عانى المجتمع الليبي وبعض شرائحه الأكثر فقراً وتهميشاً من  أزمات متعاقبة خاصة على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي.

 فمن جهة، كان العامل الاقتصادي متراجعاً منعكسا على واقع الفرد الليبي، وبخاصة بعد مجيء حكومات انتقالية متعاقبة خلّفَت وراءها تراكمات وتناقضات اجتماعية عميقة بسبب السياسات الاقتصادية والقرارات الارتجالية التي انتهجتها بعد العام 2011.

 إذ  خسر الشعب الليبي أعواماً من التنمية والنمو الاقتصادي في مستويات التعليم والصحة والعمل، بسبب تعرض القطاعات الإنتاجية للدمار الكبير، وأصيب الاقتصاد بعجز الميزان التجاري، وارتفاع معدل البطالة والدين العام من الناتج المحلي الإجمالي، بسبب الأعمال الإرهابية.

مع وصول الحكومة الليبية الإنتقالية ساد مناخ من التفاؤل بتعافٍ تدريجي للاقتصاد الليبي على وقع الخطوات المُتخذة ضمن المسار السياسي، عبّرت عنها تقارير مؤسسات دولية، من بينها صندوق النقد الدولي الذي أعلن في تقرير آفاق الاقتصاد العالمي الأخير عن توقعاته بتعافي الاقتصاد في ليبيا، وتحقيق نسبة نمو أعلى من 5 بالمئة العام المقبل.

وكان البنك الدولي في أحدث تقاريره عن ليبيا قد تحدث عن "ثمة تفاؤل حذر بشأن جهود التعافي ورأب الصدع، لكن لا تزال هناك مخاطر كبيرة تهدد تلك المساعي".

وفي السياق، يحدد محللون وخبراء اقتصاد ليبيون، أبعاد التوقعات المتفائلة بتعافي الاقتصاد، بعد أن "سجل في معظم العام 2020 أسوأ أداء له على الإطلاق" بحسب تقرير للبنك الدولي، مشيرين إلى أن ارتفاع معدلات إنتاج النفط وكذلك استقرار أسعاره عالمياً من بين أبرز العوامل الدافعة بتوقعات إيجابية، وذلك إلى جانب التطورات السياسية التي شهدها البلد في إطار المسار السياسي.

وتوقّع التقرير أن يبلغ حجم الإنفاق الحكومي في ليبيا أكثر من 71 مليار دينار. وعلى مستوى النمو، تشير ترجيحات الصندوق إلى أن النمو قد يسجل أعلى من 5 في المئة العام المقبل.

وفي تقرير منفصل كشف تقرير البنك الدولي عن بلوغ حجم الدين العام في ليبيا، 207 مليارات دينار بسبب الإنفاق المزدوج خلال السنوات الماضية، أي ما يعادل 450 في المئة من حجم الناتج المحلي الإجمالي.

وتوقعت لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا "إسكوا" ارتفاعاً في معدلات التضخم وفاتورة الاستيراد ونسبة البطالة بين الليبيين كأعلى نسبة في المنطقة، بسبب تدهور أسعار النفط وانتشار جائحة كورونا. ومن المتوقع حدوث انتعاش في 2021 مع بلوغ معدل النمو 3.1 في المئة (انكماش نسبته 3.8 في المئة بحسب السيناريو المتشائم) مع ارتفاع التضخم من 11 في المئة إلى 15.4 في المئة.

في سياق متصل،أصدر الدبيبة، القرار الأول عن حكومة الوحدة، الذي قضى بإيقاف حركة حسابات كل الصناديق الاستثمارية والشركات التابعة لها، والشركات العامة بشكل مؤقت.

وتضمن القرار الذي حمل رقم (1) لسنة 2021، والموجه إلى رؤساء مجالس إدارة الصناديق الاستثمارية والشركات العامة، استثناء ما يتعلق بمصروفات الباب الأول من الميزانية فحسب من القرار، للحفاظ على المال العام، بما يكفل حسن الأداء وضمان القيام بالمسؤوليات والواجبات خدمة للوطن والمواطن، ومن أجل تلافي أية شبهات للفساد والتصرف في أموال الدولة من دون وجه حق.

وطالب رئيس مصرف ليبيا المركزي، والمصارف العاملة الأخرى، بإيقاف أية معاملات مالية مخالفة لأحكام هذا القرار.

وربط مراقبون بين قرار الدبيبة، والضجة الكبيرة المثارة في ليبيا هذه الأيام، حول تقرير ديوان المحاسبة عن التعاملات المالية للحكومات والمؤسسات والإدارات الليبية، طيلة السنوات الماضية، والذي تضمّن شبهة فساد ضخمة تقدر بمليارات الدينارات، بحسب التفاصيل الواردة بالتقرير.

كما بلغ الإجمالي التراكمي للإيرادات النفطية المحتجزة منذ رفع حالة القوة القاهرة نحو 7.76 مليارات دولار متضمنة حقوق الشركاء وحقوق المؤسسة (لا تشتمل الإتاوات والضرائب). وأعرب محللون في النفط والاقتصاد عن تفاؤلهم بهذه الخطوة، مشيرين إلى أن عودة إنتاج النفط إلى الارتفاع وصعود الأسعار العالمية أخيراً يعزز من مالية الدولة الأمر الذي يساهم في تنفيذ المشروعات التنموية لتحسين الخدمات الأساسية.

وبحسب تقرير لمركز الدراسات الاستراتيجية والأمنية الأميركي "ستراتفور" فإن "إنتاج النفط الليبي سيظل على الأرجح مستقراً، وستظل احتمالات الصراع الأوسع منخفضة. وتخطط المؤسسة الوطنية للنفط، لتشغيل حقول بترول جديدة في حوضي "سرت" في وسط البلاد، و"غدامس" في الغرب. كما تعمل على إعادة تشغيل الحقول المغلقة نتيجة الهجمات التي تعرضت لها، إلا أنّ هذه الخطط الطموحة ستعتمد على مدى استمرار السلام، وحصول المؤسسة الليبية للنفط على موازنة كافية لإصلاح البنية التحتية للطاقة. وتعول مؤسسة النفط على شركات الطاقة الأجنبية مثل "توتال"، و"إيني"، و"ريسبول" لزيادة الإنتاج، فيما ينتظر أن تتلقى دعما من حكومة الوحدة الوطنية لتحقيق ذلك، حيث عينت الحكومة الانتقالية وزيرا للبترول والغاز، وهو منصب لم يُشغل منذ سنوات، وقد تولى ممثل ليبيا السابق في منظمة الدول المنتجة للنفط "أوبك"، محمد عون، هذه الحقيبة الوزارية.

الملف الاقتصادي عموماً يتأثر بحالة الاستقرار السياسي في البلد، ولذلك فبسبب انقسام المؤسسات التنفيذية والعسكرية سابقاً حدث أثر سلبي على الاقتصاد، توقف معه تصدير النفط إلى خارج البلاد، وقد بلغ الدين العام 260 بالمئة من الناتج المحلي، كما انعكست التداعيات السلبية الناتجة عن حالة الصراع السياسي والعسكري الاقتصاد الليبي القائم بنسبة تصل إلى 95 بالمئة على الإيرادات النفطية، وانعكس ذلك أيضاً على مفاصل الاقتصاد.

فأبرز العقبات التي تواجه الاقتصاد الليبي، بداية من قضايا الفساد المالي التي حدثت خلال السنوات الماضية، والتي تمثل عقبة أمام الإصلاح الاقتصادي من قبل مجموعة المستفيدين والمتغولين في نهب المال العام بطرق غير مشروعة ويضاف لهذه العقبات مسألة الأمن والاستقرار كمطلبين أساسيين لتعافي الاقتصاد الوطني.

فضلا عن معدل التضخم في الاقتصادي الليبي الذي يعتبر تحديا حقيقيا على طاولة الحكومة ففي حال أحكمت التعامل بضوابط شديدة مع مصرف ليبيا المركزي واعتماد معايير تحد من تفشي الفساد في المؤسسات المالية، وإيجاد بدائل للدخل الوطني العام ومعالجة الترهلات التي أصابت الاقتصاد الليبي خلال فترة حكومة الوفاق الوطني فإنه من المرجح أن يحقق الإقتصاد الوطني قفزة في السنوات القادمة.

إلى ذلك،يرى مراقبون أن الإجراءات التي بدأتها ليبيا ترنو إلى دعم الاقتصاد الذي يعاني من مشكلات هيكلية تفاقمت بسبب الصراع الداخلي والإغلاق النفطي المستمر لمعظم عام 2020، كما أنها تساهم في تعزيز التجارة البينية مع دول الجوار الليبي، خاصة مع مصر، التي قد تساهم بشكل كبير في عملية "إعادة الإعمار" التي تمثّل خشبة الخلاص للاقتصادي الليبي.