن المتحدثة باسم ميدير: "إنهم يريدون أن يظل جميع أطفالهم على قيد الحياة، ولكن يساورهم القلق من أنهم قد يفقدونهم جميعاً". 

تبددت آمال إرسال الطعام وغيره من إمدادات الطوارئ بالشاحنات إلى المناطق المعزولة قبل أن تجعل الأمطار العديد من الطرق غير سالكة بسبب استمرار انعدام الأمن. 
 

الجدير بالذكر أن الحكومة والمعارضة اتفقتا في أوائل شهر مايو على الالتزام "بشهر تهدئة" من أجل السماح للمدنيين بالعودة إلى ديارهم وزرع أراضيهم، والسماح بإرسال المزيد من المساعدات الإنسانية. لكن محادثات السلام المتقطعة في أديس أبابا لم تحقق تقدماً كبيراً، واستمرت أعمال العنف، ولم ترد سوى تقارير قليلة عن عودة المدنيين إلى ديارهم بأعداد كبيرة. 

وفي تصريح لشبكة الأنباء الإنسانية (إيرين)، قال مايك ساكيت، القائم بأعمال المدير القطري لبرنامج الأغذية العالمي في جنوب السودان أن "هناك الكثير من التوتر، بينما تعيش بعض الأماكن مثل بانتيو (عاصمة ولاية الوحدة) في الواقع على حافة الهاوية. أي شيء يمكن أن يحدث هناك، وهي ليست المكان الوحيد". 

وقد نهبت الفصائل المسلحة أو المدنيون الجوعى الكثير من المواد الغذائية التي تمكن برنامج الأغذية العالمي من تخزينها مسبقاً في بعض المناطق قبل هطول الأمطار. وقال ساكيت أنه قد تم تفريغ ثلاثة مخازن بالكامل في ولاية أعالي النيل في شهر مايو بعد تبادل السيطرة على مناطق التخزين أثناء القتال. 

ونظراً لانسداد معظم الطرق الرئيسية، اضطر برنامج الأغذية العالمي للتركيز على النقل الجوي واسقاط المعونات جواً، باستخدام طائرات الشحن الضخمة من طراز اليوشن الروسية الصنع في معظم الأحوال. 

وقال ساكيت أن برنامج الأغذية العالمي أرسل فرق "الكر والفر" الصغيرة إلى مناطق الأزمات لأكثر قليلاً من أسبوع للتأكد من وصول الأطعمة إلى الفئات الأكثر احتياجاً والمساعدة على منع استيلاء المقاتلين على المساعدات، ولتقييم الاحتياجات وتسجيل المحتاجين والإشراف على عمليات الإنزال الجوي والتوزيع. وقام شركاء آخرون بتطعيم الأطفال وتوزيع البذور في نفس الوقت. 

وأضاف أن برنامج الأغذية العالمي تمتع بقدر كبير من حسن النية من جانب كلا الطرفين المتحاربين - بناءً على إرث عمليات الإغاثة الضخمة التي اضطلع بها في تسعينيات القرن الماضي خلال الحرب الأهلية الطويلة في السودان - وأن هذا ساعد في إبقاء طائراته وفرقه الأرضية سالمة. 

مع ذلك، أشار ساكيت إلى أن برنامج الأغذية العالمي ببساطة لا يملك ما يكفي من الغذاء لتلبية الاحتياجات. 

وكانت الجهات المانحة، بما في ذلك الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، قد تعهدت بتوفير مبلغ إضافي قدره 600 مليون دولار في مؤتمر عُقد في شهر مايو في العاصمة النرويجية أوسلو. مع ذلك، تقول الأمم المتحدة أن الأموال التي تلقتها لا تزال أقل من المطلوب لهذا العام وحده بمقدار 800 مليون دولار. وقال ساكيت أن نسبة الأموال الجديدة التي سيتم تخصيصها لبرنامج الأغذية العالمي لا تزال غير واضحة. 

وأضاف قائلاً: "حتى بعد مؤتمر أوسلو، لم نر حقاً أي زيادة في التعهدات الجديدة المؤكدة التي يمكن أن نترجمها إلى أغذية فعلية". 

وأشار إلى أن تنفيذ خطة لتوزيع 17,000 طن من المواد الغذائية في شهر يونيو، على سبيل المثال، قد لا يكون ممكناً بسبب "القيود المفروضة على التوزيع". وأضاف قائلاً: "إننا نتغلب على القيود اللوجستية عن طريق استخدام المزيد من الطائرات، ولكننا لا نملك الطعام اللازم لتنفيذ الخطة". 

كما واجهت الجهود الإنسانية عقبات بيروقراطية، فقد أكد لانزر أن مسؤولي الأمم المتحدة احتاجوا إلى عدة أسابيع لإقناع الحكومة بإزالة العشرات من نقاط التفتيش على طول الطرق الرئيسية القليلة التي لا تزال مفتوحة. وتضيف الضرائب غير الرسمية 4,500 جنيه سوداني (1,200 دولار) إلى تكلفة إيصال حمولة شاحنة من الإمدادات. كما أقنعت الأمم المتحدة الحكومة بتبسيط إجراءات الجمارك والهجرة لتسهيل دخول عمال ومواد الإغاثة. 

في السياق نفسه، تشكل البيئة تحديات أخرى، إذ لم تتمكن الطائرات من الهبوط في بانتيو وبانييجار بعد هطول الأمطار لأن المهبط أصبح موحلاً أكثر مما ينبغي. وتتفاوض الأمم المتحدة حالياً مع شركات النفط للحصول على حق استخدام مهبط يصلح لجميع الأحوال الجوية شمال بانتيو. مع ذلك، فقد وصلت وكالات الأمم المتحدة إلى أكثر من 80 موقعاً في الأشهر الستة الماضية عن طريق الجو في أغلب الأحيان.

ولكن التكلفة المرتفعة ومحدودية قدرة حتى أكبر الطائرات تجعلان برنامج الأغذية العالمي يدرس إرسال مراكب شحن تحمل الطعام عبر النيل الأبيض، على الرغم من الأخطار المترتبة على ذلك. 

وفي شهر أبريل الماضي، أطلق مهاجمون مجهولون الرصاص وقذائف صاروخية على المراكب التي تنقل المواد الغذائية والوقود إلى قاعدة الأمم المتحدة في ملكال، وهي بلدة أخرى يسيطر عليها التوتر في شمال البلاد، مما أسفر عن إصابة أربعة من أفراد الطاقم وقوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. 

وقال لانزر أن إقناع مشغلي المركب بالمحاولة مرة أخرى كان صعباً. ولكن بحلول أوائل يونيو، كان العمال في جوبا يقومون بتحميل المواد الغذائية على قافلة من المراكب التي ستضطر إلى قطع نفس الطريق الذي يخترق أراض تسيطر عليها كل من الحكومة والمعارضة. وقد بدأ مسؤولو برنامج الأغذية العالمي بالفعل التفاوض مع وسطاء محليين لمحاولة ضمان المرور الآمن. 

"إنها تمر أيضاً عبر مناطق يعاني الناس فيها غالباً من جوع شديد ... ولذلك توجد ثلاثة تهديدات رئيسية،" كما أفاد ساكيت. 

ويجلب موسم الأمطار بعض الراحة بالنسبة للمدنيين، حيث تصبح المراعي أكثر ثراء، وتنتج الماشية المزيد من الحليب، وتصبح الأغذية البرية والأسماك أكثر وفرة. علاوة على ذلك، فإن ما يسمى بالحصاد "الأخضر" الأول يأتي في سبتمبر، قبل حصد المحصول الرئيسي في نوفمبر. 

ولكن من المتوقع أن تكون المحاصيل ضعيفة في شمال وشرق البلاد، حيث احتدم القتال منذ البداية. وبمجرد استهلاك تلك المحاصيل، من المتوقع أن تزداد حدة أزمة الغذاء. 

"واعتباراً من نهاية هذا العام، سوف نغرق في موسم جفاف طويل سيستمر حتى حصاد سبتمبر 2015،" كما أشار ساكيت، مضيفاً أن "احتمال حدوث مشاكل سيكون أكبر بالتأكيد مما هو عليه الآن في مثل هذا الوقت من العام المقبل".