منذ سنوات وكل الجهود تنصب بحثاً وتنظيراً حول جملة مصطلحات محددة: الإصلاح الاقتصادي، الإصلاح الإداري، التنمية الإدارية، الإصلاح السياسي، الإدارة الاقتصادية، محاربة الفساد، الاستثمار... وجملة أخرى من المصطلحات التي لا تنتهي... وقدم عدد كبير من الباحثين وعبر سنوات منظومة متكاملة من أدبيات الإصلاح الإداري والتوجهات حوله ومقتضياته وكانت في الحقيقة مرجعاً وقاموساً للجهات الوصية وأصحاب القرار، لكنها أهملت جميعها، وكان الأجدى بهؤلاء الباحثين تقديم هذه الأدبيات الهامة إلى جامعات أوروبية أو مراكز بحوث عالية بدلاً من ذهابها في مهب الريح أمام من قدمت لهم، وأنا على يقين أن من قُدمت لهم هذه المنظومة المتكاملة في علم الإدارة هم جزء من المشكلة، بل هم المشكلة ذاتها، ولا أقصد الجهات الإدارية، لأنه والحق يقال إن في الاتحاد المغاربي كفاءاتً إدارية هامة، يستطيع هذا الإطار المغاربي تحمل مسؤولياته، ويستطيع التحرك والمبادرة والقيادة، وقد أثبت الإداري المغاربي نجاحه الكبير في عدة دول عربية وأوروبية وفي كل دول العالم، كما أثبت قدرته وكفاءته ومهارته في أي موقع يحتله في الخارج. إذن. ما هي حدود المشكلة؟‏ 

المشكلة أن ما حدث منذ بدء الخطط التنموية الاقتصادية والاجتماعية هو فقدان التوازن في القطاع الاقتصادي، وتفاقم هذا التوازن مما أدى إلى فقدان التوازن في القطاع الاجتماعي على صعيد الفرد والمجتمع لأن ما يحدث من اختلال اقتصادي واجتماعي ينعكس على المؤسسات في الصميم، وتذهب القيم، وتغيب المصلحة العامة لصالح الفرد، وتضيع الحقوق وتُدان الجدية والفاعلية والنزاهة والصدق، ويصل الإنسان إلى حالة من الاغتراب الكامل عن الواقع وعن الأسرة والمجتمع، ولاشك أن انعدام التوازن الاقتصادي في حقول الصناعة أو الاقتصاد أو الزراعة أو بين متطلبات الإنتاج وحاجات الاستهلاك إنما ينعكس مباشرة انعداماً للتوازن في الحياة الاجتماعية وينعكس هذا على المؤسسات وعلى الدولة التي تعتبر أكبر مؤسسة اجتماعية.

لقد تحكمت هذه المؤثرات بشكل مباشر أو غير مباشر في كافة مفاصل الحياة، فظهر الفساد وانتشرت الرشوة، وفقد القانون سلطته، وفي هذه المعمعة فإن الإصلاح الإداري والاقتصادي ومحاربة الفساد تبدأ أولاً من إعادة التوازن، وإن إعادة التوازن تصبح مطلباً ملحاً عندما يغدو الاختلال ظاهرة شاملة، وهذه القضايا بمجملها قد خلقت شعوراً سلبياً عند المواطن نحو الدوائر الرسمية والإدارات، حتى صارت مراجعة دائرة في شأن هام تشكل هماً حقيقياً لصاحبها الذي يحسب سلفاً أنه سيجابه بالتسويف والتأجيل واللامبالاة... ففي قراءة أولية لمفردات الرؤية الحكومية المغاربية للتفاصيل والمحاور الأساسية للإصلاح والحاجة له في كل الاتجاهات يتضح أن هناك إرادة جدية بالمضي في عملية الإصلاح الشامل لبلوغ النهايات التي يؤمل أن يتم الوصول إليها.‏ 

دعونا نتذكر قاعدة ذهبية تقول: إن المنهج السليم والقويم، يقوم على ثلاثية الظاهر وثقافة الظاهرة ونقد الظاهرة، وهذه الثلاثية هي السر في بناء التجربة المتكاملة حينما نعيها ونلبي فقراتها، وحينما نتجاهلها تحت وطأة مرحلية الظرف الضاغط أو دوافع إثبات الذات أو اعتبارات الحالة الراهنة العابرة، حينما نقع في أسر هذا التجاهل لهذه المنظومة سرعان ما نجد أنفسنا أمام حدث منتكس جارح وغامض الأبعاد، وبهذا المعنى فإن التعامل الأصيل مع الظاهرة السياسية ونقدها وثقافتها يتطلب بالضرورة إطلاق معيارين عليها، أما الأول فهو أن نجري المراجعة على الواقع، نحذف منه ما انتهى مفعوله ونضيف إليه ما استجد من تحولات وأولويات و نعيد تأهيل بعض الشروط والمواد القائمة في واقع التجربة عبر عملية متابعة وتصحيح لا تتوقف ولا تنتهي إن هذا المعيار يدلنا على ذاتنا أولاً ويكشف الواقع أمامنا ثانياً وينبهنا إلى المخاطر ونقاط الضعف المحتملة على المدى القريب والبعيد، وأما الثاني من المعيارين فهو أن نتعامل مع ذاتنا وتجربتنا على أساس أنهما المحور الأهم وأن نفطن إلى أن عالم اليوم كما كان عالم الأمس هو ليس مجرد ذاتيات وخصوصيات إنه قوى بشرية تتناقض وتأتلف، تتفاعل ويتغذى بعضها من البعض الآخر، والافتراق عادة يحدث عند وعي هذه اللحظة.

فالتجربة التي تنقطع عن جذرها التاريخي وامتدادها الإنساني بحيث تصبح محدودة محاصرة هي معرضة للجمود والتآكل بصورة منتظمة إلى أن تقع الكارثة، أما التجربة التي تعتني بذاتها وبتفاعلاتها مع قوى العالم وتطلق معاييرها على أساس الحركة والتطور وسؤالها الأهم هو ماذا فعلنا في يومنا هذا لغدنا الذي لن ينفذ أبداً أي صُغنا معاييرنا بما يجب أن يكون باستثمار ما هو كائن بحيث تكون كل خطوة هي استيعاب السابق ومقدمة للاحق، وهنا تكمن أهمية الثقافة في الظاهرة السياسية والتي لا تسمح بغيابنا عنها، أو بغيابها عنا، وهنا أيضاً تكمن قوة نقد الظاهرة السياسية بحيث نطلق كل الطاقات وكل الآماد في حزمة أو منظومة تبني من الحركة وتصحح من الاستمرار، وعندها لا مفاجأة ولا كارثة تأتي من المجهول، ويحق لنا أن نستطلع آفاق هذه المعايير في تجربتنا السياسية المغاربية وهي كبيرة في أصلها ولكنها عانت من نقص في ثقافة البناء السياسي وعلة أكبر في نقد عملية البناء السياسي. 

وهكذا فالظاهرة الكبرى تعاونت عليها حزمتان من النقص، حزمة نقص الثقافة وحزمة غياب النقد، إن كل ما يجري في البلدان المغاربية الآن هو أمر طبيعي لأنه موقف يناهض موقفاً، وكيف لا يكون هذه الدول موضع الاستهداف وهي التي تتميز بخصائص فريدة في العصر العربي والدولي الراهن، وبتطلعات من شأنها أن تبني في عمق أبنائها ذلك النسق من الاعتماد على الذات واستنهاض الحياة العربية والإبحار في الإقليم وفي العالم بما يؤيد حقها ومشروعها وبما يرد ويردع كل عدوان. 

وعلى الرغم مما سبق، فمازالت الرغبة في الإصلاح بالاتحاد المغاربي موجودة والحاجة إليه ضرورية وماسة، وما زالت القرارات والقوانين التي تهدف إلى الإصلاح تتابع ونأمل أن تتحرك الأمور جميعها إلى الأمام، ولأن الإصلاح والتغيير لا يتم بمجرد قانون، فإن الحاجة ماسة إلى كفاءات بشرية مؤهلة قادرة على التكيف مع متطلبات التغيير ومحاربة الفساد، تملك القدرة على التنفيذ والرقابة والمتابعة كي تتمكن من ترجمة الورقيات إلى عمل، ولاشك أننا سنكون على موعد تقييمي في ظل الخطوات القادمة تماماً، كما ستكون الحكومات على مواعيد تقييمية قادمة لخطواتها لطالما تحدثت بوضوح عن تطوير واعتماد آليات التقييم على النتائج.‏ 



كاتب صحفي من المغرب