قطعت أحداث العنف المسجّلة داخل وخارج بعض الملاعب الجزائرية، خلال الجولة العاشرة للرّابطة المحترفة الأولى، الشك باليقين بأن سياسة التحسيس والتوعية التي انتهجتها السلطات، منذ وفاة المهاجم الكاميروني لنادي شبيبة القبائل، ألبير إيبوسي، بملعب أول نوفمبر بتيزي وزو، لم تأت بأية نتائج ملموسة، بل تسبّبت في تفاقم الوضع أكثر، حين اقتنع عدد من أشباه المشجّعين بأن الدولة عجزت عن ترويضهم وبأنها تخشى فرض دولة القانون.

لا يمكن اليوم أن نصف النتائج العكسية للسياسة التي اختارتها الوزارة الأولى كعنوان للحد أو القضاء على ظاهرة العنف الذي أصبح شبحا مخيفا يخطف أرواح اللاّعبين والمناصرين على حدّ سواء، سوى بفشل الحكومة في حماية الناس والممتلكات، وهو الفشل الذي يكشف في طياته عديد التجاوزات، أخطرها إدارة السلطات ظهرها لدولة القانون حين رفضت، تحت كل الضغوطات الناجمة عن الكوارث التي تحدث في الملاعب الجزائرية في كل جولة وكل موسم، اعتماد الحلّ الوحيد الذي يفرض نفسه بقوة وهو ردع الخارجين عن القانون لحماية من هم يحترمون دولة القانون.

والغريب أن السلطات تعرف جيدا أن القانون وُجد ليُطبّق على الجميع دون تمييز، وهي تُدرك أيضا أن تحييده وتبنّي إجراءات أخرى بعيدا عن القانون لمعالجة الظاهرة، هو في حدّ ذاته ضرب لمصداقية دولة القانون، وهو أيضا رسالة واضحة لكل المشاغبين بأن الدولة، التي تستثمر في الكرة لشراء السلم الاجتماعي، لا تملك الشجاعة الكافية لإسقاط كل الحساسيات والمخاوف، لردعهم وردع أنديتهم بسلطة القانون، لأن السلطات تخشى ردّة فعل الجماهير التي حوّلت العنف إلى حرب عصابات وحرب شوارع، ويمكن لها بسهولة أن تجعله غدا فوضى تهدّد أية منطقة في الجزائر.

الحملات التحسيسية والمغامرة بالعائلات في ملاعب “تسمع فيها ما لا يرضيك من عبارات نابية”، وفي شوارع تستقبل عصابات الاعتداء بـ«السينيال” والألعاب النارية على المواطنين، صورة كاريكاتورية تعيسة تعكس الهروب إلى الأمام للسلطات التي ترفض الاعتراف بأنها “علامة تجارية مسجّلة” في إنتاج الشغب والمشاغبين في الجزائر، وبأنها “المالك الحصري” لتسويق كل ما هو سلبي عن الجزائر ويسيء إلى كرتها وجمهورها ومسؤوليها وسمعتها أيضا.

تغليب منطق “قانون الغاب” على “دولة القانون” هو ضربٌ تحت الحزام للجماهير العاشقة للكرة وللمناصرين المثاليين والمواطنين الذين ينتظرون، منذ أمد، تحمّل الدولة مسؤولياتها ووضع حدّ لسياسة جعلتهم ضحايا شراء السلم الاجتماعي رغما عنهم، كون “الخارجين عن القانون” أضحوا أقوى من الدولة وقوانينها، والسلطات تتفرّج دون أن تشعر بالحرج أو تعترف بالفشل، وتعلن بأن الملاعب والشوارع المؤدية إليها تحوّلت إلى “مفرغة عمومية” للعنف والإجرام لكل شاب ناقم على حياته الاجتماعية المزرية، وعلى عدم اهتمام السلطات بشكل فعلي وعملي بانشغالاته، حتى تضمن تأجيل “انفجاره” ولو إلى حين.

وقالت يومية الخبر إن المضحك المبكي في لعبة “القط والفأر” بين المشاغبين والسلطات، أن وفاة إيبوسي وتداعيات الفضيحة دوليا، جعلت الاعتقاد يسود وسط الجماهير الجزائرية بأنها القطرة التي ستفيض الكأس، وبأن السلطات اقتنعت بأن حالة الوفاة عرّت سياستهم وستدفعهم مرغمين إلى فرض الإجراءات العقابية دون تمييز على الجميع، غير أن عامل الوقت الذي تستثمر فيه السلطات بدرجة امتياز كان كفيلا بطي صفحة إيبوسي في هدوء، بعدما زال مفعول الصدمة، ليعود العنف من أوسع الأبواب سيّدا في الملاعب الجزائرية وخارجها، ويُسقط بالضربة القاضية سياسة التحسيس التي انتهجتها الحكومة للتصدي للظاهرة.

وذكرت الصحيفة أن أحداث العنف والشغب التي تخللت المباراتين المحليتين، بين شباب بلوزداد ومولودية الجزائر، مساء السبت، بملعب 20 أوت، وكذا بين مولودية وهران وأولمبي الشلف، بملعب أحمد زبانة، للمرة الألف، كشفت عن خلل واضح في المنظومة الأمنية الخاصة بتأمين ملاعب كرة القدم في بلادنا، وتحمل مصالح الأمن الجزائرية جزءا غير يسير من مسؤولية تفشي العنف فيها. عشرات الألعاب النارية الخطيرة بشتى أنواعها سربت إلى ملعب 20 أوت بالعناصر، بعيدا عن أعين أعوان الشرطة المكلفين بتأمين المباراة، وتحولت لأسلحة تقاذفها أنصار الفريقين قبل دقائق عن صافرة النهاية، ما خلف عديد الإصابات وسط المشجعين، في وقت تحولت العمارات المقابلة غلى شبه منصات لصواريخ انطلقت منها “قذائف” وجهت بعناية للملعب، الأمر الذي دفع الحكم بيشاري لتوقيف المباراة في أكثر من مناسبة، لخوفه على حياة وسلامة اللاعبين.

قبل هذا، كانت الشوارع المحيطة بملعب 20 أوت 55 مسرحا لحرب شوارع بين سكان العمارات وأنصار مولودية الجزائر، استعملت خلالها إشارات البواخر “السينيال” بكثافة، وخلفت بدورها عديد الإصابات وتحطيم عديد السيارات، دون أن تتمكن مصالح الأمن من توقيف أي شخص من المتسببين في هذه الفوضى.

وحسب الصحيفة فقد برر مصدر أمني هذه التجاوزات بتراجع عدد أفراد الشرطة المكلفين بتأمين المباريات، بسبب السحب “المؤقت” لعناصر وحدات الجمهورية للأمن، منذ الإضراب الأخير، من العمل في الملاعب وتوكيل أمن الدائرة بذلك، فيما فسر أحد أعوان الشرطة كان حاضرا بملعب 20 أوت 55 السبت الماضي، الأحداث بانعدام شروط الأمن في الملعب العتيق، وضرب المثل بأسواره “القصيرة” التي يمكن تسريب أي شيء عبرها. والمتعارف عليه أن مصالح الأمن تجند من 300 إلى 1500 عون أمن لتأمين مباريات كرة القدم على حسب أهميتها وحساسيتها، ويخضع المتفرجون لعملية تفتيش دقيق عند الدخول في مناسبتين من طرف عناصر وحدات الجمهورية للأمن، كما يسهر عناصر الشرطة القضائية على توقيف أي عنصر مشتبه به. كل هذه الإجراءات لم تحد من تسريب الألعاب النارية المحظورة إلى ملاعبنا، كما كان الحال في مباراة السبت بين الشباب والمولودية، ما يعد فشلا ذريعا للمنظومة الأمنية ويجعلها طرفا في فشل مختلف الحملات التي رفعتها السلطات الجزائرية من أجل محاربة ظاهرة العنف.

مسؤولية مصالح الأمن لا تقتصر على الفشل في الحد من تسرب هذه “الأسلحة المحظورة” إلى ملاعبنا، بل امتدت إلى عجزها عن محاربة هذه الآفة في منبعها، وهو سوق “جامع ليهود” بالعاصمة. السوق الذي تخزن فيه هذه المحظورات بعد أن تحول إليه عبر حاويات البضائع من ميناء الجزائر. سوق “جامع ليهود” الذي تباع فيه هذه “الأسلحة “ بأثمان باهظة بداية بما يسمى “السينيال” الذي يتراوح ثمنه ما بين 600 و2500 دينار، و«البوق” الذي يباع بـ 1500 دينار، فيما يتراوح ثمن “الفيميجان” ما بين 1000 و800 دينار، وهي التجارة الرائجة بقوة في السنوات الماضية لعوائدها المالية الكبيرة وكثرة الإقبال عليها من طرف عصابات احترفت الإجرام، في وقت تأخذ مصالح الأمن موقف المتفرج.