المشهد ذاته يتكرر والسيناريو ذاته يتكرر وكأنما الليبيون، لم يعد لهم أن يستيقظوا من حلم أليم، حلم أدمى قلوبهم وأبكى عيونهم وروى تراب أرضهم بدماء الشهداء الطاهرة إلى حد الكفاية ويزيد، حيث أفادت مصادر ليبية، الأحد 06/06/2021، بمقتل 4 أشخاص، وبحسب مصادر أمنية، وقع الانفجار عندما فجر انتحاري سيارة ملغومة عند نقطة التفتيش بمدينة سبها الواقعة جنوب ليبيا. 

وقالت المصادر الأمنية والطبية في سبها، إن أحد القتلى هو ضابط كبير بالشرطة. وقد تبنى تنظيم داعش العمل الإرهابي، ليؤكد التنظيم، إجرامه ووحشيته وتستره بالدين الإسلامي السمح وهو منه براء ومدى تورطه بتنفيذ الأجندات الأجنبية التي تهدف إلى تدمير ليبيا ودول المنطقة تمهيداً لإخضاع شعوبها للهيمنة الاستعمارية.‏ 

ومن المؤكد أن هذا التفجير الانتحاري لن يكون الأخير مثلما هو ليس الأول، ما دامت جعبة معشر المتآمرين زاخرة بمختلف وسائل الدعم والقتل والتدمير، وبالتالي لم تكن هذه الموجة الإرهابية مفاجئة، لأن زمن المفاجآت ولَّى بعدما سجلت المؤامرات حضورها المبني على الإرهاب والفوضى والتدمير والتفتيت والتقسيم والهيمنة على مصادر الثروات والتحريض بين الشعوب وزرع الفتن ونهب مقدراتها، وافتضاح أكاذيب الديمقراطية وحقوق الإنسان والحريات وتطلعات الشعوب وغيرها من الترهات التي توضع في غير سياقاتها الحقيقية بهدف محاولة تأمين غطاء شرعي للمؤامرات الإرهابية الاستعمارية.

وفي ظل هذه الأجواء الملغمة بالتآمر والإرهاب والفوضى والتدمير والتقسيم والحماقات وغيرها، لم يعد هناك ما يمكن استبعاده من لائحة الاحتمالات الواردة في قاموس معشر المتآمرين على ليبيا ودول بالمنطقة، كما لم يعد ما يمكن التعويل عليه في رؤية صحوة ضمير في زمن يشكو من موت الضمائر وضياع القيم والمبادئ والأخلاق، أو رغبة في التخلي عن سياسة التبعية والانبطاح للمستعمِر الغربي المتآمر. ولهذا ـ كما قلنا آنفًا ـ لا مفاجأة ولا اندهاش أن نشهد تصعيدا إرهابيًّا على جميع الجبهات التي امتدت إليها أذرع إرهابهم. صحيح أن لا أحد يمكنه محاكمة "داعش" وكل المنظمات الإرهابية كونها منفلتة من كل كونترول، ومزروعة لأهداف مرسومة، عندما لم تصل إلى غاياتها، وتفشل حتى في الميدان العسكري، يحركها الداعم والمشغل للانتقام من الناس، لقتل أكبر عدد منهم، لسحق جماجمهم التي لم تطأطئ إلا لخالقها. في كل بساطة إذن، يصنع الإرهاب مذبحة في أي مكان تصله يده، هو لا يتحرك في مكان كان آمنا طوال سنوات من الأزمة، إذ لا يروق لهذا المشغل أن يرى نسمات هواء صحية تنعش فؤاد الليبيين وهو الذي صمم أن يحول حتى الهواء إلى ملوثات لا تبقي أحدا.

إنّ التفجير الانتحاري الإرهابي بسبها، جاء مسبوقاً بحملة شحن إرهابية في الإعلام والسياسة والتحشيد والتحريض عبر قنوات تبث الكراهية وتستضيف شيوخ الإرهاب، كان واضحاً أنه يشي يما حصل، وكان يؤشر إلى الاتجاه والوسيلة والطريقة حتى لو اختلفت بعض تفاصيله، أو تباينت مناطق استهدافه، أو تعدّلت بعض مظاهره الدالة عليه، لكنه كان هو ذاته الذي اعتدنا عليه مع ذروة الفشل ومع قمّة العجز، ومع لحظة فاصلة بين جولة مدّ تركية في ميدان الإرهاب وحلقة توكيل إضافي للإرهابيين ومُشغّليهم مع البعض الدولي الذي لا يزال يراهن على مزيد من الصفقات المشبوهة ولو كان إلى حين.‏ 

وبعيدا عن التحليلات المصحوبة بالتشنج واستقدام عدو جاهز من الذاكرة لكي نستريح من عبء المواجهة والتفكير في أساليب جديدة تواكب تطور إمكانيات العناصر الإرهابية التي تفوق كثيرا أفكار من يتصدرون الفضائيات، ويطلقون على أنفسهم محللين عسكريين أو استراتيجيين يجمعهم مقدمين لبرامج (توك شو) لا تحمل أدمغتهم إلا التضليل أكثر ما تحمل من رؤية إيجابية للأحداث المرعبة... وهذا ما تابعناه خلال التفجير الانتحاري الذي شهدته مدينة سبها الليبية.

فهذه الجريمة تأتي استكمالا للجرائم السابقة التي ارتكبتها عصابات تنظيم "داعش" الإرهابي على الأراضي الليبية، واستهدفت فيها كل فئات الشعب الليبي وبخاصة الأبرياء العزّل، والأكيد أنّ رسالة التفجير الانتحاري بسبها، أسهب باسترجاع تفاصيل داعش والتفجيرات، لتصل الرسالة إلى بايدن قبل المنطقة بأن (التصعيد وإعادة الأدوات) هو عنوان المرحلة بخاصة أن التفجيرات الإرهابية في ليبيا كادت أن تغيب عن المشهد، لكن المطالبة بخروج القوات والميليشيات والمرتزقة استوجب عودة فزاعة داعش ...فالتفجير الانتحاري تحد وقح ليس أمام حكومة الوحدة الوطنية فحسب، بل وأمام المجتمع الدولي برمته الذي سبق له أن أعرب بوضوح عن موقفه الجماعي الداعم للوحدة الوطنية الليبية، والسبل السياسية لحل النزاع في ليبيا، بموازاة محاربة الإرهاب بلا هوادة وفق قرارات مجلس الأمن الدولي وبيانات المجموعة الدولية لدعم ليبيا.

إن استباحة دماء الليبيين، على هذا النحو المنافي لكل الشرائع السماوية والقوانين والأعراف الدولية، والخارج عن الأخلاق وحرمة الدم، فرَدَتْ مع الوقت ـ ومنذ تفجير مخطط تمزيق ليبيا ـ صفحات من الادعاء والافتراء امتهن التركي ومن تحت عباءته تقديم لغات عائمة لا تستند إلى أدلة أو مرتكزات وأسانيد تؤكد صدق ما يخطه على صفحات الادعاء والافتراء، فيما مساحات النفاق تتسع باتساع رقعة الدم المراق ظلما وعدوانًا على الساحة الليبية، ليكون الإخراج التركي للمشهد الليبي بمحورَيْهِ "إرهابا متطرفا وإرهابا معتدلا" أبرز عنوان للدجل تمارسه تركيا وبعض الدول الغربية وذيولها، وأكبر كذبة تدحرجها لتجريف الوعي لدى عوام الناس وبسطائهم. وأمام هذا الدجل والكذب والنفاق المحض، تحاول الدبلوماسية التركية ومن معها من حلفاء وذيول سد ما بقي من الثغرات بالثرثرة عن الحل السياسي وتوظيفها أسلوبا ملائما لخداع حكام ليبيا الجدد وحلفائها، لهدف ليس عدم إرادة الحل فحسب، وإنما لتعويم ما تأبطته السياسة والدبلوماسية التركية والغربية من إرهاب تمتشقه سلاحا لنحر الخصوم واستنزافهم.

إن العمل الانتحاري الاجرامي بسبها، يكشف عن تدشين لمرحلة جديدة يقوم بها معسكر التآمر والإرهاب في ليبيا، في ظل معطيات كثيرة تشير إلى أن المايسترو التركي الذي بات يمتلك لياقة كبيرة في الرقص على كل الحبال يتلذذ ويستمتع بالأدوار التي تقوم بها منتجاته وأدواته في ليبيا، وتستطيع تركيا أن تدافع عن جماعاتها ومرتزقتها وإرهابييها كما تشاء... وأن توفر الحماية الأمنية والسياسية والدبلوماسية والبروتوكولية... وأن تحول دون تصنيفهم في لائحة التنظيمات الإرهابية، وبمقدورها أيضاً أن ترعى مُشغّليهم وأن تغض الطرف عن أدوارهم الخطرة التي تهدد الاستقرار، ليس في المنطقة فقط، بل وفي العالم كله، وأن تدير ظهرها إلى كل المبادرات والطروحات، وأن تدفن رأسها في الرمال تعامياً عن الحقائق وعن المجازر البشعة والمروّعة التي يخلّفها إرهاب هذه المجموعات الإرهابية... لكنها لن تستطيع أن تتجاهل أن هذا الإرهاب المسلط اليوم على ليبيا، هو نتاج سياستها، وأن دماء الأبرياء الذين سقطوا ستبقى عالقة في أعناقها قبل غيرها، وأنها تتحمل أكثر من سائر أدواتها ومُشغّلي الإرهاب الإقليميين ورُعاتهم الدوليين المسؤولية المباشرة، ولن يكون بمقدورها بعد اليوم أن تحاجج في استقامتهم ولا في شواهد إرهابهم، ولا أن تبرر تسويفها ولا أن تُعلل رفضها لعدم خروجهم من ليبيا. 

خلاصة الكلام: في تجارب المواجهة مع الإرهاب، كانت إرادة الليبيين تزداد، وتصميمهم على المواجهة مع الإرهاب يرتفع، واليوم تمضي هذه الإرادة لتقول ما يجب أن يقال بعيداً عن رتوش السياسة وعن تعاليم الدبلوماسية ونعومة التعابير الفضفاضة، أو تلك المرتبطة بمقتضياتها، بأن أولوية مكافحة الإرهاب التي ارتجّت في بعض جوانبها نتيجة مماحكات السياسة لا بد أن تعود إلى موقعها وموضعها في صدارة الهمّ والاهتمام، مع ما تتطلبه التطورات الأخيرة من إضافات نوعية على وجودها وحضورها، بحيث تتحول إلى معركة مفتوحة لا تحدّها مداولات السياسة الكاذبة، ولا وعود التفاهمات الواهمة، حيث لا فرق بين داعش والجماعات الإرهابية المنتشرة على أرض ليبيا، وكل من يحمل السلاح مهما تكن الذرائع، فالنيات الطيبة لا تحارب الإرهاب ولا تجابه مُشغّليه ورُعاته، ولا حديث مع الإرهابيين إلا ما يقوله السلاح، وغير ذلك سيكون مجرد ذريعة للتسويف حتى إشعار آخر، وربما مبرراً لمزيد من أعمال الإرهاب، وقد يكون أيضاً فسحة إضافية للتنظيمات الإرهابية كي توغل في إجرامها، ومساحة لـمُشغّليهم لمزيد من القتل والدمار والخراب بوكالة تركية... تم تجديد صلاحية استخدامها، وإعادة ترميم ما أصابها من تهتك وعطب بعد أن تباينت الأولويات أو اختلفت المقاربات أو تواجهت الحسابات والمعادلات بين الـمُشغّلين ورُعاتهم الدوليين.‏