تبدو الوظيفة التثقيفية لوسائل الإعلام المرئية المغاربية اليوم محط اختبار حقيقي. فالخلل بين الجانبين، ونقصد الإعلام والثقافة، يبدو أمراً واقعاً إلاّ من بضع إشارات لا تغني المشهد و لا تسمنه، فتلك البرامج لها بعدان لا ثالث لهما: التقريرية والسطحية وهو ما لا يساعد في تحقيق دور تلك الوظيفة التي يفترض بها أن تكون ناقلة للتراث الاجتماعي من جيل إلى جيل. 

قد لا يكون الحديث عن الثقافة حديثاً ممتعاً أو جذّاباً للكثيرين، حتى البرامج الثقافية على الشاشات المغاربية لا تؤدي الغرض المطلوب منها لأنها (كما قال لي أحد الإعلاميين) غير جماهيرية.‏‏ والجماهيرية يُقصد منها البرامج الترفيهية والفنية والأبراج والثرثرة عن الموضة والأزياء ومسابقات الغناء،‏‏ لكن لا بُدَّ من الثقافة... لأنها مقياس من مقاييس رُقي الشعوب وحضارتها وهويتها... لذلك نجد دائماً الكثير من المتحمّسين والمضحِّين في سبيل الأدب والمعرفة... على الرغم من أنهم يدركون أن الأدب لا يُطعم خبزاً وكأني بهم يقولون: لكنه يُطعم جمالاً ومعرفةً وتطوراً.‏ ولاشك أن ثمة من يقول إن الإعلام المغاربي لم يحقق شروط وجوده بالقدر المقبول اجتماعياً. فوظيفتا الإمتاع والترفيه، والإعلان والترويج اللتان لهما صلة عضوية بالثقافة، غير متيسرتين، وبالتالي لا يمكن الحديث عن جزء مفقود في ظل غياب الكل. 

وعلى هذا المنوال فإن البرامج التي تحاكي الثقافة المغاربية تعاني من الرؤية القاصرة نفسها التي أدارت السياسة الإعلامية العامّة لسنوات خلت. على مستوى البرامج الثقافية ذات الطابع الحواري المتخصص، لا يجد المشاهد المغاربي من بدّ في تغيير القناة بعد فترة وجيزة من الزمن بسبب ضآلة القيمة المستنبطة. فالمقدم هو موظف يعمل بوظيفة مذيع أخبار أو في أحسن الأحوال يحمل صفة مقدم برامج لا يمتلك من ثقافة الحوار وأدبياته الحد الأدنى، فهو يسأل ويقاطع ويقطع متى شاء وكأن الذي يتحاور معه موجود برسم إشارته. وهذه الحالة لم تكن موجودة، لكن عدوى تقليد المقدمين على الفضائيات العربية قد انتقلت إلينا كالفيروس دون حساب للخصوصية والحجم المهني للضيف. ويبدو أن الرؤية الإعلامية لم تكن ترى في أهمية البرامج الثقافية دورها الحقيقي في خلق رأي عام مثقف ونوعي وبدت العلاقة بين الاثنين مجرد علاقة تجاور وليست تفاعل... وهو ما أدى إلى خلق مشهد سلبي ومتنافر ما بين الوسيلة الإعلامية وجمهور المشاهدين الذي طالما رغب في نقلة نوعية تسهم في تحديث المفاهيم وتطوير الأدوات لتواكب سرعة العصر وحيوية الحركة الثقافية في العالم التي تستقطب جمهوراً متزايداً لعبت فيه وسائل الإعلام المرئية دوراً بارزاً ومهماً تتسابق الفضائيات لشراء برامج تهتم بهذا الجانب وبثها مرات ومرات.

لقد تراجعت غالبية الفضائيات المغاربية عن تقديم ما يُولي البرامج الثقافية أي أهمية. تلك البرامج التي من المُفترض أن تحتل الحيز الأكبر والأهم، وعلى شاشات أعتقد بأن واجب القائمين عليها يحتِّم تخصيص ولو القليل من الوقت، لرصدِ ما يرتقي بالحياة مثلما بفكرِ المشاهد وثقافته البصرية... لاشكَّ أن هذا ما يُفترض أن تعرضه هذه الفضائيات، ومن أجل أن تزيد وعي مشاهدٍ بات واضحاً بأن ما تحيطه به من برامج ترفيهية وحوارية ودرامية ودينية وسياسية، لا يمكن أن يقوده إلا إلى المزيد من هشاشة الوعي والذهنية السلبية...‏‏


إذاً... ألا يُشعرنا ذلك بأن ما يحصل في غاية الخطورة، وبأنَّ علينا التساؤل مستنكرين: يا ترى... لمصلحة من ارتدَّت الفضائيات المغاربية عن أداء دورها الكامن في التثقيف والتوعية، وبما يغني ذاكرة المشاهد المغاربي ولا يُفقده ما تبقى فيها من صورِ حضارته الحية...؟ لمصلحة من يُعرض هذا الكم الهائل من الأغاني الهابطة، وكذلك من البرامج التي يُعلن بأنها فنية، ودون أن يحمل مضمونها إلا ما تحمله النوايا المتآمرة على فنوننا المغاربية الراقية؟‏ أيضاً... لماذا باتت هذه الفضائيات تُكثر من البرامج الحوارية ! ولتحقيقِ أهدافٍ أولها شغل وقت المشاهد وثانيها شلّ إرادته وثالثها طمس ثقافته بثقافاتٍ أخرى تعتمد على الآراء السطحية وعلى حواراتٍ تتمدَّد دون أن تتجدَّد لتكون نهايتها التراشق بمفرداتٍ تجعل المتلقي يظنُّ الثقافة في تبنّي الآراء العشوائية... أما الأشد استلاباً لثقافتنا البصرية، فهو هيمنة البرامج والأحاديث واللقاءات والفضائيات الدينية التي كلَّما تكاثرت تكاثف أصحابها منصِّبين أنفسهم أوصياء على المشاهد الذي بات واقعاً مابين نار فتنتها ووجوب التزامه برسالتها، ودون أن تمنحه القدرة على فهم ما إذا كانت رسالتها حقَّه أم أنها على سبيل التجارة بالإنسان ومواقفه وآرائه مثلما بالأديان السماوية... 


إذاً.. ولطالما لم يعد هناك شكٍّ بأن استخفاف هذه الفضائيات بعقل وثقافة المشاهد لا يهدف إلا لتوجيهه حسب ما تُملي عليه أجنداتها وأهدافها ومصادر تمويلها، يتوجب علينا المقارنة بين ما ترفعه من شعاراتٍ تُعرِّف بها على نفسها كتوثيقية وتثقيفية وناطقة بالعربية، وبين اعتمادها على تخدير واستلاب عقلِ المشاهد المغاربي ، وبما تقدّمه له من برامج أجنبية مستوردة أكثرها هدراً لوقته وسحقاً لفكره. تلك الأفلام الغربية الشرسة في عنفها ودمويتها ودونيتها مثلما المسلسلات المدبلجة التي لا تمت بصلة لأخلاقياتنا، والتي وكأن الفضائيات الناطقة بها استخدمتها كبديلٍ عن ضائع. أي كهوية مزوَّرة استوردتها خصيصاً لتهدينا إياها ومن أجل أن ننسى هويتنا الحقيقية...‏‏ 

الأخطر... لا يكمن في انعدام سياسة واضحة بهذا الخصوص فحسب، إنما في السياسة المتّبعة الحالية القائمة على بسط نفوذ نوعية إبهار العين و طرح العقل جانباً، و إن حصل وحاولت مخاطبة فكر المتلقي... فإمّا أن تتبع سياسة ( التقشف) الإنتاجي... تنفيراً لهذا المتلقي الصنديد... أو أنها تكرّس أسلوبية التصريح و المجاهرة وصولاً إلى نفور متابعها منها... ما يعني: تحافظ عقلية الفضاء على أن تكون كلمة (ثقافة) مرادف حقيقي لمعاني الصرامة و العبوس و الجدية الزائدة... و هي من أولى أسباب هجر هذه النوعية من البرامج و المحطات إلى أخرى تفعل فعلها في جذب العين.

إن توسيع دائرة الاهتمام بالبرامج الثقافية بالإعلام المرئي المغاربي يحتاج إلى دراسات ميدانية حقيقية واستطلاعات رأي لأوساط مختلفة وشرائح اجتماعية متعددة حول حاجات تلك الأوساط من أفراد وجماعات، ومعرفة المعطيات النوعية التي يتجاوب معها المشاهد المغاربي بهدف سحبه من دائرة الاستهدافات التي تريد جعله أسيراً لمفاهيمها التي بتنا نعاني منها اليوم ونحن نخوض حرباً إعلامية عولمية شرسة تتعلق بوجودنا الوطني. ذلك الوجود المستهدف عبر تشويه العقل المغاربي وتزوير إرادته عبر ثقافة التحريض والفتنة المنطلق بالدرجة الأساس من المنابر الإعلامية الفضائية، والساعي إلى الارتداد إلى الماضي بهدف موضعة المشاهدين بعيداً من الحاضر ومعضلاته، وتغييب كل ما يساعد في تكوين ثقافة إنسانية تعترف بالآخر والتعايش المشترك... 

الأمر الذي يتطلب إعادة صياغة المناهج الإعلامية برؤية جديدة ومغايرة، كما يتطلب جهداً استثنائياً لعلماء ومفكرين وساسة ومخططين وإعلاميين ومثقفين وموجهين ومربين، يساهمون في بلورة ماهية الثقافة النافعة والمبدعة والمستنيرة التي تسعى إلى ترسيخ وعي المشاهد المغاربي بهويته الوطنية والدينية البعيدة عن التعصب والرؤية الأحادية، وتسهم في تحقيق غايات التنمية والحركة الإصلاحية التي انطلقت بهدف رفعة الوطن. وبعيداً عن العوامل الموضوعية التي تعيق تطوير البرامج الثقافية في الإعلام المرئي المغاربي، فإن ثمة عوامل ذاتية تتمثل بتهيئة الكفاءات البشرية التي يقع على عاتقها همّ صناعة تلك الثقافة في وسائل الإعلام، وتوفير الدعم المادي لتمويل إنتاج البرامج والمواد الإعلامية التي نريد تقديمها للجمهور المغاربي في إطار رفيع المستوى من الحرفية والإتقان المهني. والجذب الإعلامي يحتاج أيضاً إلى إسهام القطاع الخاص الوطني في إيجاد الراعي ''مستشهر'' من دور نشر وشركات إنتاج متخصصة وجمعيات غير ربحية تعني بأمور الثقافة، قادرة على النهوض على تحسين صورة البرامج الثقافية، بحيث تصبح قادرة على عكس حال الثقافة والمساهمة في الارتقاء بمستواها إعلامياً.



كاتب مغربي