أدت حالة التشرذم التي لا زالت الدولة الليبية تواجهها منذ أحداث 2011، إلى تعزيز تواجد وانتشار فصائل عسكرية ومليشيات إفريقية داخل الأراضي الليبية عامة، مستغلين تفاقم التوترات الأمنية، واستمرار الانقسامات ما بين صفوف الليبيين، ولعل المنطقة الجنوبية كانت أبرز من تعرض لأوضاع متردية، بعدما ترسخت أقدام قوات وعناصر أجنبية تقاتل من أجل السيطرة على أهم النقاط الاستراتيجية ومنافذ التهريب بها؛ إذ أن الصراع بجنوب ليبيا لم يعد مقتصرًا على الليبيين فحسب، ولكن تداخلت فيه فصائل أجنبية، وأصبحت هناك حالة من تشابك التحالفات.

Marsud2.jpg

واستغلّ المتطرفون المنتمون إلى تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي وتنظيم داعش الفوضى المتعاظمة في ظل غياب القانون، من أجل تطوير لوجستياتهم وإنشاء ملاذات آمنة، علماً أن اختراقهم الفعلي للمجتمع الجنوبي أكثر محدودية مما يُعتقَد عادةً.

وفي غياب مداخيل محلية، أصبحت التجارة غير الشرعية ممارسة متجذّرة بعمق في المشهد الاقتصادي والاجتماعي في الجنوب، حيث أمسى جنوب ليبيا المنفذ الأكبر لتوريد الهجرة غير الشرعية لأوروبا، إذ تعمل عصابات منظمة من مختلف مكوناته الاجتماعية العرب، التبو، والطوارق على جلب المهاجرين غير الشرعيين من دول إفريقية، وتوصلهم إلى منافذ بحرية عدة "بطرابلس، وزوارة، وتاجوراء".

وتختلف العلاقة بين المهربين والجماعات المسلحة تبعًا للموقع، ففي الجنوب يبدو أن المهربين يستفيدون من روابطهم المحلية العرقية والقبلية والعائلية، لضمان التنقل بالمناطق  المألوفة لهم وبمجرد وصولهم إلى مناطق توجد بها عوائق، ينقلون المهاجرين إلى مهربين آخرين، مع تأمين الاتصالات اللازمة. وتنفذ جماعات من قبائل التبو والطوارق عمليات تهريب بهذه الطريقة اللامركزية.

وفي الجنوب الغربي، يبدو أن مدينة سبها هي أكثر نقاط الانتقال شيوعًا بين المهربين، الذين يتعاملون مع تدفقات المهاجرين عبر الحدود من الدول المجاورة، وينتقلون ويسهلون حركة المهاجرين إلى الساحل.

وفي شمالي سبها، والمدن الساحلية الشمالية خاصة، كثيرًا ما تشارك الجماعات المسلحة مباشرة في التهريب، فمن الصعب إدارة عمليات في هذه المناطق دون دفع إتاوات لتلك الجماعات. وفي هذه المواقع، تتحكم الجماعات المسلحة في المناطق القريبة من الساحل، وتحمي نقاط انطلاق القوارب.

وتمثل مدينة الزاوية، وهي إحدى النقاط الأساسية للمهاجرين إلى أوروبا، مثالًا على ذلك النفوذ، ونافذة على طريقة عمل اقتصاد الحرب.

Marsud1.jpg

ومنذ سنوات، تصنف ليبيا خاصة الأراضي الجنوبية منها، بكونها سوقًا ونقطة عبور للأسلحة من غربي أفريقيا إلى شرقها، كما تأكد استخدام مخازن أسلحة بكثافة في العنف الذي مارسه الطوارق والجماعات المسلحة في مالي، العام 2012.

ودعمت هذه المخزونات الجهات المسلحة في جميع أنحاء منطقة الساحل بمعدات عسكرية، تضمنت أسلحة صغيرة وأنظمة دفاع جوي محمولة على الكتف. وتم الكشف عن أسلحة مهربة من ليبيا في ساحة الحرب السورية، إذ يعتقد بوصول أسلحة إلى تنظيم داعش.

وينقل متمردو دارفور (غربي السودان) أسلحة ثقيلة، كالأسلحة المضادة للطائرات والمدافع المضادة للدبابات، من ليبيا إلى دارفور.

ومن المرجح أن جهود منع التهريب لعبت دورًا في الحد من هذه التدفقات، منذ 2014، لكن ذلك جاء بالتزامن مع تزايد الطلب المحلي على الأسلحة في ليبيا، بجانب ارتفاع وتيرة الصراع الداخلي.

ومنذ 2011، تم استخدام أساليب معقدة، تضم شبكات إجرامية دولية ودولًا أجنبية (من بينها تركيا وقطر)، لنقل الأسلحة، خاصة عالية التقنية، إلى العناصر الليبية، ما يعد انتهاكًا لحظر الأسلحة، الذي تفرضه الأمم المتحدة.

من جانب آخر، يمتلك جنوب ليبيا احتياطات ضخمة من الوقود النفطي، حيث أشارت إحصائيات إلى أن فزان وحدها تستطيع ضخ ما يصل إلى 400 ألف برميل يوميًّا، ورغم تلك الإمكانات الهائلة، فإن الصراعات الممتدة منذ ما يقترب من 7 سنوات أثرت بشكل كبير على الإنتاج النفطي، ومنذ ذلك الحين أصبح وجود الحكومة يكاد يكون منعدمًا على تلك الحقول، وأصبحت الميليشيات والفصائل الأفريقية المنتشرة في جنوب ليبيا هي المتحكم الرئيسي هناك، فيما تقدر العوائد السنوية لتهريب الوقود بحوالي 4 مليار دولار.

في هذا الإطار، عبّر أحد الأكاديميين في إحدى الجلسات النقاشية بشأن الوضع في جنوب ليبيا بقوله إن "الجريمة أصبحت بليبيا وظيفة"، فقد تسببت حالة الركود التي يعاني منها الاقتصاد الليبي على تشجيع الأنشطة غير المشروعة الذي تسبب في نقص السيولة والتضخم الحاد، بل أصبحت الأراضي الليبية عمومًا منفذًا للهجرة غير الشرعية إلى أوروبا، لاسيَّما القادمين من دول الساحل والصحراء، فيما قدرت احصائيات العوائد التي تخلفها الاتجار بالبشر بما قيمته من (1.5 ـ 3) مليار دولار سنويًّا.

وتسببت حالة الركود التي يعاني منها الاقتصاد الليبي على تشجيع الأنشطة غير المشروعة الذي تسبب في نقص السيولة والتضخم الحاد

يشار إلى أن سيطرة قبيلة "التبو" على هذه التجارة جاء على خلفية تحكمها في الممرات الرئيسية الواقعة أقصى الجنوب على الحدود من النيجر وحتى سبها، في حين يسيطر الطوارق على الممرات الواقعة بين الحدود الجزائرية وسبها؛ ليسهل بذلك فكرة تهريب المهاجرين عبر مراحل عدة وصولًا إلى البحر المتوسط.

وفي إحدى التقارير الميدانية التي أجرتها «مجموعة الأزمات الدولية»، كشفت حينها عن العوائد التي يمكن أن يتحصل عليها الفرد جراء عمله في نشاط تهريب البشر، حيث كُشف عن إمكانية تحصل الشاب الذي يعمل سائقًا على مقابل مادي يقدر بنحو   (1000-1500) دينار ليبي، مقابل كل رحلة يقوم بها من الحدود إلى سبها، وهو مبلغ يفوق بأربع مرات الراتب الشهري لرجل الشرطة، كما ذكر التقرير أنه بعد مضي فترة من العمل بهذا المجال، أصبح هناك تطلعًا نحو الاستقلال بهذا النشاط والانفصال عن المافيا الأصلية، بل والسعي نحو تأسيس أخرى منافسة.

Marsud4.jpg

هل أضحى جنوب ليبيا مرتعاً جديداً لتنظيم داعش ومنه ينطلق إلى قلب القارة الأفريقية؟ تساؤل ارتفع في الأفق في الأشهر الأخيرة لا سيما في ظل الضربات الإرهابية التي وجهها التنظيم إلى عدد من المدن والقرى في الجنوب الغني بالثورات والفقير بالخطط اللازمة لإدارته، ما يجعل منه حاضنة متميزة للغاية لمثل تلك الجماعات الظلامية.

ففي بدايات سنة 2017 كان الحديث عن انتشار الدواعش في شمال ليبيا، لا سيما في مدينة سرت الليبية، غير أنه مع الانكسار الذي حدث لهم هناك والقضاء على عناصرهم عام 2016 بدا كأن داعش يبحث عن أماكن أخرى في ليبيا تتوافر فيها عوامل البقاء، وأهمها أن تكون مناطق ذات كثافة سكانية ضعيفة، وأن تكون طرقها وعرة مما يصعب الوصول إليها، عطفاً على الانفلات الأمني فيها وضعف سيطرة الدولة عليها.

في هذا الإطار يمكن القول إن الجنوب الليبي هو أفضل الأماكن المتاحة للجماعات المتشددة بسبب الوضع الأمني الهش، وقربه من حدود الدول الأخرى، ما يسمح له بالمناورة والتحرك ووصول الإمدادات البرية والتمويل.

Marsud3.jpg

يعتبر الجنوب الليبي أفضل الأماكن المتاحة للجماعات المتشددة بسبب الوضع الأمني الهش، وقربه من حدود الدول الأخرى، ما يسمح له بالمناورة والتحرك ووصول الإمدادات البرية والتمويل

ويشكل الجنوب الليبي جزءاً أساسياً في مسيرة الدواعش، خصوصاً أن تنظيم الدولة الإسلامية أعلن عن تأسيس ولاية فزان، وإن كان لم يتمكن من التوطين وحيازة نطاق جغرافي بعينه كما حدث في سرت، وهو ما يُرجعه البعض إلى صعوبة تقبل العامل القبلي للتوطين جغرافياً، وإن سمح له باختبار عناصره.

يستفيد التنظيم من حالة الانقسام السياسي القائمة في الداخل الليبي، وبالتبعية اختلال الأوضاع الأمنية، ولهذا يقيمون معسكرات لتدريب مقاتليهم في جبال "الهروج" البعيدة، مع الأخذ بعين الاعتبار أن رقعة الجنوب واسعة والاختلافات فيه متكاثرة، لذا فإن حجم التحديات أكبر من قدرة الجيش الذي يعاني من النقص في الإمكانيات والتسليح. 

ويهدف تنظيم "داعش" من وراء الانتشار في الجنوب إلى التمدد نحو دول الجوار عبر استغلال المناطق الحدودية مع كل من تشاد، والجزائر، والنيجر، وذلك حتى يتمكن من خلق ظهير آمن له، يمكن اللجوء إليه في وقت الأزمات، إضافة إلى رغبته في تجنيد عناصر جديدة من تلك الدول التي يمكن أن تمثل موردا بشريا بالنسبة له، لاسيما في ظل احتياجه إلى أعداد من المقاتلين تلبى احتياجاته التوسعية، ونشاطه الإرهابي، وتأمين وحماية مناطق نفوذه، خلال المرحلة القادمة.

فضلا عن أن تركز التنظيم بالجنوب يسمح له بالعمل في مجال التهريب عبر الحدود، مثل تهريب السلع والبضائع، والأدخنة، والمشتقات النفطية، والمخدرات، وهو ما قد يوفر له موارد مالية جيدة، تمكنه من الإنفاق على نشاطه الإرهابي، ومن ناحية أخرى عدم ترك التجارة الحدودية لغريمه، تنظيم القاعدة، الذي يجنى أموالا طائلة من عمليات التهريب عبر الحدود.