سيُقبل المغرب بتاريخ 8 شتنبر 2021 على تنظيم الاستحقاقات الانتخابية التشريعية ثم الجماعية في آن معا، وستتنافس الأحزاب على أصوات أزيد من 15 مليونا و746 ألفا من المسجلين باللوائح الانتخابية، والتي تجرى في ظل تداعيات تفشي فيروس كورونا، غير أن السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح، هنا، في إطار علاقة الانتخابات بالمواطنين، يمكن صياغته وطرحه على الشكل الآتي: لماذا هاجس العزوف يؤرق الدولة والأحزاب المغربية؟ 

الواقع أن أزمة المشهد الحزبي في المغرب هي ترجمة فعلية لحالة البؤس التي تعرفها الممارسة السياسية عموما، فقد أضحى مفهوم السياسة في وعي المغاربة الجمعي مرادفا للخداع والتضليل، حيث توارى الوازع الأخلاقي بشكل غريب في مواقف الفاعلين السياسيين وسلوكاتهم. للأسف، فالأحزاب المغربية، لا تهمها مسألة المشاركة السياسية إلا في زمن الانتخابات لجمع الأصوات وكسب  المقاعد، وهي نفعية ترسخ الاعتقاد الشعبي بأن الأحزاب بالمغرب تحولت إلى مجرد دكاكين سياسية لكيل الوعود وبيع المتمنيات، والشاذ في الأمر، أنها لم تستغل التطورات التي عرفها المغرب خلال السنين الأخيرة، ولا حتى الأحداث الجارية في العالم، من أجل تطوير خطابها وطرق تواصلها مع المواطنين، فالخطاب الحزبي بالمغرب، لم يساير مستوى التطور الحاصل إزاء ظاهرة تناول الشأن السياسي بالبلاد، بسبب الاستعمال المهول لمنصات التواصل الاجتماعي على مختلف أصنافها، بل على العكس، ظل خطاب الأحزاب المغربية، متخلفا، مهمشا، عاجزا عن مسايرة الإيقاع، موغلا في التقليد، يستقي مادته من قاموس متجاوز، لا يمكن بأي حال المراهنة عليه من أجل  حمل المواطنين على الاعتقاد  بأهمية الفعل السياسي ودفعه بالتالي إلى  المشاركة في الاستحقاقات الانتخابية القادمة. 

وبالرغم من أن الهيئات السياسية، وخصوصا الأحزاب التقليدية (الكبيرة) لا تخلو من نخب مثقفة وأطر فاعلة، فإنها لم تتمكن من تجديد خطاباتها السياسية، والتفاعل الإيجابي مع القضايا الاجتماعية، والتأثير المباشر في مختلف النقاشات التي يعرفها المجتمع، والتعبير بكل حرية واستقلالية عن مواقف تخص مختلف الملفات المطروحة استنادا طبعا إلى إيديولوجية كل حزب وخطه السياسي ورؤيته المجتمعية... ذلك أن معظم الأحزاب المغربية فقدت هويتها، ولا تمتلك أي مشروع مجتمعي، لأنها في الغالب الأعم تهتم بنيل رضا السلطة أكثر مما تعنى بانتظارات قاعدتها الانتخابية والمتعاطفين معها، ولأن همها الأساسي هو الحصول على المقاعد، فإنها باتت تتسابق على استقطاب الأعيان، بينما يتوارى المناضلون الحزبيون الذين تدرجوا في أجهزتها إلى الهامش، وهو ما يساهم في مزيد من النفور وعدم الثقة في العمل الحزبي. والسؤال الذي يفرض نفسه في هذا السياق: 

لماذا فقد المواطن المغربي الثقة في الأحزاب المغربية؟

لقد تضافرت مجموعة من العوامل، أغلبها ذاتي يرتبط بالسلوك السياسي الحزبي نفسه، وبعضها موضوعي فرضته إرادة السلطة ودورها في توجيه المشهد الحزبي والتحكم فيه، وهو الأمر الذي حول أغلب التشكيلات الحزبية إلى كراكيز وديكورات لتأثيث المشهد السياسي، أما فيما يتعلق بمسؤولية الذوات الحزبية، فإنها تتجلى في مجموعة من المؤشرات منها:

1 ـ غياب الديموقراطية الداخلية، حيث أغلب الأحزاب يحكمها منطق "الشيخ والمريد" وما يترتب عنه من تأبيد للزعامات والقيادات التي تتحول معها بعض الأحزاب إلى ضيعات مملوكة.

2 ـ التنافس على استقطاب الأعيان والنافذين (الماكينات الإنتخابية)، وذلك بسبب غياب تجديد النخب، والسباق المحموم من أجل نيل المكاسب التمثيلية في الإستحقاقات الإنتخابية، وهو ما يغذي الإسترزاق الإنتخابي ويشرعن الترحال السياسي بين الأحزاب عند اقتراب كل موعد انتخابي لنيل التزكيات.

3 ـ تراجع دور الأحزاب في تأطير وتكوين المواطنين خصوصا على مستوى الشبيبات الحزبية ودوائر المرأة فيها، وهو ما لا يسمح للشباب بالإنخراط الحزبي الفاعل والمسؤول.

4 ـ تخلي الأحزاب عن وظيفتها في القيام بدور الوساطة بين مؤسسات الدولة والمجتمع، حيث تنأى بنفسها عن الخوض في كل ما من شأنه أن يزعج السلطة أو يثير غضبها في كثير من القضايا.

علينا أن نكون منصفين، فعدم الثقة في الأحزاب المغربية، ليس نتاج اللحظة الراهنة، بل هو وليد تراكمات باتت في العقل الجمعي للمغاربة، نتيجة اتجاه السياسيين إلى إطلاق الوعود الانتخابية في إطار المزايدات السياسية ورفع السقف لجلب الناخب، وذلك دون تقديم عرض سياسي عقلاني يتعاقد عليه مع الناخبين وتحديد الأولويات بناء على إمكانات الدولة، وهذا ناتج عن مجاراة المد الشعبوي وتنميط الرأي العام واتجاه بعض القيادات الحزبية إلى إطلاق الوعود دون أن تملك خطة لتطبيقها، مما ولد إحباط لدى الرأي العام، وتوسيع هامش جهله في التعاطي مع السياسيين وفق قوالب جامدة.

إن العشرية الأخيرة مع أهمّية المنجز الدستوري لسنة2011 الذي وضع أسس للمؤسسة، والتي وجدت صعوبات في تحويل الأحزاب من أحزاب الأفراد إلى أحزاب المؤسسة، وتفاقم هذا الوضع إلى جانب التراشق الحكومي، كل ذلك أثر سلبا على صورة السياسية والسياسيين، هذه المعطيات وجب تأملها بغية تجاوزها في اتجاه وجهة حزبية تسير في اتجاه تغيير الصورة النمطية، وذلك عبر تقديم كفاءات سياسية، مما يجعل الانتخابات القادمة فرصة لتعزيز مشروع الانتقال الاقتصادي الشامل والمستدام. ويمكن معه مواجهة شيوع أجواء التشكيك وانعدام الثقة بين الفاعلين السياسيين، إضافة إلى صعود العصبية الحزبية على حساب مراعاة الصالح العام، وهيمنة الخطاب الحزبي المشحون بالعنف اللفظي ومتلازمة إقصاء الآخر... مما يكرس شيوع أجواء اللايقين من الحاضر والمستقبل، وإن تكريس الخيار الديمقراطي الصحيح له مسار طويل وشاق، ويفترض بالضرورة الدخول إلى مرحلة التنمية لكي يحس المواطن بقيمة الديمقراطية، ولكي يتحقق هذا ينبغي أن تكون اللحظة الانتخابية هي لحظة لتقديم حلول إجرائية وواقعية، وفق جدولة زمنية محددة... ودون ذلك لا يمكن أن نواجه حملة التشكيك التي أنتجت مواطنا قلقا، كما أن هذا المعطى يفاقم من جو العزوف الانتخابي بخاصة لدى الفئات الشابة وعموم المواطنين عن الفعل الحزبي.

وعليه يمكن القول إن الاستحقاقات الانتخابية القادمة ينبغي أن تكون محكاً لتنزيل مشروع الانتقال الاقتصادي الشامل والمستدام، ومعالجة الملفات المهمة، وتوفير البيئة المناسبة للاستثمار ومكافحة الفساد والبيروقراطية، فلم يعد مسموحا أن يخلف المغاربة موعدهم مع الانتخابات، حيث يتطلع الجميع إلى إفراز مؤسسات منتخبة جديرة باحترام المواطنين ومتجاوبة مع تطلعات العهد الجديد. وقد بلغنا، كما يقول الملك محمد السادس، في خطاب 20 غشت "مرحلة لا تقبل التردد أو الأخطاء، ويجب أن نصل فيها إلى الحلول للمشاكل التي تعيق التنمية ببلادنا"، بمناسبة افتتاح الدورة الأولى من السنة التشريعية الثالثة من الولاية التشريعية العاشرة الجمعة 12 أكتوبر 2018، كان خطاب الملك، وهو يعلن باسمه الشخصي وباسم كل المغاربة في كل مكان من المغرب، الملل الجماعي والعياء التام والكامل من الانتهازيين، ومن الذين يريدون من المغرب أن يعطيهم فقط، ولا يريدون بالمقابل أن يعطوه شيئا.

المغرب "يجب أن يكون بلدا للفرص، لا بلدا للانتهازيين، وأي مواطن، كيفما كان، ينبغي أن توفر له نفس الحظوظ، لخدمة بلاده، وأن يستفيد على قدم المساواة مع جميع المغاربة، من خيراته، ومن فرص النمو والارتقاء "هكذا تحدث جلالة الملك، وهكذا التقط المغاربة العبارة بكل الوضوح التام والكامل وفهموا المغزى منها والمراد من قولها وعرفوا أيضا المعنيين بها... المغرب "يحتاج، اليوم، وأكثر من أي وقت مضى، إلى وطنيين حقيقيين، دافعهم الغيرة على مصالح الوطن والمواطنين "هكذا شدد الملك على حاجة المغرب أيضا "إلى رجال دولة صادقين يتحملون المسؤولية بكل التزام ونكران ذات". لذلك يبدو الرهان اليوم واضحا للغاية، غير قادر على مداراة نفسه: المغرب محتاج للقادرين على الدفاع عنه، المستعدين لبنائه وتنميته والصعود به، المفتخرين بالانتساب إليه، المصارحين بحقائقه كلها صعبها وسهلها، حلوها ومرها، لكن المنتمين له لا إلى أي مكان آخر. لا ننكر أن العثور على هؤلاء الصادقين هو عملة صعبة في زمننا هذا... ولكن نعرف أن المغرب هو بلد كفاءات، وبلد شباب وبلد وطنيين مواطنين قادرين على إبداع كل الطرق والحلول للنهوض ببلادهم والسير معها جنبا إلى جنب في كل مراحلها، وأساسا في مرحلتها الجديدة المقبلة.

إن قدر المغرب ليس أن يبقى رهينة الذين يقفلون على الكفاءات المخلصة والمحبة لوطنها منافذ الطموح والمسؤولية في بلادهم، وهم من جعلوا الانتخابات وسيلة اغتناء عوض أن يجعلوها وسيلة خدمة للمواطنين والمواطنات، وهم سبب حقيقي من أسباب بقاء المغاربة غير مستفيدين من كثير الإصلاحات التي وقعت في المغرب، رغم أهمية هذه الإصلاحات وثوريتها وعدم تحققها في بلدان أخرى... والثابت اليوم، أنّ هناك جبهة سياسية بدأت التوحد والتكتل سياسياً ضد العدالة والتنمية، على الرغم من تباين روى القوى السياسية المشاركة فيها، ولقد ظهر ذلك في التصويت على القانون الإطار وقانون القنب الهندي كذلك، ثم التصويت على القاسم الانتخابي، كما أن هناك معارضة شعبية ضدها بدأت تتنامى وتتسع، ويبدو أن الوقت قد حان لتأخذ العدالة والتنمية حجمها الطبيعي المتناسب مع عدد أعضائها والمتعاطفين معها الذين لا يتجاوز عددهم 5 في المائة من عدد المشاركين في الانتخابات، ولا يمكن أن يبقى هذا الحجم مهيمنا على مجلس النواب، في وقت تعرف العدالة والتنمية تطاحنات تنظيمية كبيرة بين أجنحتها، كما أن دور الإسلام السياسي قد تراجع دولياً وإقليميا، ومن المعلوم أنها تتاثر سلباً بهذه الأوضاع وبالمحيط الإقليمي، وهذا كله ينذر بانفجار تنظيمي!؟

لأجل كل ما سبق، فتوقعاتي أنّ معدل المشاركة السياسية في الانتخابات القادمة، لن يختلف عن سابقه، وقد يتحسن قليلا، ليس ثقة في الأحزاب، ولكن بالنظر إلى الحياد الإيجابي الذي ستلعبه الدولة، من خلال حث المواطن على المشاركة، وهنا أؤكد أنني لست صحفياً عدميا، ولا أتبنى الطرح العدمي من الأساس، لكن الموضوعية تلزمني بقول الحقيقة كما أراها وأقدرها، كما أن نقد الأحزاب ليس بدعة جديدة في مشهدنا السياسي المغربي، فقد سبقنا إلى ذلك الملك محمد السادس في العديد من خطبه، لذا فما نقوم به اليوم، هو من باب محاسبة الأحزاب، على أدوارها المسطرة بوضوح في مقتضيات المادة 7  من الدستور. 

فالتحديات الانتخابية المقبلة، تتطلب من الأحزاب أن تحدث قطيعة مع واقع السلبية واللامبالاة التي ميزت الاستحقاقات السابقة، وأن تعمل لتأمين الشروط الضرورية لاسترجاع الثقة في العمل السياسي وإعادة الاعتبار لسؤال السياسة والمشاركة الانتخابية، والسبيل إلى إقناع المواطنين بأهمية الانخراط الملتزم والواعي في المحطة الانتخابية التشريعية والجماعية القادمة، بهدف رفع تحديات التنمية، وتوفير شروط المشاركة الواعية لتحصين وتعميق الاختيارات الوطنية الأساسية، المتمثلة أساساً في البناء الديمقراطي عبر الإصلاحات المؤسساتية والدستورية الضرورية، باعتبار هذه العناصر مقومات جوهرية لإحقاق العدالة الاجتماعية، كما يتعلق الأمر هنا بكسب رهانات التنمية المستدامة عن طريق نهج  الحكامة الجيدة والانخراط المسؤول والواعي للمواطنين في تحديد البرامج وتنفيذها وتقييم نجاعتها ومراقبة مردوديتها... عدا ذلك، فإننا سنسير قدما إلى نسب مشاركة متدنية في الاستحقاقات القادمة، ما سيؤثر لا محالة على مشروعية المؤسسات التي ستفرزها صناديق الاقتراع.