في أحد الملتقيات الأدبية في الجزائر، سئل الروائي الجزائري الشهير أمين الزاوي عن السبب الذي يجعله يصر على توظيف الجنس في رواياته بتلك الفظاظة والجرأة؟.. ابتسم الزاوي وسأل السائل بدوره: أيعقل أنك تجدني أكثر جرأة في توظيف الجنس مما قد تكون قد قرأت في تراثنا العربي؟. بالفعل لم يخل التراث العربي على اختلافه من نصوص وكتب عن "الجنس"، حتى أن هذا الأخير كان ولا يزال "التابو" الأكثر تناولا في أدبياتنا. كما يحفظ التراث كتبا قد توصف وفق معايير الوقت الراهن بـ"الإيروتيكية"، وهي كما وصف أمين الزاوي أكثر جرأة مما يكتب اليوم.

في هذا الاستطلاع، تحاول "بوابة إفريقيا الإخبارية" معرفة الأسباب التي جعلت من "الجنس" تبلا لا يستغنى عنه في الكتابة، السردية على وجه الخصوص..

عن سؤال ما إذا ما زال "الجنس" يعتبر "تابو" في مدونة السرد العربي، يقول الروائي الجزائري بشير مفتي أن هذه قضية كثيرا ما يثيرها بعض النقاد أو رجال الدين أو على بعض المنابر الأكاديمية، كما يتم تحريض جمهور القراء ضد هذا الكاتب أو ذاك لأنه يكتب عن الجنس أو عنده جرأة على تناول أو اقتحام هذا الموضوع .. لأن الوعي الثقافي لم يتطور بعد ليدرك أن الأدب مساحة حرة يمكن أن نتناول فيها كل الممنوعات بشرط واحد أوحد لا غي وهوأن الأدب فن قبل كل شيء وجمالية، وهذا يعني أن استهداف الجنس لمجرد الاستهداف يعد عملا لا يضيف شيئا للأدب كقيمة جمالية وفنية بالأساس، بل سيكون محاولة للشهرة أو لفت الانتباه وقد يعتبر البعض الجنس مادة سهلة للشهرة، حيث هنالك من يبحث من خلال استعمال الجنس فقط عن ردة الفعل التي يحدثها نص كهذا في قاعدة أصولية جاهزة للتحريم والتكفير والتخوين والاتهامات المعروفة .. أي هو يتقصد أن يصدم جهة ما من أجل أن يشتهر أو لست أدري ..وهو أمر مضلل عن حقيقة الأدب التي هي في جوهرها كما قلت جمالية قبل كل شيء.

أما السوري زياد عبد الله فيرى أن اعتبار الجنس "تابو" شكل المشكلة الكبرى التي تواجه الرواية العربية، بمعنى تحويل ما هو طبيعي _ أي الجنس أو الحب الكلمة الأدق_ إلى "تابو"، وبالتالي تحويل الكتابة عنه إلى انجاز أو تكسير للمحرم والمحظور، وعدم الكتابة بناء على دواع متأتية من الحرص على عدم "خدش الحياء العام" _ العبارة الفضفاضة التي يندرج تحتها ماهب ودب عربياً _ إلى فعل رجعي، وبالتالي التخلي عن "الجرأة" التوصيف الأشد فداحة الذي رُوّج من خلاله  للكثير من الأعمال الروائية الرديئة التي تتغنى بالبطرياركية بينما تدّعي أنها ضدها، وتهب المرأة فرصة متاحة على الدوام وفي كل ما نعيشه للنكوص إلى الوراء، والخاسر الأكبر في هذا السياق هو الإبداع الروائي.

  كما يرى زياد عبد الله أن الحديث عن "التابو" على صعيد التلقي،  يستدعي في وقتنا الحالي تحوّل كل شيء إلى حالة طوارئ جنسية، وغرفة عمليات تستدعي من حراس "التابوات" أن يتحلوا بالقدرة على التفرغ على مدى الـ 24 ساعة لرصد أي إخلال في الأخلاق العامة التليدة، وهذا واقعي جداً من ناحية أن بإمكان أي كان أن يحمّل كل دقيقة عشرات "أفلام البورنو" على شبكة الانترنت، ومع ذلك يبقى الحديث عن الجنس بالمعنى التهييجي للكلمة حاضراً أيضاً، لكنه بالغرابة بمكان حين يحرّم بما يدفع للاعتقاد أن الكلمة والخيال القصصي ما يتهدد مملكة الأخلاق التليدة التي تعاني من ازدواجية كامنة بين الظاهر والمتواري، كل ما هو في الخفاء مشروع، أما الظاهر فالويل والثبور، وبالتالي فإن اعتبار  تناول الجنس روائياً أمراً محرماً يدفع للتندر كما هو الحال مع الأفلام التي تعرضها القنوات العربية فيجري تجاهل ترجمة ما يحمل عبارات جنسية بينما جميع من يشاهد يعرف المعنى بالانكليزية أو لا يعرف إلا تلك المعاني باللغة الانكليزية.

أما الكويتي الفائز بجائزة البوكر سعود السنعوسي، فيتصور بأن الجنس سوف يستمر في كونه أمرا محرّما طالما نتعامل معه، كما في أغلب الأعمال السردية، كجنس من أجل الجنس وحسب. قليل من يوظف الجنس في الرواية من دون إقحام أو مشاهد مبتذلة لا تضيف إلى العمل. شخصيا – يقول سعود- لا مشكلة لدي، قراءة وكتابة، مع الجنس، أو أي من التابوهات، شريطة ألا يكون مجانيا، وأن يوظف بما يخدم سياق العمل. إن كان الجنس ضرورة ملحة تكمل العمل ما المانع من وجوده؟ أتصور ان بعض الروايات هي التيتعزّز فكرة المنع أو التحريم أو حتى النفور من قبل القارئ عبر تسطيح معنى الجنس في الروايات التي تبحث عن الرواج. روايات كثيرة قرأتها مؤخرا تغص بالجنس، هكذا مرورا، من دون مبرر. البعض يرفض وجود مبررات للجنس في العمل كونه أمر طبيعي وحاجة بشرية لا حاجة لتبريرها، وأنا أرى ان الأمور الطبيعية والحاجات البشرية كثيرة ومن غير المنطقي اقحامها، فقط لأنها أمر طبيعي، في الرواية.

ويعتقد الشاعر الجزائري خالد بن صالح أن ما يُوارى في حياة المجتمعات العربية يظل مهما تعاقبت عليه مراحل الزمن وتراكمت حوله الكتابات، مدعاة للتساؤل وموضوعاً حيوياً تتعدد مداخله أثناء التناول الروائي والأدبي بصفة عامة، والجنس لا يقل أهمية عن تيمات أخرى مهمة كالدين والسياسة والتاريخ والحروب وغيرها. لا أحد ينكر أن الجنس لا يزال في الثقافة الشعبية وفي جل المجتمعات العربية عبارة عن "تابو" يتمظهر بشكل مرضي في الانحرافات والعقد النفسية الخطيرة التي يعيشها الفرد في هكذا مجتمعات. وهذا في حد ذاته أحد أهم الأسباب الكفيلة بالتعرض للجنس أدبيا وفنياً. وباعتبار أن الرواية فضاء مفتوح للكشف الإنساني والغوص بعمق في نفسيات الشخصيات فإن التحولات التي قد تحدث بتأثير الجنس في حياتهم تعكس وجهة نظر الكاتب ومدى تحقيقه للرؤية التي يتبناها.

أما العراقي محسن الرملي فينفي وجود أي نوع من التابوهات في متن السرد العربي، يقول مصرحا أنه لا توجد أية ممنوعات بالنسبة للكتابة ولكن هناك امتناع، أي أن كل الشروط والقوانين والرقابات التي كانت تُفرض على الكتابة من خارجها، لم تعد فاعلة وفقدت سيطرتها ومبرراتها، فبإمكان أي كاتب اليوم أن يكتب ما يشاء بمطلق الحرية، وإن لم يجد له ناشراً في بلده سيجد من ينشره في بلد آخر أو حتى على شبكة الانترنيت. أما الامتناع، أي أن يمتنع الكاتب من ذاته عن الكتابة حول موضوع معين، فنعم هذا موجود وله أسبابه ومبرراته التي تخص كل كاتب، ومنها مثلاً: طبيعة أخلاقياته، مدى حرصه واهتمامه على اخذ نوعية متلقيه في نظر الاعتبار ويبقى الأهم وهو لأسباب فنية تتعلق بالعمل المكتوب نفسه.

وتقول المصرية نهى محمود أنها تبتسم كلما سمعت من يقول أن الجنس تابو، لأنها تتساءل دوما متى كان الجنس تابوفي الكتابة العربية ، منذ الشعر الجاهلي القديم الذي خلط الفاحشة بالخمر والنساء بسهولة من كان يفعل ذلك قبل بداية الحياة نفسها ،  " النسخة الأصلية من الف ليلة وليلة والتي تؤرخ بأقدم فن سردي كم مرة حرصنا ان نضعها بمكتبة البيت بعيدا عن متناول يد الأطفال ، وحتى الروايات التي تعتبر من الكلاسيكيات " يحيي حقي وروايته البوسطجي  قامت في الأصل على واقعه جنسية ، حادث النصف متر لصبري موسي تحكي علاقة بين رجل وإمراة بلا زواج حتى تنفصل عنه وتتزوج غيره . كما أن رواية مثل " إيثاكا " لرؤوف مسعد تصنف بإنها رواية أيروتيكيا خالصة تماما مثل "برهان العسل" لسلوى النعيمي. لهذا ترى نهى أن الجنس يبدو لدى المجتمعات العربية  هاجس اكثر منه تابو ، وقد استبك الأدب مبكرا وتورط فيه لأن الأدب بحكم طبيعته هو شجاعة الحكي عما نفكر فيه ولا يجوز أو يجرب المجتمع نبشه  .

ويوافق الشاعر الجزائري ناصر باكرية على هذا الطرح، ليقول أن الجنس في الكتابة السردية العربية وفي الثقافة العربية عموما لم يكن أبدا من الطابوهات قديما فألف ليلة باعتبارها واحدة من أهم روافد السرد العالمي ممتلئة بأحاديث الجنس بشكل سافر وصريح، والتراث العربي برمته لا يكاد يخلو  مصدر من مصادره من الحديث عن الجنس حتى تلك الكتب الوقورة وحتى القرآن الكريم لم يجد حرجا في الحديث عن المباشرة والعلاقة الجنسية بين الرجل والمرأة، وأذكر أنني تحدثت مرة مع أحد المترجمين الروس وهو على ما أذكر ديمتري ميكولوسكي ، قال لي إنني أغبطكم على الحرية في اللغة العربية المنفتحة على كل المعاني ، خلافا للغة الروسية التي قال إنه يجد في الترجمة إليها الكثير من المعاني عصية نظرا لوقار اللغة الروسية وعدم استيعابها للقاموس العربي الواسع والمنفتح بشكل شبه مطلق على الجنس والجسد، وهو ما يطرح إشكالية أخرى وهي من أين أتى التحفظ والمنع والانغلاق الى اللغة و من خلالها الى السرد والى  الأنساق الثقافية العربية المعاصرة وفي اعتقادي أن تسييس الفقه في عصور الانحطاط و المد الاسلاموي ولا أقول الاسلامي عبر التيارات الدينية على اختلاف مسمياتها  في العصر الحديث أفسد الكثير من الأشياء بانغلاقه وفهمه السطحي والساذج للدين ، ومنه تغلغل فهم خاطئ للأدب برز في شكل محاكمات شعبوية سطحية لكل ما يمت للجسد بصلة عن طريق التحريم لذلك ارتبطت كل الطابوهات بمسألة التحريم  كما ارتبطت الحرية الفكرية بالتكفير ، ورغم أن الجنس على مستوى السرد لم يعد ممنوعا أو محرما لدى الكتاب على مستوى المنجز والمتن الروائي بشكل خاص والأدبي بشكل عام إلا انه مازال يثير الكثير من الجدل  ومازال شبه محرم لدى كثير من القراء نتيجة النظرة القاصرة التي نتجت بدورها عما حُشيت به عقولهم بفتاوى التحليل والتحريم التي تشكل وعي الانسان العربي .

في السياق نفسه يقول المصري أحمد مجدي همام: لا أظن أن الموضوع بحد ذاته يشكل تابو، إنما الطريقة التي يتم توظيف الجنس بها في النص الأدبي هي التي تجعل منه تابو أو تجعله جزء محكم من دراما النص، إذ أن الإيروتيكا بطبيعة الحال هي أصل الحياة، ففي الأساطير الإغريقية "إيروس" هو إله الحب، وفي علم النفس هو رمز للرغبة و الحياة. أما نقيضه "ثاناتوس"وهو  إله الموت و يرمز إلى  العدم  والفناء.

 

بعض الكتّاب ممن يبحثون عن أرقام توزيع بغض النظر عن فنية أعمالهم، يطعّمون نصوصهم بجرعات جنسية بشكل مجاني زخرفي، حيث يوقن أولئك أن القارئ العربي قد يبحث عن تحقيق ذاته المكبوتة في سطور الكتب، بينما يبحث الغربي عن صورة نمطية راسخة ومقولبة للمشرق عن طريق تلك الأعمال الغارقة في المنيّ، إذ تدعم تلك الأعمال الصورة الذهنية المكونة عن العرب بوصفهم كائنات بشرية تعاني هياجاً جنسياً مزمناً.

ولكي تكون الأمور أكثر وضوحاً أضرب هنا مثلين عن الجنس في نصوص كاتبين سوريين، هما خليل صويلح وسلوى النعيمي، فالمشاهد الجنسية في رواية (ورّاق الحب) لخليل صويلح، تبدو بمثابة أحلام بطل مأزوم تعوقه الحياة ، نزوات ذهنية يعوض بها الشخص الرئيسي في الرواية عدم قدرته على كتابة رواية ولا حتى على إقامة علاقة جادة مع إحداهن، هذا التوظيف أسهم بشكل كبير في رسم شخصية البطل الانعزالي المتذبذب والضائع العائش في خيالاته. في حين يبدو الجنس في رواية (برهان العسل) لسلوى النعيمي وكأنما هو الموضوع الرئيسي والفكرة الأولى للرواية، فبطلة النص امرأة مبتلة دوماً بماء شهوتها وبشكل متواصل حتى ليظن القارئ أنها تعاني من خلل هرموني ما، وهو أمر لايسهم في رسم أي عمق للشخصية، إذ لا تبدو دراما النص واضحة وكثيفة بحيث تقتضي الضرورة الفنية وجود كل تلك الكميات من سوائل الجسد وروائحه. فقبل سنوات أصدرت الفرنسية كاترين مييه كتابها (حياة كاترين م. الجنسية)، تحكي فيها تجربتها انطلاقا من الثورة الجنسية التي اندلعت في فرنسا ستينات القرن المنصرم، ورغم أن الجنس هو التيمة الرئيسية للعمل، إلا أن الأوتوبيوغرافي المغزول بالتوجه الإيروتيكي صنعا من الكتاب قطعة فنية فريدة، وعَكَس عبر حياة كاترين مييه حقبة عاشتها الأمة الفرنسية ولازالت تعيش تحت تأثيرها حتى اللحظة. المشهدية والتوصيف البصري في عمل كاترين مييه يقدمان الجنس بشكل حسي تماماً، وربما هو الأمر الذي دفع ناشر النسخة العربية من الكتاب لوضع تحذير ( + 18 ) على الغلاف. في المقابل نجح فلاديمير نابوكوف في كتابة عمل إيروتيكي فذ (لوليتا) دون أن يضع كلمة واحدة من تلك التي توصف بأنها (تخدش الحياء) أو (تتنافى مع القيم العامة)، لكن، ورغم ذلك جاءت الرواية فارهة الروعة والجمال، ذلك أن الإيروتيكا هنا كانت ضمت روح العمل، في أغوار نفسية البطل همبرت همبرت المفتون بالحوريات المراهقات.

ينتهي أحمد إلى أن الجنس في الكتابة الروائية، والكتابة الأدبية عموماً، ليس سبة، والعمل الذي يخلو من الجنس أيضاً ليس عملاً رديئاً، القصة كلها تتلخص في مدى حرفية الكاتب في غزل خيط الإيروتيكا في ثنايا الثوب (النص) بشكل متناسق ويخدم الضرورة الفنية، وفي هذا السياق أذكر مقولة للكاتب السعودي الراحل عبد الرحمن غازي القصيبي الذي قال في إحدى حواراته: ( على الكتاب أن يغذيني عقلياً، أو يثيرني جنسياً، أو يضحكني ليكون أهلا لمجالستي)...

هل التطرق إلى الجنس ضرورة فنية أم مجرّ تبل يضفي على الرواية طعما آخر؟

في هذا يقول ناصر باكرية: أنه في أي عمل أدبي ذي طبيعة إنسانية لا يمكن إغفال إحدى مقومات وجود الإنسان ، التي بها يستمر على هذه الأرض وفي عمار هذا الكون ، فالإنسانُ رغبتُه، فما الإنسان في اعتقادي إلا مجموعة رغبات أولى هذه الرغبات رغبته في البقاء، ومن خلالها يكافح من أجل الحياة  ورغبة في استمرار وجوده على قيد الحياة بطريقة أخرى هي الرغبة في التوحد والتزاوج والميلاد لمقاومة الموت أيضا واعلي رغباته هي الرغبة في المطلق بمحاولة الخلود إما عن طريق النسل لدى الغالبية او عن طريق الخلق لدى الفانين والكتاب والشعراء، الذين يحاولون الخلق  ومحاكاة نوع من الألوهة والتأله ، وأي عمل أدبي يحاول القفز على الجنس باعتباره احد أهم مقومات الإنسان سيظل مبتورا بطريقة ما ، هذا نظريا أما على صعيد الكتابة السردية فعلى أهمية  الجنس كتيمة في المتن الروائي العربي إلا انه أحيانا يأخذ شكلا غير وظيفي ويأتي مقحما بطريقة مقززة لا جمالية فيها وربما هذا الاتكاء السردي على الجنس في الرواية العربية نابع من الكبت الذي تعانيه الشعوب العربية والعقدة تجاه الجنس والجسد في الثقافة العربية التي نتجت عن الفهم الفقهي السطحي للأشياء وحتى للدين ذاته.

أما نهى فتقول:  أنها طالما رأت  أن الجنس داخل الرواية مجرد عنصر فني مثل غيره ، سيحكم قبوله أو رفضه مدى فنية الطريقة والدافع لوجوده ..

تضيف: الذي جعل رواية مثل " الخبز العاري" لمحمد شكري تعيش كل هذه السنوات وأظنها ستبقى طويلا ، ليس ما بها من جرأة أو تحطيم لتابو الجسد ولكن شئ اكبر عمق ، الحياة ذاتها التي تنقلها الرواية ، المعاناة والإنحرافات المزاجية وغيرها خيوط في ثوب الرواية كلما كان جيد الصنع كلما بقى رغم الزمن .

وبلباقة الشعراء يقول خالد بن صالح: لا أضيف شيئاً إذا ما واصلت الكتابة بهذا المنحى عن الذين يقولون أن الأساس في الكتابة عن الجنس هو القيمة الفنية وطبيعة تواجده داخل المتن السردي وكيف تمَّ تقديمه للقراء وهل كان ذلك انعكاساً لهاجس إبداعي للكاتب أم مجرد توابل لإضفاء شيء من الإثارة للرواية أم معادلة تجارية بغاية تحقيق الرواج والمبيعات خاصة وأن شريحة كبيرة من القراء لا تزال ثقافتها شفوية وغير مؤسَّسة وتفتقد إلى الكثير من معايير التقييم الأدبي الصحيحة.  يقابل ذلك مجمتع ذكوري هائج وجائع بشكل بيولوجي وعاطفي كبير.

من هذا المنطلق تطفو إلى السطح معادلة ثلاثية بين الكاتب وتناوله للجنس والمتلقي الذي يقرأ العمل الأدبي. لا يحتاج الأمر في الحقيقة إلى العودة إلى تاريخ الأدب العربي المليء بالكتابات الجنسية شعراً ونثراً مما يعتبر تراثاً عالمياً ولا حتى القطيعة التي حدثت على فترات متقطعة مع هذا التراث الإنساني المتنوع. خاصة إذا تحدثنا اليوم عن كتاب مراهقين وفجاجة لا تخلو منها الكثير من النصوص على تفاهتها حين تحشر أو تعمد إلى تقديم أطباق بورنوغرافية سيئة المذاق والشكل.

أما محسن الرملي فيصر على أن الجنس لا يختلف عن أية موضوعة أخرى، أحياناً يكون ضرورة موضوعية وفنية بالفعل وأحياناً أخرى يتم استخدامه كوسيلة لأغراض أخرى تتعلق بالعمل نفسه بهدف التشويق أو إضفاء (تبل) كما تقول أو حتى كفاصل استراحة وسط خط درامي متصاعد مثلاً، وأحياناً لأهداف أخرى غير العمل الفني، كرغبة البعض بالمشاكسة أو لفت الانتباه أو لأغراض تجارية وما سواها.

أما زياد عبد الله فيقول: لم أعرف يوماً ما هي الضرورة الفنية التي تقرر دواعي استخدام الجنس من عدمه! ربما هذا يأتي مثلاً عند الحديث عن الجنس بوصفه أمراً مماثلاً لتوصيف جثث سقطت هنا أو هناك جراء مجزرة، المجزرة لا تستدعي الإدناة، توصيف الأشلاء والقتلى بمنتهى الوحشية شيء لا يستوقف أحداً، بينما جماليات الحب والحواس فأمر غير مرحب به وهو "عيب"، وإن وضعهما في مقارنة لن تكون لصالح الجثث مقابل جمال الجنس، طبعاً إن كان الأمر متعلقاً بمنطق انساني بحت، وفي هذا أحاول محاكاة لاري فلينت، كما في فيلم ميلوس فورمان "الشعب ضد لاري فيلينت" 1996.

الجزائري بشير مفتي يملك وجهة نظر فريبة ولكن مختلفة. يقول: شخصيا أنظر للمسألة من زاوية بسيطة أن كل ما هو موجود في الحياة يصلح في الأدب ولا يمكن تغافله أو تجاهله او تهميشه ولكن لا افهم طبعا أن يقحم أحيانا دون سبب أو ذريعة ..أنا ضد إقحام الجنس دون مبرر في الحكاية أو الشخصية كما ضد إقحام التاريخ أو السياسة أو أي طابو آخر دون مبررات مقنعة تجعل القارئ يقتنع أن حضوره كان مهما بشكل ما أو لعب دورا في تطور الشخصية الروائية أو الحكاية داخل الرواية وإلا فهو مجرد لهو وعبث وطبعا قد يكون من حق الكاتب أن يلهو ويعبث لكن ضمن شروط وقواعد اللعبة الروائية ...

ويعتقد الكويتي سعود السنعوسي أن الأمر يعتمد على ما هو العمل وماذا يريد أن يقول وأين موقع الجنس من ذلك. يضيف: قرأت منذ فترة، على سبيل المثال، رواية "اللا متناهي في راحة اليد" لـ جيوكندا بيللي، تعيد كتابة قصة بداية الخلق، اللقاء الأول بين الرجل الأول والمرأة الأولى، الجنس في الرواية جاء ضروريا لا مناص منه، ومن غير الموضوعي أن تصوّر لنا الرواية اكتشافهما لجِدّتهما وجِدّة الأشياء من حولهما من دون المرور باللقاء الجسدي الأول، وقد جاء المشهد، بكل تفاصيله، سحريا كلوحة فنية تشكل جزءا مهما في لحمة العمل من دون ابتذال. أعمال أخرى تضمنت الجنس كضرورة وليس من باب الإثارة،أو لنقل "التتبيل"، كمشاهد الإغتصاب في الحجر الصحي في رواية "العمى" لساراماغو، وهي مشاهد جنسية بشكل أو بآخر، ولكن وجودها في بيئة الرواية كان أمرا مهما وله أبعاد كثيرة تتجاوز فاقدي البصر لتصور لنا دناءة النفس البشرية في أقسى ظروفها، ولنكتشف بأننا جميعا مصابون بالعمى. لا أريد أن أتجنى على الرواية العربية، ربما هو قصور مني، ولكن من النادر أن أقرأ لروائي يلجأ للجنس ليقول شيئا، أعني شيئا أبعد من الجنس من أجل الجنس. أغلب ما قرأت لا يعدو كونه مشاهد جنسية أشبه بأفلام إباحية وجودها في العمل وعدمه سيان.

.. وماذا عن "الرواية الإيروتيكية"؟...

يصمت سعود، أما ناصر باكرية فيقتحم صمته ويصرح بكل جرأة: الرواية الايروتيكية  ليست غريبة  كما قلت سابقا  عن الثقافة العربية والتراث العربي يعج بالايروتيك في أكثر مستويات اللغة مباشرة ووضوحا ولم يدخل الحرج والانغلاق والانقباض تجاه الجسد إلا في العصور المتأخرة نتيجة جملة من العوامل التي ذكرت بعضها فيما سبق وليس موضع الحديث عنها ، ولكن الدعوة الى كتابتها كثيرا ما أخذت شكلا ثوريا على الأنساق والتقاليد النمطية السائدة في مجتمعاتنا التي هي في أوج التخلف المعرفي والفكري، وفي ادني درجات الوعي نتيجة السياسات الاستعمارية ثم التجهيل الممنهج من قبل النخب الحاكمة في الأوطان العربية وغياب مشروع مجتمع  والاستثمار في التجهيل وتنميط العقول وتعليبها في قوالب دينية  تشكل قطعانا يسهل توجيهها كل هذه المعطيات جعلت طرح مسألة الجنس  يتخذ شكلين أما دعوة الى تجنبه مجاراة للمؤسسة والأعراف أو الاستغراق فيه  كرد فعل  وثورة ضد التقليد وكمدخل الى تحديث الانسان العربي . وفي كلا الحالتين اتخذ شكلا ثنائيا يمثل حالة مرضية في السياقين ، إضافة إلى ما لمحت إليه في سؤالك فيما يتعلق بالجانب الاستثمار في الكبت العربي والظمأ إلى الجسد بشكل تجاري .

 عن نفس السؤال تقول المصرية نهى: هل تجدي الدعوات حقا للكتابة في موضوعات معينة! ، الأمر كله يكون هاجسا – مشروع الكتابة في أي موضوع يجب ان يكون هاجس ملح حتى يتحول في النهاية لرواية ، وأظن مثلا أن سلوى النعيمي كان لديها شحنة من الأفكار أكبر قليلا من ان يحثها احد للكتابة في " برهان العسل" ونفس الأمر لدى منى برنس في رواية " إني أحدثك لترى" ، كانت تمزج بشكل فني مؤلم بين المشاعر والمشاهد الإباحية الماجنة في روايتها ، وعندما تنهى رواية مثلها لن تستطع ان تجزم ان شيئا من جرأتها صدمك ، لكنك ستذكر دوما طاقة الألم التي تعذبت به البطلة تحت وطأة الحب .

لكن ربما يكون رأيي في الكتابة عن الجنس يختلف عن رأي القارئ الذي يشتري الرواية ويقرأها سرا لأنك ستجد موقع مثل جود ريدر مثلا حيث ينزعج رواده من هذا النوع من الادب وينصبون له محاكمة ويعطونه ربما نجمة واحدة وتحتها تعليقات مثل " مقرف "

أما محسن الرملي فيؤكد أنه ضد أي دعوة لكتابة أي نوع من أنواع الكتابة. متابعا: يا حبذا لو كانت لدينا روايات تشمل مختلف المواضيع وتلبي كافة الأذواق، مثل الروايات البوليسية وروايات الخيال العلمي والرومانسية والكوميدية والتاريخية وغيرها، فكلما تنوعت فنوننا ومواضيعها ووجدت لها متلقيها فهذا شيء إيجابي، لكنني لا أتفق مع الطرح الذي يرى في أن الروايات قادرة على حل إشكالية اجتماعية معينة. وفيما يتعلق بالكبت فالمسألة ثقافية عامة أكثر مما هي مسألة شحة وسائل تفريغ للكبت، لأن هناك وسائل مكتوبة ومرئية ومسموعة متاحة بوفرة وسهلة حد الابتذال ورخيصة لمن أراد التعاطي معها، أما الرواية والفنون، فمن رأيي، عليها أن تتعامل مع أي موضوع بشكل جمالي وفني عالي أولاً، وبما يحترم ذائقة المتلقي وتهذيبها ويزيد من وعيه وحسه الإنساني ويقدم له المتعة والمعرفة معاً بشكل جميل وراقي.

ينحو بشير منحا مقاربا مختلفا في نفس الوقت، فيصرح: اعتقد بأن ابي نواس عندما كتب شعرا عن الخمر لم يكن يتصور أو يهمه أن يضع النقاد شعره في غرض شعري اسمه الخمريات أو يصنف أخلاقيا في إطار شعر المجون والخلاعة هو كتب عما كان يشكل هاجسه الحياتي واستطاع شعره أن يعبر لنا عن جنونه بالخمر ..التسميات والتصنيفات يعطيها النقاد ولهذا لا تهمني تسمية الرواية الايروتيكية ..التصنيف يزعجني أصلا كما كان يقال سابقا الرواية الاشتراكية التي انتهى امرها الآن أو الرواية الواقعية لأنه في كل رواية مهما صنفناها في أي إطار تجد فيها الواقع والحلم والجنس والخير والشر والفن والكوابيس ..الخ ..خلاصة قولي أنني مع حرية الكاتب إلى أبعد حد فكلما ذهب الكاتب بعيدا في حريته قدم لنا اشياء لم نكن نتوقعها وربما استغور مجاهيل لا نصل إليها ولكن بشرط ان يكون هنالك كما قلت وأعيد أدب في النهاية لان مسألة ماذا نكتب ؟"الموضوع" لا يجب أن تكون على حساب كيف نكتب؟  "الشكل"

ويرى خالد بن صالح أن الدعوة إلى كتابة الرواية الإيروتيكية من منطلقات جمالية وبمساحات لا محدودة من الإبداع والحرية لا تشكل مشكلا لأي مبدع يمتلك أدواته الخاصة ومقارباته للجنس كمحرك أساسي في النص. ولو عرجنا على بعض الدراسات النفسية الأكاديمية التي تناولت موضوع الجنس في العالم العربي لاكتشفنا الكثير من المداخل الروائية والأدبية التي تتجاوز الكتابة السطحية والاستهلاكية. وإن كان المستتر أكثر من الظاهر لدينا فإن الدعوة تظل قائمة للمبدعين أو على حد قول بوكوفسكي للذين يقولون الحقيقة ولا يكتبون من أجل شهرة أو مال أو امرأة وسرير، وبالتالي يُستثنى الفهلويون من أصحاب الواجهات والاستعراض الأحمق باسم الأدب والكتابة.

الزيف موجود في كل مكان من هذه الجغرافيا العربية، مدعمٌ بملايين العقول الرجعية والحمقاء كما التفاهة التي تحرك الإعلام والسينما والغناء.. كل شيء عبارة عن سلع غير أصيلة للأسف، لا شيء إبداعي مؤسس تستند إليه وإن كان عارياً، يكشف ولا يتستر، يفضح ولا يداري، يقول ولا يسكت وهكذا في دوالٍ ترتبط بطبيعة المشهد العام الذي يتأرجح بين كثير رداءةٍ وقليل جودة وجدية في إعطاء الحياة معناها أدبياً وصناعة هذه القيمة الفنية التي تفتقدها مجتمعاتنا.

أما زياد فيؤكد بجرأته المعتادة: لم أكتب رواية ايروتيكية بحتىة، لكن مرحباً بها، مع الميل بالتأكيد للانحياز لما يضيء المكبوت عميقاً وما أكثره في منطقتنا العربية، وفي سياق تجربتي في روايتين لا ثالث لهما حتى الآن، فإن "الايروتيك" حاضر بقوة في سياق كل منهما على حدة، كأن يلتصق يوسف الرشيد  في "بر دبي" بنورا "أكثر وأعمق وأعنف بها، وكل مسام في جسدها لصق مسام من جسده على وقع تأوهاتها العذبة المدوخة، إلى أن ولجها، ووصلا سوية كل إلى ذروته في تناغم لم يخرج منه إلا بتأوهات مغايرة تماماً، أقرب لصراخ حاد ظن للحظة بأنها تصدر عن امرأة أخرى أو حيوان جريح، مستعينة بالوسادة للتخفيف من حدتها"، للوسادة وتأوهات نورا ما يوظف درامياً في النهاية، كما أن حياة يوسف الرشيد لن تفارق العوالم السفلية لدبي، ويبدو أنني مهووس بالمسامات فسلمى وهي تتلقى الحب للمرة الأولى وترى غسان البراني في رواية الثانية "ديناميت"" مالحاً، رشيقاً، بالخفة الموهوبة للقفز، للفرح الذي أحست به مع غسان من اللحظة الأولى، وأمست من دون عناء، مشغولة بنبشه مساماتها، واستقبال ذلك الذي ينغرز بها كقرن حيوان اسطوري". ختاماً لا أعتقد أن كتابة روايات ايرويتكية ستحل مشكلة الكبت، فهذه المشكلة على اتصال بظروف سياسية واقتصادية واجتماعية، ولسنا في مجال الحديث عنها في هذا المقام، لا بل إننا حتى وإن شهدنا ثورة جنسية سيبقى "الايروتيك" حاضراً ومرغوباً على مبدأ التلصص الإنساني أو الفضول، فكما يريد القارئ معرفة كيف تنام الشخصية أو ردة فعلها اتجاه ذاك الفعل أو غيره، كذلك تكون الرغبة بمعرفة كيف تحب وتمارس هذا الحب